الساعة الثالثة مساءً — 15:00
في مكان لا يطأه الضوء ولا تُنطق فيه الأسماء، حيث الموت ليس نهاية بل بوابة، جلست إيفا أودجين داخل غرفة الإحياء… هناك، حيث تسكن الأرواح المعذّبة وتتنفس الجدران لعنة لا تراها الأعين.
الغرفة كانت موحشة، خانقة.
أصوات الأرواح تئنّ كأنّها تعزف سymphonie لأجل القيامة.
خيوط هالاتٍ زرقاء وخضراء تتمدد في الهواء كشبكة سحرية، تلتف وتتنفّس حول جماجمٍ بشرية معلقة على الجدران،
وفي المركز… جثة بان أودجين، مسجّاة فوق منصة من الحجر الأسود، تتغذى على صرخات الأرواح المتوجعة.
الجثة كانت ساكنة، لكن رائحتها… كانت حيّة.
إيفا جلست أمامه داخل دائرة مكوّنة من الشمع المذاب، وبخورٍ أسود ممزوج بشعر حصانٍ محترق.
عينها مغمضتان، وجهها ساكن كقناع، أنفاسها متقطعة كأنها تتحدث مع العالم الآخر.
وفجأة…
انفتحت الأرض خلفها، وخرج منها أربعة شياطين، تجسّدوا كما لو أن نداء التعويذة سحبهم من أقفاصهم الأبدية.
1. الأول: بلا عيون، رأسه جمجمة ضخمة، أصلع، لكن شعرًا رماديًا طويلًا يتدلّى من جانبيه، له فمٌ واحد واسع بمنتصف وجهه، وأطراف بشرية. صوته، إن تحدّث، سيبدو كهدير الريح عبر القبور.
2. الثاني: جسده مشوّه، ساقاه كساقي حصان، وجهه وجه وحش بثلاثة عيون…
واحدة في فمه، والثانية تنزف، والثالثة محفور عليها اسم "إيفا" بدمٍ أسود.
3. الثالثة: كانت أشبه بكيان أنثوي، لكن جناحيها مقلوبان كأنها هاربة من جنة سقطت منها.
يدَاها لا ترتبطان بجسدها، بل تطوفان بجانبها مثل أرواحٍ تخدمها.
4. أما الرابع… فكان استثناءً:
وجهٌ أبيض وسيم، ملامحه ناعمة كالأمراء، يرتدي ثيابًا أنيقة كأنه خرج من مجلسٍ ملكي.
لكن ابتسامته… كانت تهمس بشرٍّ لا يُوصف.
كل شيء فيه يقول "خطر" دون أن يتحرك.
تكلم ذلك الشيطان الأخير بصوت رخيم، كأنه موسيقى هادئة تخفي نصلًا خلف كل نغمة:
> "التعويذة اكتملت…
الديون سُدّدت…
والشروط خُتمت…
إيفا… ستُحرّرين الروح من القفص."
ثم تكلم الأربعة معًا، أصواتهم كأجراس القيامة، متداخلة، غارقة في الدوي:
> "قِيَامُ بَان."
فجأة… اهتزت الغرفة.
جثة بان ارتعشت بقوة، ثم خرج منها صرخٌ جهنّمي، لا هو صوت بشري ولا وحشي، بل شيء من ما قبل اللغة.
تحوّل الجو من بخور وظلال… إلى سائلٍ أحمر لزج بدأ يتدفق من الجدران،
الأرض تشرّبت بالدماء، الشمع انصهر وانفجر،
والجثة… بدأت تمتص كل شيء: الأرواح، الهالات، حتى الضوء، حتى أصوات الأنفاس.
الشياطين الأربعة اختفوا فجأة، كأنهم لم يوجدوا إلا لإتمام الطقوس.
وما هي إلا لحظات حتى...
فتحت الجثة عينيها.
كانت عينَا بان أودجين.
لكن داخلهما... لم يكن إنسانًا.
بل شيء أقدم من الموت…
شيء كان ينتظر هذه اللحظة منذ 25 عامًا.
الغرفة ما تزال تغرق في صمتٍ ملوّث بالسحر والموت.
لكن في قلب الدائرة المظلمة، نهض الجسد الذي كان ساكنًا منذ ربع قرن.
بان أودجين… فتح عينيه.
عيناه كانتا مزيجًا من الرماد واللهب، كأنّه نُزع من الجحيم دون إذن.
ألقى نظرة بطيئة على ذراعيه، على صدره، على ذلك الجسد الذي لم يعد تمامًا كما كان.
حبالٌ سوداء كأنها أوشام حيّة، تمتد من عنقه حتى كاحليه.
مرسومة بسحرٍ غامض، وعلى كل خيطٍ رموز غريبة، كأنها لغات من عصر لم يُكتب بعد.
بان بصوت أجشّ، لكنه يحمل بريقًا من سخرية قديمة:
> "إيفا… أخيرًا عدت للحياة…
لكن ما هذه الخيوط؟"
إيفا، ما تزال جاثية أمامه، تُخفي ما لا يجب أن يُقال، ردّت بصوت ناعم لكن بارد:
> "آثار التعويذة. آسفة… لكنها لن تزول.
لقد أصبحت شبه حيّ… جسدك مفعم بالموت، لكنه لا ينام."
بان مرّر يده على رقبته، أصابعه تحسست تلك الحبال كأنها قيود لا تُرى، ثم ضحك، ضحكة مكسورة، لكنها تحمل تهديدًا خفيًا.
إيفا نظرت إليه، عينيها تحدّقان بتوتر:
> "هل… هل تتذكّر كل شيء؟"
بان أدار عينيه نحوها، تلك النظرة القديمة التي كانت تُرعب الأحياء والأموات على حدٍّ سواء:
> "سؤال غريب. هل تختبرينني؟
أتذكّر… أنني قبل عودتي، مُسحت ذاكرتي. وقُدّم لي أمرٌ واحد: أن أتّبع أوامرك.
لكن، للأسف… هذا لن يحدث."
ضحك مرة أخرى، وهذه المرة… كان صوته عميقًا كالغدر.
إيفا في داخلها، لم تظهر قلقًا. بل فكّرت بصمت:
> لا بأس… سواء أطعتني أو لا، لا يهم. المهم… ألا تتذكر شيئًا عن ماضيك الحقيقي، ولا عن تشاي… ولا عما فعلته به…
لكنها اختبرت الحدّ الأخير، وسألته:
> "وماذا عن تشاي؟ هل تتذكر من هو؟ ابن من؟ أو ماذا فعلت به؟"
نظر إليها بان، ثم عقد حاجبيه، صوته كان حادًا هذه المرّة:
> "إيفا… كفاكِ غباء.
قلت لك… لا أتذكّر سوى الذكريات التي أردتها أنت."
ارتاحت قليلاً. همست لنفسها:
> "جيد… جيد جداً."
ثم قالت له بابتسامة مصطنعة:
> "لقد هيأت لك غرفة… تستطيع أن تستريح قليلاً فيها."
بان نهض تمامًا، ظهره مشدود، وحركاته خفيفة رغم الموت الذي يسكن داخله.
ابتسم، لكن ابتسامته لم تكن بريئة:
> "أنا؟ أستريح؟
لا، سأخرج لألعب قليلاً مع بعض أفراد المنظمة… أودّ أن أرى كيف تغيّر البشر منذ رحيلي."
إيفا تقدّمت خطوة، وصوتها صار أكثر جدّية:
> "لا تتسرّع. نحن الآن في باريس، بعيدون عن مقر المنظمة.
وعندما يحين الوقت المناسب…
ستذهب إلى تشاي، ونشنّ هجومًا مدروسًا على المنظمة.
أعدك… ستستمتع بكل لحظة."
بان لوّح بيده كطفل ساخر:
> "أووووه، حسنًا… سأنتظر."
ثم جلس على الأرض، وأخذ يضحك لنفسه.
ضحكة مليئة بالجنون… كأنّ شيئًا بداخله بدأ يتحرّك… شيئًا لا يعرفه حتى بان أودجين نفسه
مرّ أحد خدم إيفا بخطى مسرعة، ثم انحنى أمام باب الغرفة المغلقة وهمس بخشوع:
> "سيّدتي… الشخص الذي تحدّثتِ عنه… تشاي قد أرسله إلينا، وهو هنا الآن… ينتظرك."
من داخل الغرفة، خرج صوت خافت، ثقيل، مشوب بأنفاس متقطعة، صوت امرأة تمشي… بعكاز.
باب الغرفة انفتح ببطء، وخرجت إيفا أودجين.
سارت بخطوات هادئة، لا تتسرّع، لكنها لا تتردّد.
كل خطوة لها معنى، وكل حركة من عصاها تطرق الأرض كأنها تُعلن موتًا قادمًا.
وما إن وصلت نهاية الممر، حتى وقفت أمام شاب ينتظر… وجهه يشحب أكثر مع كل ثانية.
كان هو… كيم.
وقف جامدًا، يتصبّب عرقًا… رغم ابتسامته المرتعشة، فقد كان يدرك من تقف أمامه.
> "هذه… هذه هي إيفا أودجين؟
الأسطورة… قائدة أخطر عائلة قتلة في العالم؟"
إيفا نظرت إليه بعينين نصف مغلقتين، كأنها تقرأ تاريخه من ملامحه.
قالت ببرود يقطّع الهواء:
> "تشاي… حدّثني عنك. قال إنّ لديك مهارات استثنائية."
كيم انحنى قليلًا، محاولًا أن يظهر ولاءً زائفًا، لكنه بالكاد أخفى ارتجافه:
> "أريد أن أكون… فردًا من عائلتكم."
من خلفها، ضحكت إحدى الخادمات، ضحكة مريرة، كأنها سمعت حماقة جديدة.
لكن إيفا لم تضحك. فقط قالت بصوت باردٍ كحدّ السكين:
> "لا يمكنك."
رفع كيم رأسه فجأة، وكأنّ قلبه توقف.
إيفا تابعت:
> "نحن عائلة… تربطنا رابطة الدم.
لكن… سأقبلك كخادم،
بشرط واحد: أن تنجو شهرًا كاملاً من التدريب على يدي."
كيم رفع رأسه، ارتسمت على وجهه ابتسامة تحدٍّ مصطنعة:
> "موافق."
إيفا اقتربت منه، حتى كاد يشمّ رائحة البخور والسموم التي تغلف ملابسها:
> "لا مجال للشرح.
أنت تعرف عالم الجريمة… وتعرف قوانينه.
حياتك… قد تنتهي في لحظة واحدة إن خفضت دفاعاتك.
لا يهمني إن كنت خائنًا… أو جاسوسًا.
المهم… أن تخدمني بإتقان.
وأن تنفّذ جميع المهام التي أكلفك بها دون تردد."
كيم انحنى مجددًا، ثم قال بصوتٍ مطمئن لكنه يخفي نية أخرى:
> "إليكِ ذلك… سيدتي."
لكن داخله… كان شيء آخر يتحرك.
في نفسه:
> "أنا لا أبحث عن الولاء…
بل عن شيء واحد فقط…
رؤية تقنيات عائلة أودجين جميعها…
ونسخها."
ابتسم بخبث، وتلك الابتسامة… لم تفلت من عين إيفا.
لكنها لم تقل شيئًا.
هي تعرف تمامًا… أن الثعابين، لا تُمزّق من البداية… بل تُربّى حتى تظن نفسها آمنة… ثم تُحقَن بالسمّ.