بعد انتهاء الاجتماع، وبعد أن تفرّق الحضور في صمتٍ ثقيلٍ يشبه صمت المقابر، كان سون قد غادر القاعة متثاقل الخطى، كأنّه يحمل وزر ما قيل… وما لم يُقال.
في ممرّ جانبي، تحت ضوء خافت يتدلّى من سقفٍ معدنيّ، اقترب منه موريس، يجرّ خلفه أبوة مثقلة بالحزن.
موريس بصوتٍ هادئ، فيه رجفة قلقٍ خفيّة:
> "سون… ابني، هل أنت بخير؟"
لم ينظر إليه سون. وقف ووجهه إلى الحائط، ويده تمسك حافة النافذة وكأنّه يحاول أن يستنشق ما بقي من الهواء.
سون بصوت خافت لكنه حاد كالسيف:
> "لقد قرّرت ما سأفعله يا أبي."
رفع موريس حاجبيه، لم يكن مستعدًا لما سيسمع.
موريس:
> "القرار لك. لن أجبرك على الانضمام إلى المنظمة، لقد فقدت أصدقاءك، وأنا آسف… حقًا آسف، يا بني."
استدار سون أخيرًا، وعيناه تحملان شيئًا جديدًا… لمعة مصقولة بالألم، لكنها تحمل هدفًا.
سون:
> "ليس هذا ما أعنيه… لقد قرّرت أن أبدأ التدريب. وسألتحق بفرقة أوقا."
كأنّ اسم الفرقة قد سقط بثقله بين جدران الممر. صمت موريس لحظة، ثم ابتسم ابتسامة دافئة رغم كلّ شيء.
موريس:
> "أوه… أوقا، ها؟ حلمٌ كبير…
وأنا لا أشكّ لحظة أنك ستنجح. لديك النَّفس… والإرادة…"
سون بتصميم لا رجعة فيه:
> "سأصبح أقوى…
سأقف أمام كيم، أمام تشاي أودجين نفسه…
وسأنتقم لـ سيبرو، وجين، وكل من سقط بسبب خيانتهم."
اقترب موريس أكثر، وضع يده على كتف سون، كأنّه يحاول أن يبقيه إنسانًا وسط هذه العاصفة.
موريس:
> "إذاً… ما هي خطوتك الأولى؟"
سون دون تردّد:
> "سأتدرب عند المعلّم تاي. هو الوحيد القادر على تحويل غضبي إلى قوّة. سأذهب إليه الآن وأطلب تدريبي."
تنهد موريس، ولمع في صوته حزن الأب الذي لا يستطيع أن يقي أبناءه من هذا العالم القاسي:
> "فقط… لا تقسُ على نفسك يا بني.
واعلم… مهما اخترت، ومهما سلكت من طريق… سأكون خلفك، أدعمك… حتى تصل."
في تلك اللحظة، لم يكن سون مجرد فتى فقد أصدقاءه…
بل كان بذرة مقاتل، أُسقيت بدماء، وتغذّت على وجع الخيانة…
ومع كل خطوة ابتعد فيها عن أبيه، كان يقترب أكثر من ذلك الطريق الطويل الذي يُكتب عليه اسم واحد: الانتقام.
..... .
طق طق طق…
> "سيّد تاي، هل يمكنني الدخول؟"
من الداخل، جاء صوته عميقًا، غير مبالٍ، كأنه نابع من قلب الظلال نفسها:
> "تفضّل…"
فتح سون الباب بخطى متردّدة، ووجد المعلم تاي جالسًا على الأرض وسط مجموعة من القوارير والزجاجات التي تفوح منها روائح لا توصف. عيناه نصف مغمضتين، كأنّه بين يقظةٍ ونوم.
سون:
> "أهلًا سيّد تاي… أحتاج إلى القليل من وقتك، فقط دقائق."
تاي، دون أن يلتفت:
> "لا بأس، اجلس."
جلس سون بسرعة، وعيناه مليئتان بالعزم.
سون:
> "أريد أن أتدرب على يديك، وأن تأخذني تلميذًا لديك."
رفع تاي رأسه، ملامحه كانت ساكنة، ثم انفجر ضاحكًا، ضحكة مريبة، كأنها استهزاء أو تحذير:
> "ماذا؟! هههههه… ارحل، ارحل. أنا لا أدرّب أحدًا. لم أعد ذلك الرجل."
سون، بثبات:
> "لكنّك الوحيد المناسب، لا أحد سواك يمتلك ما أحتاجه. أنت سيّد السموم… وأنا جسدي يتكيّف مع جميع أنواعها. لهذا أريدك أنت بالذات.
أنا لا أبحث عن القوة فقط… بل عن أسلوب لا يتوقعه خصومي."
أدار تاي وجهه ببطء، ونظر مباشرة في عينيه، كمن يحاول كشف ما خلف النظرات:
> "ومن خصمك؟ أهو كيم؟ أم تشاي أودجين؟… أم أن هناك من لا نعرفه بعد؟"
سون:
> "هدفي الآن… هو الانضمام إلى فرقة أوقا. أريد أن أصبح أحدهم، وأتجاوز حدودي.
الانتقام… ليس إلا بداية."
ساد صمت، فقط صوت فقاعات إحدى القوارير ينقر في الخلفية. ثم انفجر تاي بضحكة هادئة، أشبه بالسخرية الممتزجة بالإعجاب.
تاي:
> "أوه… طريقك طويل، بل موحش. وأنا؟ لا أظن أنني الشخص الذي يُمكّنك من ذلك… ليس بعد كل ما ابتعدت عنه."
سون، وقد انحنى قليلًا، صوته يرتجف بالإصرار:
> "أرجوك، سيّد تاي… أرجوك، درّبني. لا أحد غيرك يفهم ما أحتاجه… وأنا مستعد أن أبدأ من الصفر، أن أتحمّل كل شيء."
نظر إليه تاي طويلًا، ثم نهض ببطء. جسده النحيل تحرّك كما لو كان ظلًّا. التفت وسحب قنينة صغيرة من الرف، فتحها ببطء واستنشق رائحتها. ابتسم.
تاي:
> "حسنًا… لم أدرّب أحدًا منذ سنين. لكنني سأختبرك. إن أثبتَ أنك أهل لهذا الطريق… فسأقبلك."
قفز سون واقفًا، كأنّ قلبه عاد ينبض من جديد:
> "هل… هل هذا يعني أنك قبلت؟!
شكرًا لك! شكرًا من أعماقي!"
تاي، وهو يعيد القنينة إلى مكانها:
> "التدريب يبدأ الآن. سأُعلم السيد أكاي… ونغادر إلى الصحراء الغربية، حيث السماء تلسع، والرمال تخنق، والعرق يُصفّي الحقيقة من الوهم.
ذاك المناخ مثالي لاختبار جسدك… وروحك."
سون بابتسامة واثقة:
> "أنا موافق. أنا جاهز."
في تلك اللحظة، لم يكن سون قد بدأ تدريبه فحسب…
بل كان قد خطى أول خطوة في طريق لا عودة منه، طريق يُصنع فيه المحاربون من الألم… والسمّ.
في عمق المقر الرئيسي للمنظمة، وتحديدًا في مكتب أكاي، حيث تصطف الملفات بدقةٍ فوق طاولة خشبية عتيقة، ويعبق المكان برائحة تبغٍ باهتٍ ممزوجة بالقهوة الباردة، فُتح الباب دون استئذان، ودخل تاي، خطواته هادئة لكن فيها شيء من الحدة… كما لو أنه لا يدخل مكتبًا بل ميدان معركة.
تاي، بنبرة مباشرة:
> "أكاي، أتيت لأُخبرك أنني—"
أكاي لم يمنحه فرصة لإتمام الجملة، رفع رأسه من خلف كومة أوراق وابتسم ابتسامة رمادية:
> "أوه، تاي… ما الجديد؟ ما الخطة المجنونة هذه المرة؟"
لكن تاي لم يكن في مزاجٍ للعب الكلمات. ضرب بكفّه الهواء، وكأنّه يبعد الوهم:
> "اصمت ودعني أكمل. كفاك هلوسة.
سأدرب سون، وسأخذه إلى الصحراء الغربية.
سننطلق اليوم. أتيت فقط لأُبلغك."
رفع أكاي حاجبًا، ثم نهض ببطء، عينيه تضيقان كمن يحاول أن يخترق صدر تاي بنظرته:
> "وماذا عن خطتك القديمة أنت و... تشاي؟
تلك التي لم أتوقف عن ملاحظتها؟"
تاي ضحك، ضحكة جافة بلا نكهة، ثم قال ساخرًا:
> "أي خطة؟ أكاي… كفاك هلوسة."
لكن أكاي لم يبتلع الإجابة. اقترب خطوة، صوته ينخفض، لكن يزداد خطورة:
> "ما زلت أشك. أنت وتشا… ستفعلان شيئًا. أنا لا أؤمن بالصدف."
لوّح تاي بيده مستهزئًا، وهو يفتح باب المكتب وكأنّه ينهي محادثة بلا رجعة:
> "لقد سئمت من شكوكك العقيمة. سأذهب بعيدًا، أرتاح من مشاكلك، ومن وجوهكم الثقيلة.
وإن أردت أن تُرسل أحدًا لمراقبتي، فافعل. لن يزعجني.
إلى اللقاء، يا مدير الشكوك."
وغادر، تاركًا وراءه الهواء يضجّ بالقلق.
أكاي تبعه بنظراتٍ طويلة، حتى اختفى ظل تاي في الممر. لم يقل شيئًا، لكن قلبه لم يهدأ… الثقة مع تاي، لم تكن خيارًا.
بعد ثوانٍ، طرق أحد رجال المنظمة الباب ودخل:
> "سيدي أكاي… ابن السيدة شيماء وصل للتو.
حسب التعليمات، أردت فقط إعلامك."
رفع أكاي رأسه دون اهتمام:
> "والمطلوب؟"
> "لا شيء، فقط الإخبار."
تنهّد أكاي، ثم قال وهو يشير بيده بلا مبالاة:
> "أعطه غرفة في الطابق الثاني.
عيّن له خادمة… واهتم به، لا أريد مشاكل."
انحنى الرجل وخرج.
حين خلت الغرفة، تمتم أكاي بصوت منخفض، كأنّه يحدث نفسه أو ربما أشباح هذا المكان:
> "أظن أنني كريم أكثر مما ينبغي… لو كان أحد غيري في مكاني، لكان مزّق طفلها وأطعمه للكلاب."
ثم عاد للجلوس، يدوّن ملاحظاته… بينما في عقله، كانت الشكوك تتكاثر مثل الدخان.