جلس فينسينت أمام المدفأة المشتعلة، مسترخيًا في كرسيه الخشبي القديم. كان لهيب النار يتراقص أمام عينيه، يشع بالدفء والضوء، لكن البرودة التي شعر بها لم تكن في الهواء بل في داخله. سؤال يراوده، قلق يزعجه. بدا أن راندولف الجالس أمامه، يدرك تمامًا هذا الصراع الداخلي.
تحدث راندولف بصوته الهادئ، وهو يحدق في النار. "قل لي ايها الصغير، كيف ترى العالم من حولك؟"
فكر فينسينت في السؤال للحظة. كان يعلم أن أي إجابة بسيطة قد لا تكون كافية، لكن لم يكن لديه خيار سوى التحدث بصراحة. "العالم؟... اليس هو كل شيء أمامنا؟."
ابتسم راندولف قليلاً، وكانت تلك الابتسامة كافية لتشعل فضول فينسينت. قال بصوت منخفض: "ليس حقًا."
رفع فينسينت حاجبه وهو متفاجئ، ولكن بقى صامتا.
أومأ راندولف برأسه بخفة، ثم تابع. "إن أردت أن تعرف ما كيف هو العالم، عليك ان تعرفه منذ البداية. كمثل انه لا يوجد منزل متين، من دون أساس جيد."
تراجع راندولف في مقعده، وأشار بيده نحو النار. "أخبرني، ماذا ترى هناك؟"
تبع فينسينت حركة يده، ونظر إلى النار المتراقصة. الحرارة كانت واضحة، واللهب يضيء الغرفة بنور خافت. "نار؟. أرى النار."
ابتسم راندولف، لكن ابتسامته كانت تحمل في طياتها الكثير من المعاني. "ليس تمامًا. ما تراه أمامك هو مظهر النتيجة، وليس المسبب. فكر في الأمر قليلا."
فكر فينسينت في الأمر مليا. بالطبع لن يكون جواب السؤال امر بسيط، ولكن فجأة لمعت فكرة في رأسه" السحر!".
ابتسم راندولف وقال:" نعم، ولكن ليس بشكل كامل. ما تراه هو مسار الاشتعال، الذي هو سبب اشتعال اي شيء في العالم".
شعر فينسينت بالارتباك، لكنه لم يقاطع. ترك لعقله المجال لاستيعاب الكلمات.
تابع راندولف، صوته يتسرب إلى عقل فينسينت كأنه يحفر فيه. "العالم بأسره يتكون من نسيج خفي. نسميه النسيج الكوني. إنه أساس كل شيء. كل ما تراه، تشعر به، أو حتى تتخيله، ينبع من هذا النسيج. وهو يتكون من عدد لا يحصى من المسارات."
" إذا، مسار الاشتعال، هو مكون النسيج الكوني؟". سأل فينسينت وقد بدأ يفهم قليلا.
"نعم، المسارات. يمكنك التفكير فيها على أنها قوانين هذا العالم. كل شيء – من أكبر الكواكب إلى أصغر جزيئات الهواء – يعتمد على هذه المسارات. مسار الاشتعال هو الذي يجعل النار ممكنة. التدفق يجعل المياه تتدفق. النمو يسمح للنباتات أن تنمو. كل شيء في الكون يعتمد على هذه المسارات."
هز فينسينت رأسه ببطء، محاولًا استيعاب الفكرة. "إذن... هل لكل شيء مسار خاص به؟"
ضحك راندولف بهدوء، ضحكة حملت مزيجًا من الحكمة والشفقة. "نعم ولا."
رفع فينسينت حاجبه، ينتظر المزيد من الشرح.
"نعم، لأن هناك مسارات لكل شيء تقريبًا: النار، الماء، الرياح، وحتى الحياة. لكنها ليست شاملة. هناك مفاهيم في هذا العالم لا يمكن اعتبارها مسارات. إنها موجودة، لكنها لا تضيف شيئًا إلى النسيج الكوني. خذ الخصوبة على سبيل المثال، او النمو، او التدفق، جميعها أمور مهمة ولا يمكننا ان تصور اختفائها. تخيل لو ان مفهوم التدفق اختفى، سوف تكون المياه مثل الجليد لا تتحرك، ولكنها ما زالت سائلة. او الخصوبة، تخيل الكارثة التي ستحدث إذا لم تكن هناك خصوبة". وضع راندولف وجه وكأنه خائف.
ضحك فينسينت قليلا على هذا. وإذ يأتي سؤال في باله
"ولكن... لماذا؟" سأل فينسينت، محاولًا ربط النقاط.
"ببساطة، لأنها ليست جزءًا أساسيًا من النسيج. هي مجرد فكرة، لا تنتج طاقة أو تأثيرًا. بينما المسارات هي القوى التي تحرك العالم. الفرق بين المفهوم والمسار يكمن في شيء صغير جدًا، شيء لا يمكن رؤيته."
تفاجئة فينسينت، ولكن لم يدعه راندولف ان يسأل، وإذ به يكمل.
الشيء الصغير، هذا معروف بإسم المانا"
"المانا؟" لم يسمع فينسينت بهذا الاسم من قبل، ولكن كان لديه توقع صغير عنها.
"نعم، المانا. التي هي جزيئات صغيرة غير مرئية، ويمكنك القول انها حالة المادة او العنصر قبل تكونه. كل مسار يضخ المانا التي قابله. مسار النار يولد مانا النار، مسار الهواء، يولد مانا الهواء. قس ذلك على جميع المسارات.
ساد الصمت للحظة، قبل أن يسأل فينسينت بصوت خافت. "إذن، المفاهيم التي لا تنتج مانا... ليست مسارات؟"
"تمامًا. المفاهيم التي لا تضخ مانا هي مجرد أفكار تكمل النسيج، لكنها ليست جزءًا منه."
كان هناك شيء في نبرة راندولف جعل فينسينت يشعر أن الأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو. "وكيف يمكننا استخدام المانا؟"
وقف راندولف من كرسيه، مشى ببطء نحو النافذة المطلة على الحديقة. كانت السماء مظلمة، والنجوم تتلألأ كأنها جزء من النسيج الذي يتحدث عنه.
" كما قلت، المانا هي جزيء غير مرئي. لذلك، بإعتقادك، كيف يمكن استخدامها.
فكر فينسينت، وهو يحاول ان يجد جواب منطقي لهذا" كيف؟ من المستحيل استخدام شيء لا يمكن رؤيته."
لم يجد تفسير مناسب او جواب لما قاله راندولف.
ضحك العجوز على ذلك " استسلمت بسرعة. حسنا، مثلما قلت، المانا شيء لا يمكن رؤيته، ولكن يمكن استشعاره". كانت توجد ابتسامة على وجه راندولف، بينما أعاد نظره نحو فينسينت.
" استشعار؟".
"نعم. الاستشعار هو القدرة على الشعور بالمانا من حولك. تخيل الأمر، وكأنه يوجد شخص ينادي عليك من بين حشد كبير من الناس، وجميعهم يصدرون أصوات عالية. كيف يمكنك ان تعرف من منهم ينادي عليك؟".
فكر فينسينت وكان لديه اجابة هاته المرة. "بالتركيز؟".
" بالضبط. من اجل ان تستشعر المانا، يجب ان يكون لديك تركيز، وصبر كبير، لان في عملية مثل هذه، من السهل الفشل بها".
بدأ فينسينت يبني تصور في رأسه حول كل شيء تحدث عنه راندولف لحد الان. بدى الأمر معقد، ولكن عند التفكير مليا به، كان يحتاج للكثير من التخيل من اجل فهمه.
" لكن، كيف اعرف انني استشعرت المانا، هل مثلا سوف اشعر بشيء؟".
ابتسم راندولف وقال:" اجل تقريبا. هذا الأمر يحتاج ليوم آخر، لانه ببساطة من الصعب التحدث عنه من دون تطبيق".
ضحك راندولف قليلا بينما جلس مرة أخرى، وعيناه تراقبان فينسينت عن كثب. "استخدام المانا ليس القوة الحقيقة، إنما هو وسيلة، تستخدمها من اجل ان تصبح اقوى."
شعر فينسينت وكأنه بدأ يرى العالم من منظور جديد تمامًا. كل شيء من حوله – النار، الهواء، حتى جسده – أصبح له معنى جديد. " واذا لم استطع ان استعمل هذه الوسيلة؟"
"حينها سوف تبقى بلا قوة. مثل العشب. نعم انت كائن حي، ولكن ليس لديك تأثير."
ساد الصمت مرة أخرى، لكن هذه المرة كان مليئًا بالتفكير. كان فينسينت يشعر بثقل المعرفة الجديدة، لكنه كان متحمسًا أيضًا. كانت هذه اللحظة بداية رحلته نحو اكتشاف القوة الحقيقية.
نظر راندولف إلى تلميذه، ثم قال بصوت عميق: "إذا كنت تريد الخروج من غابة القمر الشمالي، إذا تحتاج للقوة. وفي عالم مثل هذا ايها الصغير، القوة هي كل شيء. القوة هي التي تجلب لك الثروة، القوة هي التي تجلب لك المكانة، القوة في التي تجلب لك الاحترام والتقدير من الآخرين، او الخوف في بعض المرات. القوة هي التي تجلب لك حرية ان تختار طريقك."
توسعت أعين فينسينت قليلا. كان هذا ما يريده طيلة حياته، ان يختار طريقه الذي يريده، ان تكون لديه حياة آمنة يستطيع ان يفعل بها ما يريد.
في تلك اللحظة، انفتح باب لعالم جديد امام فينسينت.
________
رأيكم في الفصل