رائحة البرد كانت أول ما يخترق أنوفهم.

‎في روسيا، لا يدخل الشتاء بهدوء، بل يصفعك من اللحظة الأولى، وكأن البلاد قررت أن تُظهر لك قوتها دون أن تنطق حرفًا.

‎تغطي الثلوج الأرصفة، وتتكوّم فوق أعمدة الإضاءة والأسطح، حتى بدت المدينة كلوحة رمادية مسحوبة اللون، تخنق كل شيء تحت بياضها الثقيل.

‎كان الهواء حادًا، يقضم الجلد قضمًا، ويجعل أنفاسهم تخرج بيضاء كالدخان.

‎الناس هنا لا يبتسمون في الشارع، لا يتبادلون الكلمات بسهولة.

‎وجوههم جادة، متجهمة، كأنهم أبناء الصقيع ذاته.

‎الرجال يضعون قبعاتهم الصوفية على رؤوسهم، والنساء يلففن أنفسهن بمعاطف طويلة تصل إلى الأرض.

‎كل واحد يمشي وكأنه يحمل داخله رواية من التعب والخسارة.

‎صوت الأحذية الثقيلة على الثلج،

‎صفير الريح بين زوايا الأبنية العالية،

‎هديرٌ بعيد لقطار يمر تحت الأرض،

‎وكل شيء… بارد.

‎المارة في الشوارع ينظرون بعيون نصف مغلقة، لا حب استطلاع، بل حذر.

‎في هذه المدينة، الفضول قد يُكلفك حياتك.

‎الأسواق الشعبية متناثرة في الأزقة، يبيع فيها العجائز الخبز الأسود والمخللات الروسية في أكياس بلاستيكية.

‎هناك طفل يركض خلف كرة حمراء، وفي الزاوية الأخرى رجل يبيع السجائر من علبة خشبية، لا يتكلم، فقط يشير.

‎مقاهي صغيرة تنفث دفئًا وهميًا من نوافذها المعتمة، وبخار الشاي يتصاعد خلف الزجاج المغطى بالندى.

‎ورائحة التبغ المحترق تختلط مع العطر الرخيص ومع الحساء الدهني الذي يُقدّم في أطباق معدنية.

‎وضعت سيدة "مين" خريطة صغيرة على الطاولة، وفوقها أوراق متناثرة، قصاصات صحف، صور، وعلامات حمراء رسمها أحدهم بعناية.

‎سيدة مين (بصوت هادئ، لكنها حازمة):

‎ـ "حسنًا، لا وقت للعواطف الآن… نحن نطارد عصابة لا نعرف شكلها، ولا مقرّها، ولا حتى عدد أعضائها."

‎هاكو (يأخذ إحدى الصور):

‎ـ "لكنهم حقيقيون. الضحية الأخيرة — رجل الأعمال 'إيغور ميخايلوف' — اختفى في وضح النهار، شارع مزدحم، كاميرات موجودة، لكن لحظة خروجه من المقهى… لا شيء."

‎ريكو (تنظر إلى صورة):

‎ـ "وجدوا حقيبته خلف متجره، نظيفة، لا بصمات، لا دم، فقط… رائحة خفيفة جدًا لمادة كيميائية، حسب التقرير."

‎كِرِن (يمد يده نحو ورقة):

‎ـ "اسم المادة: إيزوبنتان… تُستخدم في تجميد العينات الطبية. نادرة، ولا تُباع علنًا إلا للمختبرات."

‎جاي-شِن (يرفع حاجبه):

‎ـ "ومن يشتريها في موسكو؟ عندي لائحة. مستشفى قديم اسمه 'سيفيرني'… توقّف عن العمل قبل خمس سنوات. لكن قبل شهر، سُجّلت عملية شراء صغيرة باسمه، رقم تسجيل مزوّر."

‎سيدة مين (تهز رأسها):

‎ـ "ممتاز… هذا أول خيط."

‎هاكو (يشير إلى خريطة):

‎ـ "لاحظوا هذا… الحوادث الثلاث الأخيرة، كلها على شكل مثلث. النقاط متباعدة، لكن منتصفها تقريبًا… حي قديم مهجور اسمه 'ليسنوفا'. الشرطة لا تدخل كثيرًا هناك."

‎ريكو:

‎ـ "حي ليسنوفا؟ سمعت عنه من عجوز في السوق… قالت إنه بارد دائمًا، حتى في الصيف. لا يعيش فيه إلا المجانين أو من لا يملكون شيئًا ليخسروه."

‎جاي-شِن (يضع صورة جديدة):

‎ـ "قبل عشرة أيام، شوهدت شاحنة صغيرة من نوع 'غزال'، بيضاء، بلا لوحات، في المنطقة نفسها. عامل محطة وقود لاحظ أن أحد الركاب كان يرتدي معطفًا يحمل شعارًا صغيرًا على الكتف… ثعلب مجمّد."

‎سكت الجميع لثوانٍ.

‎صمت كثيف، ثقيل… ثم قالت سيدة مين:

‎ـ "اسمهم 'ثعالب الجليد' ليس من فراغ.

‎ربما يستخدمون مادة التجميد لإخفاء الجثث. أو لتجميد الضحايا أحياء. هذه ليست عصابة عادية… هؤلاء مدربون، ويعرفون كيف يخفون كل أثر."

‎كِرِن (بصوت منخفض):

‎ـ "والمشكلة… أننا لا نعرف هدفهم. لماذا يخطفون؟ لا فدية، لا رسائل، لا تهديدات."

‎هاكو (يميل إلى الوراء):

‎ـ "بعض العصابات لا تسرق المال. بل تسرق الوقت، والأصوات، والناس. هؤلاء مثل الظلال… يعيشون في الفراغات بين الكاميرات وبين الكلمات."

‎ريكو:

‎ـ "لكن لاحظوا شيء… كل الضحايا لهم علاقة واحدة: كلهم يتاجرون بمعلبات الغذاء في الشتاء. يعني شيء بسيط، ما العلاقة؟"

‎جاي-شِن (يفكر):

‎ـ "ربما العصابة تستخدم تلك المواد لشيء آخر. قاعدة مخفية؟ مختبر؟ مخزن تحت الأرض؟ نحن بحاجة لتحليل دقيق للمناطق القريبة من تلك المحلات."

‎سيدة مين (تكتب على الورقة):

‎ـ "جيد. الخطوات القادمة:

‎١. تقسيم المنطقة إلى ثلاث قطاعات.

‎٢. مراقبة الحي المهجور 'ليسنوفا' من مسافة.

‎٣. تعقّب أي نشاط غير طبيعي حول المستشفى المهجور.

‎٤. معرفة مصدر الشاحنة البيضاء.

‎٥. التواصل مع الصيدليات والمختبرات القريبة وسؤالهم عن مشتريات مشبوهة."

‎هاكو (ينهض):

‎ـ "وأنا سأتكفّل بالبحث في السوق الأسود… هناك ألسنة تتكلم إذا دفعت الثمن المناسب."

‎سيدة مين:

‎ـ "ممتاز… نتحرك قبل أن يجمدنا صقيعهم نحن أيضًا."

‎خرجوا واحدًا تلو الآخر،

‎وفي داخل الغرفة، بقيت الأوراق على الطاولة، تتطاير بفعل الريح التي دخلت من نافذة صغيرة مفتوحة،

‎كأن الهواء نفسه يريد أن يسرق بعضًا من هذه الأسرار

2025/08/03 · 6 مشاهدة · 708 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025