فيما امتدت خيوط الفجر على وجه الأرض، وتسرب ضوء الشمس خجولًا عبر سماءٍ رمادية كأنها تخفي شيئًا مروّعًا، بدأ النبأ يتسلّل من بين همسات الريح كأنّه لعنة أُفرج عنها من قبرٍ قديم.
"تمّ العثور على ست جثث في الجهة الشرقيّة..."
تردّد الخبر عبر مكبّرات الأجهزة الإعلامية والهواتف الذكية، لكنّه لم يكن خبرًا عاديًا. ستّ جثث، ممزّقة، مشوّهة، متفحّمة كأنّ من ذبحها لا ينتمي لهذا العالم. خمسة منها تعود لمختبرين تابعين للمنظمة الإفريقية، أمّا السادسة... فكانت لمعلمة تدعى شيماء، وجهها -كما قيل- قد بقي مفتوح العينين، كأنّها حدّقت بالموت ولم تصرخ.
أصدر مجلس مقاومات الإجرام العالمية بيانًا عاجلًا. قالوا فيه إنّهم واجهوا بالفعل ذلك القاتل المأجور، الأسطورة التي كانت تُروى عنها الحكايات في الظلام: تشاي أودجين. وصفوا ما حدث بـ"الاصطدام المدروس"، وألقوا باللوم كاملًا على المنظمة الإفريقية، التي -كما بدا- قد فتحت أبواب الجحيم ثم وقفت تتفرّج.
لكنّ العالم لم يصمت.
في لحظاتٍ، تحوّلت شبكات التواصل إلى ساحات غاضبة. من نيويورك إلى سيؤول، ومن بوينس آيرس إلى جاكرتا، صدح الغضب رقميًّا. كانت هناك نبرة واحدة: المنظمة الإفريقية مسؤولة عن جلب أودجين إلى الأراضي التونسية... لا بل ربّما من حرّضته سرًّا.
خرجت الحشود. ليس في تونس فحسب، بل في قاراتٍ لم تعرف طعم الخوف من قبل. لافتات تطالب بإغلاق المنظمة. مكبّرات تصرخ بأنّ استفزاز العدو قد جلب الدماء إلى أرضٍ لا علاقة لها بالحرب. كانت الشوارع تنبض كأنّها على وشك الانفجار.
وفي أوتاوا، وبين جدران البرلمان الكندي التي لطالما بدت محايدة، وقف الرئيس بنفسه أمام كاميرات العالم، وقال بصوتٍ مرتجّ:
> "إنّ على السلطات العالميّة كلّها أن تتدخل. هذه ليست جريمة وحسب، بل إنذار. لقد أفلتت المنظمة الإفريقية من الرقابة... وإن لم نغلق أبوابها الآن، فستفتح علينا مقابرنا واحدًا تلو الآخر."
وفي مكانٍ ما في الظلال، حيث لا تشرق الشمس، كان تشاي أودجين يتقدّم، ووجهه لا يحمل أي شعور، فقط ذلك الهدوء القاتل… كأنّ ما بدأ، لم يكن سوى الفصل الأول من إعلان حرب بلا وطن.
وسط رائحة التوتر التي ملأت الممرات الطويلة للمقر، كان أكاي واقفًا أمام النافذة الزجاجية العالية، ينظر إلى السماء الرمادية الممتدة فوق العاصمة كأنّه يقرأ منها شيئًا لا يُقال.
أكاي، بصوته العميق الواثق، دون أن يلتفت:
> "كان من البديهي أن يُحمّلوا شيماء مسؤولية ما حدث… لم أتفاجأ. العالم يبحث عن كبش فداء، وهي أول من سقط."
وقف موريس خلفه، عينيه تطاردان ظلّ أكاي كمن يحاول فهم ما يدور داخل رأسه:
> "سيدي… أظن أن المجلس تسرّع. قرار الهجوم على تشاي في هذه اللحظة... جنون. نحن لسنا مستعدّين، وتشاي… إن تحرّك، ستكون النتائج كارثية. المجزرة الأولى ستكون فقط البداية، وستنشب أزمة تجعل من المنظمة هدفًا أمام العالم كلّه."
استدار أكاي ببطء، وعيناه الباردتان تقطعان حديث موريس بثقل لا يُحتمل:
> "قرار المجلس لا رجعة فيه. نحن جنود، لا نعيد التفكير في ما صدر. لكنك محق… إن تحرّك تشاي ونفّذ خطته، سننزلق إلى الهاوية. لهذا... سأُبطئ العملية. نحتاج خطة تُنفّذ بنسبة نجاح كاملة. لا مجال لأخطاء جديدة."
بينما كان الصمت يتسلّل إلى الغرفة، انفتح الباب بهدوء، ودخل رجلٌ ببدلة رمادية، وجهه يحمل علامات الإرهاق وقليل من الذعر:
> "سيدي أكاي… معظم الفرق والموظفين تجمّعوا في القاعة رقم 4. الجميع بانتظار التقرير التشريحي لموقع الجريمة."
ثم التفت نحو موريس، وأضاف:
"السيد سون… حضر أيضًا. حالته النفسية غير مستقرة تمامًا. نرجو أن تكون إلى جانبه، سيدي موريس."
عند سماع اسم سون، تغيّرت ملامح موريس فجأة.
تبدّدت صلابته، وظهر خلفها قلق إنساني دفين، كأنّ شيئًا انكسر داخله للحظة. التفت ببطء، ولم يقل شيئًا، لكن نظرته حملت مزيجًا ثقيلًا من الخوف، والشفقة، والشك.
هزّ أكاي رأسه وأشار نحو الباب:
> "هيا بنا. لا وقت للبقاء في الظلال… حان وقت مواجهة ما خلفته يد تشاي أودجين."
وتحرّك الثلاثة في صمت، يمشون كمن يتقدّم نحو تابوت الحقيقة، بينما في أعماق المقر، كانت القاعة رقم 4 تنتظرهم… ومعها، تقرير لا يحمل كلمات، بل دماءً باردةً وصرخات صامتة.
كانت القاعة رقم 4 تغصُّ بالبشر، ورغم الاكتظاظ، جلس كلّ واحد في مكانه وكأنّ الخوف قد أعاده إلى أدبه. المئات من الأعين تراقب المنصّة في صمت، لكن الهمسات كانت تتلوّى في الجوّ مثل بخارٍ ثقيل... حتى تكلم ذاك الرجل.
تقدّم بخطى ثابتة، ووقف خلف الميكروفون، ملامحه صارمة وصوته حادّ كالمشرط:
> "أهلًا وسهلًا بالحضور… أنا ماريو، أحد مختصي التشريح في المنظمة. بجانبي إيمو، محقّق رئيسي عمل على تحليل مسرح الجريمة."
تبادل الحضور نظرات سريعة. لم يكن أحد مستعدًا لسماع التفاصيل، لكن الصمت صار واجبًا.
تابع ماريو، وظهر على الشاشة خلفه مخطط ثلاثي الأبعاد لموقع الجريمة:
> "الليلة الماضية، في المنطقة أ، حيّ ب… اصطدم ستة من الأطفال الناجحين في الاختبار مع المعلمة شيماء ضد تشاي أودجين. الأطفال هم: جين، كيم، ألما، سيبرو، غاندي، وأليكس.
استغرقت المواجهة خمس دقائق فقط… لكنها لم تكن معركة، بل مجزرة من طرف واحد. تشاي لم يدافع عن نفسه، بل سمح لهم بمهاجمته. تحليلنا يشير إلى أنه كان يراقب… يختبرهم… أو ببساطة، يستمتع."
تقدّم إيمو، عيونه تلمع بالقلق تحت أضواء القاعة البيضاء، وقال بصوتٍ بارد:
> "جثة جين… قُطع رأسها بسلاح حادّ ودقيق، والجثث الأربع الأخرى تحمل كلها بصمات طاقية افتراضية تعود لتشاي أودجين.
هذه البصمات ليست حقيقية، لكنها أنشئت لتمييز هالته الهجومية. هذا يُثبت أنه هو من قتلهم… وحده."
تنفّس ماريو ببطء قبل أن يتابع، كمن يستعدّ لقول شيء غامض:
> "لكن الجثتين الأخيرتين… شيماء وسيبرو… قتلا بطريقة مختلفة تمامًا.
لم يُقتلوا مباشرة، بل تأثّروا بمهارة نعرفها جميعًا… مهارة شيماء نفسها.
الهالة في المكان توضح أن الخصم استخدم نفس مهارتها… إما لأنه نسخها… أو كان يمتلكها من قبل."
رفع إيمو إصبعه، وأكمل بجديّة:
> "الأغرب أن البصمات الطاقية على المهارة لا تعود لتشاي، لا حتى بصماته الافتراضية… هذا يعني شيئًا واحدًا: شخصٌ آخر كان حاضرًا.
وبما أن عدد الجثث هو ستة فقط من أصل سبعة… فنحن نشتبه أن كيم هو الشخص المفقود."
ساد الصمت للحظة.
> "وكيم يمتلك بالفعل مهارة النسخ والسرقة…" تابع إيمو، "وهذا يدعم فرضيتنا."
لكن ماريو قاطعه بتنهيدة ثقيلة، كأنه يحاول التمسّك بشيء أضعف من الأمل:
> "رغم هذا… وُجدت دماء كيم في ساحة المعركة. وبعد التشريح… تأكّد لنا أنه استخدم مهارات الدعم لمساعدة زملائه أثناء القتال."
هنا، تقدّم إيمو بنظرة لا تحتمل الشفقة:
> "لكن… الجريمة تظل جريمة. لقد ثبت أنه شارك في الهجوم على شيماء وسيبرو.
استنتاجنا الأخير: كيم أقنع تشاي بالانضمام إليه أثناء المعركة، والجريمة كانت اختبارًا لبناء الثقة بينهما."
بينما ظلّت الشاشات تُظهر الصور والتحليلات، كان سون جالسًا في المقعد الثالث من الصف الأمامي. لم يكن ينظر إلى أحد.
وجهه شاحب، عيناه غارقتان في الظلال، والدموع تكاد تفيض، لكنها لا تسقط.
كان يرى صور جين، ألما، سيبرو… كلّهم، أصدقاؤه. إخوة دربٍ انتهت رحلتهم بلعنة لا تُغفر.
وكلّما نُطق اسم كيم، كان قلب سون ينبض بالغضب أكثر… كيف؟ لماذا؟
كيف لخائنٍ أن يكون بينهم؟ كيف لكيم أن يبتسم بالأمس… ويذبحهم اليوم؟
ارتجف سون، لا من البرد، بل من الألم.
في داخله، كانت نار الانتقام قد بدأت تشتعل… وعلى وجهه، بدأت تتشكّل ملامح رجلٍ لم يعد يثق بأحد.
ولا حتى بالعدالة.