باريس
كانت الريح تهمس خلف النوافذ الزجاجية الثقيلة، والسماء مُلبدة بالغيوم الرمادية.
دخلت الخادمة ماري بخطوات مرتجفة، تحمل في يديها صينية شاي لم تُمسّ.
انحنت بخجل، ثم قالت بصوت يكاد يُكسر:
> ماري:
آنسة إيفا… رجاءً…
السيد تشاي لم يغادر غرفته منذ أن عاد من تونس.
لا يأكل… لا يتكلم… ينام بعينين مفتوحتين.
إنه… يذبل.
رفعت إيفا نظرها من الكتاب الذي تقرأه، ولم ترد على الفور.
> ماري (تقترب أكثر، تتوسل):
أعرف أن هذا لا يعنيني، لكن…
هو ليس مثل الآخرين، آنسة إيفا.
تشاي لا يتظاهر بالقسوة… هو لا يعرف حتى كيف يتظاهر.
لقد فقد شيئًا هناك… في تونس…
ربما فقد جزءًا من نفسه.
ألا يمكنك… فقط أن تذهبي لرؤيته؟
لا لشيء… فقط ليعرف أنه ليس وحده.
> (ثم، بصوتٍ خافت يرتجف:)
أنا… لا أحب أن أراه هكذا.
(تخفض رأسها) ربما… ربما أنا من يحب رؤيته حيًا.
سادت لحظة صمت.
وضعت إيفا الكتاب بهدوء، ونهضت.
> إيفا (ببرود، لكنها لا تخفي الفضول):
إذًا… أنت تحبينه؟
> ماري (مُرتبكة):
لا… أقصد… أنا فقط…
ماري تتبع إيفا بخطوات مترددة.
كان الجو باردًا داخل الممر، رغم أن التدفئة تعمل.
إيفا تتوقف أمام باب غرفة تشاي… لا تفتحه.
> إيفا (بصوت خافت):
هل تعلمين، يا ماري…
أول مرة رأيت تشاي، كان يبتسم وهو مصاب.
كأن الألم لا يعني له شيئًا… أو كأنّه يستحقه.
> ماري (بهمس مرتبك):
نعم… هو لا يشكو أبدًا.
> إيفا (تلتفت نحوها، نظرة ناعمة):
أخبريني، ماري…
هل كان قلبكِ ينبض حين رأيته يسير مثقلًا بعد كل مهمة؟
هل شعرتِ أنه يحتاجكِ… حتى لو لم ينظر إليكِ يومًا؟
> ماري (يخجل وجهها، ثم تهمس وكأنها تعترف لظل):
نعم…
كلما رأيته صامتًا، شعرت أن صمته يصرخ…
تمنيت فقط أن أمسك يده، أن أقول له… "كفى قتالًا، عد إنسانًا."
صمت.
ثم تبتسم إيفا، نظرة لا تُفهم…
تقترب ببطء من ماري، تنظر في عينيها مباشرة، ترفع يدها بلطف وتضعها على خد ماري.
> إيفا (بهمس ناعم):
آه… ماري…
كيف يمكن لقلوبٍ صغيرة مثلكِ أن تحب قاتلًا؟
> ماري (بصوتٍ مكسور):
لأن القتلة لا يولدون كذلك…
لأن داخله طفل ضائع… لا أحد يراه.
إيفا تنظر لها طويلًا… ثم فجأة، تغير وجهها.
النظرة تختفي.
العينان تصبحان جامدتين كأن لا روح فيهما.
اليد التي على خد ماري، أصبحت كأنها تمسك برقبتها الخفية.
> إيفا (ببرود، صوتها صار كأنه آلة):
تشاي لا يحتاج حبكِ.
ولا اهتمامك.
ولا حتى نظرتك.
القتلة لا يَصلحون.
وإن أضعفهم الحب، ماتوا.
> ماري (ترتجف، تهمس):
لِمَ تقولين هذا…؟
> إيفا (تقترب، تهمس عند أذنها):
لأنكِ أظهرتِ نقطة ضعفه.
والآن… عليَّ أن أمحوها.
لكنها لا تقتلها.
بل تبتعد.
وتقول وهي تسير:
> إيفا:
لا تقلقي، ماري.
لن أمسك بكِ…
أنتِ من سلمتِ نفسكِ لي.
ثم تدخل غرفة تشاي وتُغلق الباب خلفها…
وتترك ماري تنهار في الرواق، لا تدري: هل قتلت نفسها… حين أحبت؟
ضغطت إيفا على مقبض الباب، فصدر منه صريرٌ خافت…
فتحت الباب ببطء، كما لو كانت تخشى أن توقظ شيئًا نائمًا، لا أحدًا.
دخلت.
الغرفة مظلمة، الستائر مسدلة، النور شحيح… لكنّه يكفي.
كان تشاي جالسًا هناك.
جسده في الظل، لكن وجهه واضح.
لا يتحرك. لا يتنفس. لا يرمش.
عينيه… كانتا كأنهما فجوتان سوداوان لا قرار لهما.
عيني شيطان خرج من لعنته، ولم يعد يحتاج أن يُخفي نِيّته.
إيفا، رغم كل تدريباتها، رغم قسوتها… توقفت.
تسلّل البرد في عمودها الفقري.
لأول مرة، شعرت أنها لا تقف أمام بشر.
بل أمام شيء لم تصنعه يد الطبيعة…
بل يدها هي.
> (تفكير إيفا)
ما هذا؟
هذا… ليس تشاي.
هذا ليس إنسانًا.
هذه آلة حرب، تم ابتكارها من كل ما هو مظلم في التاريخ.
وهذه…
كانت خطتي.
لكن رغم الخوف…
رعشة غريبة مرّت في دمها.
انتصرت، أليس كذلك؟
ها هو يقف أمامها، نتيجة أعوام من التلقين، القتل، والحرمان.
> إيفا (تفكر، ببطء):
نجحتُ.
خلقتُ شيئًا… لا يعرف الرحمة، ولا التراجع، ولا الحياة.
إنّه ليس قاتلًا فقط…
بل لحظة انقراض محتملة.
ثم تحرّك تشاي.
ببطء شديد، رفع عينيه نحوها.
كأنّ نظراته تخترق جدران القصر.
وحين نطق، كان صوته أجش، خافت… وكأنّه لا يتكلّم من حلق، بل من جحيم.
> تشاي (بصوت منخفض، كأنه يأمر):
نادي لي بان…
و… أنزوي.
ارتعش الهواء في الغرفة.
تشاي لم يعد ينتظر أحدًا.
تشاي أصبح القائد.
تشاي لم يعد يبحث عن الانتقام… بل أصبح هو الانتقام نفسه.
دون أن تنبس إيفا بكلمة، كانت قد أعطت الأوامر.
وفي أقل من ربع ساعة، وصل بان وأنزوي.
فتح بان الباب أولًا، وعلى غير عادته… لم يلقِ تحية ولا تعليقًا ساخرًا.
الهواء في الداخل كان خانقًا.
جلس تشاي في ذات الموضع، يحدّق في الجدار كما لو كان يرى فيه شيئًا لا يمكن فهمه.
دخلت أنزوي بهدوء، وخطت نحو الجدار الآخر، تنظر إليه، دون أن تقترب.