[الجهة الشرقية – ]
كان الصمت يضغط على كل شيء.
المنازل تحوّلت إلى رماد، الأرض مغطاة بلونٍ واحد: أحمر داكن. الجثث لم تعد تملك ملامح. بعضها ممزق، بعضها محترق، وبعضها لا يزال واقفًا، لكنه ميت منذ زمن.
وفي وسط هذا الخراب، وقف بان.
عجوز بجسد هادئ، يسير في دائرة وسط الدمار، كأنه يمشي على طريقٍ حفظه جيدًا… كأن قدميه تعرفان طريق الجحيم أكثر مما تعرف طريق العودة.
بعيدًا عنه، على أحد تلال الركام، وقف غينيا،( قائد فرقة ) مغطى بالتراب والدخان، يحدق إليه بثبات.
إلى جانبه، كان موريس واقفًا، جسده العاري من الأعلى يلمع بالدم والعرق، عضلاته مشدودة كأنها تتنفس.
كانا… آخر من بقي.
بان توقّف عن الدوران، رفع رأسه، ونظر إليهما.
بان (بصوت متهكم، ساخر، لكنه خافت كأنه آتٍ من زمن بعيد):
"أوه… هل بقي أحد؟ كنت أظن أنني وحدي أخيرًا."
صمت. ثم تابع.
"هل تعرفان ما هو أسوأ من الموت؟ أن تبقى حيًّا، طويلًا بما يكفي لترى كل الوجوه التي قاتلت بجانبها… تتحوّل إلى لحم ممزق. أن تسمع كل الأصوات التي أحببتها… تُستبدل بصدى الصمت."
خطا خطوة إلى الأمام، يجر قدمه فوق دماء جندي مجهول.
بان:
"كنا ثلاثين يومًا فقط، لا نملك طعامًا، لا نملك أسماء. كنت أنا الوحيد الذي يعطس بصوت عالٍ، لهذا كنت القائد. تخيّلا… قائد لأنني أعطس."
ابتسم… ثم ضحك ضحكة قصيرة، حزينة.
بان:
"واليوم؟ أنا آخر من يعطس، آخر من يتنفس، آخر من… يُضحك نفسه. جميل، أليس كذلك؟ هذه هي الحياة."
موريس تنفس ببطء، ثم تكلم لأول مرة، بنبرة لا غضب فيها، بل هدوء حكيم:
موريس:
"أنت لا تضحك… أنت فقط تخفي انهيارك بالكلمات."
بان (ينظر إليه باهتمام، يضحك):
"هاه… أخيرًا، أحدكم يفهم. ممتاز."
موريس:
"نحن لسنا مثلهم. لسنا هنا لنموت في مجزرة عشوائية. أنا لم أقتل حتى الآن، لأنني كنت أختار معاركي. وغينيا… لم يخسر أحدًا في حياته، سوى الذين اختار أن يتخلى عنهم."
غينيا (نظرة حادة، صوته بارد):
"بان… نحن لسنا أمواتًا بعد. لسنا صدى قصتك."
بان (ينظر إليه):
"وما الذي تريد؟ نهاية؟ مجدًا؟ أو ربما انتقامًا لصديق مات تحت قدمي؟ لا يهم. فكل من وقف هنا، اختار النهاية بقدميه."
صمتوا للحظة. لا أحد تحرك. فقط الريح التي حملت رماد القتلى، والدخان يتراقص فوق الركام.
بان (يرفع صوته، نبرة فلسفية):
"القوة؟ القوة لم تكن يومًا غاية. إنها لعنة… عندما تُصبح قويًا، يصبح كل شيء بلا طعم. لا أحد يُحادثك بصدق. لا أحد يلمسك بلا خوف. لا أحد يجرؤ على البكاء أمامك."
ينظر إلى السماء… ثم يهمس:
"لهذا… أحب الضعفاء."
موريس:
"القوة لم تكن لعنة يا بان… أنت من لعن نفسه بها."
غينيا:
"وها نحن… نكمل الدائرة."
صمت آخر.
موريس (بصوت منخفض، كأنه لا يُصدق ما يراه):
"لم أكن متأكدًا… لكن الآن، لا يمكن أن أخطئ تلك الطريقة التي تمشي بها… تلك اللامبالاة… تلك الابتسامة التي لا تُشبه البشر."
[بان يتوقف عن السير، يلتفت إليه دون أن يتكلم، فقط ينظر.]
موريس:
"أنت… بان الحقيقي. ليس مجرد اسم، ولا قصة، بل أنت هو. القاتل المأجور الأول… من نفّذ اغتيال رئيس مدينة ناها، قبل خمسةٍ وعشرين عامًا. أول من قلب الموازين، أول من جعل القتل صناعة… أنت البداية."
غينيا (ينظر فجأة نحو موريس):
"ذلك الرجل؟! لكنه أُعدم علنًا. رأينا الجسد، سقط على الأرض أمام آلاف."
موريس (عيناه لا تترك بان):
"ربما رأينا جسدًا… لكن ليس روحه."
[بان يضحك بخفة، كأن شيئًا في صدره تهشّم للتو، ثم يتكلم:]
بان (بهدوء، وهو ينظر إلى الأرض):
"ناها… آه، تلك المدينة الصغيرة… كم بكوا عليه. رئيسهم المحبوب. نسوا فقط، كم مات تحت حكمه من أطفال بلا قبور. اغتياله لم يكن فنًا، بل توازنًا."
موريس (صوته يزداد ثقلًا، بنبرة فلسفية):
"لكن موتك… كان نقطة البداية. بعدك دخلت عائلة أودجين هذا العالم. صار القتل نهجًا، لا خيارًا. صار السلاح هو اللغة، والدم هو الحبر. عشرات العائلات اتبعتكم… مئات الأرواح سُفكت لأنك فتحت الباب."
بان (ينظر إليه، بنبرة شبه ساخرة):
"وهل أغلقته أنا؟ أم أنكم دخلتم طواعية، وأنتم تبتسمون؟"
موريس:
"لا أحد يدخل الجحيم مبتسمًا، بان. فقط المجبرون… أو الجائعون… أو من لا يملكون شيئًا يخسرونه."
[صمت للحظة. بان يقترب خطوة. غينيا لا يتكلم، يراقب فقط، ملامحه متوترة.]
موريس (نظرة ثاقبة، ببطء):
كنا نظن أنك متّ، لكنك كنت تلد نفسك من جديد… في كل جيل، في كل قتيل. لم نكن نطارد مجرمًا… كنا نطارد فكرة."
بان (بهدوء):
"أفكار لا تُعدَم يا موريس. تُنفى، تُنسى، ثم تعود حين يتعب العالم من التظاهر بالنقاء."
موريس (بغصة صادقة):
"لم أكن أظن أنني سأقف أمام شبح الماضي بهذا الشكل… لا كطفل خائف، بل كمقاتل يقف على أنقاض مئتي جسد، يتساءل إن كان هو الآن جزءًا من هذا الشبح."
[بان يصمت، ثم يبتسم، ابتسامة هادئة لكنها حزينة.]
بان:
"كلنا أشباح يا موريس… الفرق أنني توقفت عن الكذب على نفسي."
[صمت، الريح تعصف مجددًا، ترفع الغبار من فوق الجثث.]
موريس (ينظر إلى السماء):
"أتعلم… إن كنت أنت حقًا البداية… فربما من العدل أن أكون النهاية."
[بان ينظر إليه للحظة، ثم يفتح ذراعيه قليلاً، نبرة خافتة، أشبه بدعوة:]
بان:
"اقترب… وعلّمني إن كان ما في داخلك حيًا… أم مجرد صدى لدماء سالت قبلك."
**[الهواء يسكن… ونظرات الثلاثة تتصل.]
خطى بان خطوة إلى الأمام… ببطء شديد… نظر إلى الاثنين.
بان (بصوت منخفض، كأنه يعلن):
"أنتما آخر الوجوه… دعونا نرَ، هل ستظلان ثابتين… أم تلتحقان بالباقين؟"
لحظة صمت… ثم بدأ شيء يتغير في الهواء.
نظرة غينيا تثبتت. موريس انحنى قليلاً بجسده. بان فتح ذراعه كأنه يدعو لعناق.
الريح توقفت.
السماء ازدادت حُمرة.