أخذ فينسينت نفساً عميقاً، محاولاً الحفاظ على تركيزه. كلما ركز أكثر، بدا وكأن هذه الأشعة أصبحت أكثر وضوحاً. كان يشعر بتدفق المانا يجري عبر جسده، لكنها لم تكن منسجمة، بل كانت أشبه بشلال جامح لا يعرف طريقه.
فجأة، اختفى كل شيئ، وشعر فينسينت بإندفاع مفاجئ للهواء من خلال اذنينه وعينيه.
"ماذا؟! ماذا حدث؟" سأل فينسينت بقلق.
هز راندولف رأسه مبتسماً. " احسنت. لقد تمكنت من استشعار المانا في وقت قصير جداً. هذا أمر نادر، خاصة بالنسبة لمبتدئ. لكن هناك مشكلة صغيرة..."
"ما هي؟"
أشار راندولف إلى البلورة التي بين يدي فينسينت، والتي بدأت تتصدع تدريجياً، حتى ظهرت فيها شقوق عميقة.
"البلورة؟ ماذا حدث لها؟"
"لقد استنفدت طاقتها، يا فتى. كل بلورة مانا لها حدود، ويبدو أنك استنزفت هذه بسرعة كبيرة."
نظر فينسينت إلى البلورة، ثم إلى يديه. "هل هذا شيء جيد أم سيء؟"
"كلاهما." قال راندولف وهو يجلس على الأرض أمامه. "هذا يعني أن لديك قدرة استيعاب مانا عالية، وهو أمر نادر ومميز. لكن في الوقت نفسه، يعني أنك بحاجة إلى مزيد من التدريب حتى تتمكن من السيطرة على تدفق المانا، وإلا ستنهك جسدك قبل أن تحقق أي تقدم."
"إذاً، ما الخطوة التالية؟"
ابتسم راندولف ابتسامة واسعة وأجاب: "سوف نستغني عن البلورة. الخطوة التالية ستكون استشعار المانا مباشرة من الطبيعة."
"من الطبيعة؟ كيف يمكنني ذلك؟"
"الطبيعة مليئة بالمانا، يا فتى. الأشجار، الماء، حتى الهواء من حولك. لكن استشعارها أصعب من البلورة، لأنها ليست مركزة. عليك أن تصفي ذهنك تماماً وتتواصل مع ما حولك. هذه خطوة حاسمة في تدريبك."
جلس فينسينت مرة أخرى وأغلق عينيه. حاول هذه المرة أن يركز على الأصوات من حوله: صوت الرياح التي تمر عبر الأشجار، همس العشب تحت قدميه، وتغريد الطيور في السماء. شعر بشيء غريب، وكأن العالم من حوله ينبض بحياة لا يمكن إدراكها بالعين المجردة.
كلما انغمس فينسينت في صمته، بدأ العالم من حوله يتلاشى تدريجياً. لم يعد يسمع أصوات الرياح التي تعصف بين الأشجار، ولا تغريد الطيور الذي كان يملأ المكان. لم يعد يشعر بملمس العشب تحت قدميه أو البرودة التي كانت تلامس بشرته. كل شيء اختفى، وكأنه انقطع تماماً عن محيطه.
في هذا الصمت العميق، بدأ فينسينت يشعر بشيء آخر، مختلف تماماً عن أي إحساس عرفه من قبل. كانت طاقة ناعمة، خفيفة، تكاد تكون غير محسوسة. لكنها كانت حاضرة، تملأ الفراغ حوله. ركز بعمق، محاولًا الانسجام معها، وكأنها تدعوه لفهمها.
في البداية، كانت الطاقة تتحرك بحرية، مثل مياه نهر جاري لا يعرف قيودًا. لكن ببطء، ومع تركيزه المتزايد، بدأ فينسينت يلاحظ نمطًا في هذا التدفق. كانت الطاقة تلتف حوله، تداعب أطراف جسده، ثم تتخلل أعماقه كأنها تبحث عن مكان ما للاستقرار.
شعر بشيء أشبه بنبض داخلي يتزايد تدريجياً. بدأ يرى في عقله صورًا غامضة: ومضات من الضوء تتحرك بسرعة، تشبه شرارات برق صغيرة في الظلام. كانت هذه الشرارات تتسلل عبر أطرافه، تشق طريقها ببطء نحو قلبه.
ثم، فجأة، شعر بشيء يتغير. لم تعد الطاقة تتحرك بعشوائية. بدت وكأنها تنسجم مع جسده، تستقر بداخل أعضائه، وتملأ كل زاوية فارغة فيه. كان شعورًا غريبًا ومبهجًا في آنٍ واحد، كأنه يكتشف جزءًا من نفسه لم يعرفه من قبل.
مرت دقائق، أو ربما ساعات، لم يستطع تقدير الوقت. كان غارقًا في هذا الشعور الغريب، في هذا الاتصال العميق مع المانا. لكنه لم يدرك أنه كان يقترب من الحد الذي يستطيع جسده احتماله. فجأة، شعر بثقل هائل يجتاح جسده، وكأن طاقة المانا التي استوعبها أصبحت عبئًا عليه.
فتح عينيه فجأة، وهو يلهث بشدة، وشعر بألم طفيف في رأسه وصدره. الهواء من حوله بدا ثقيلًا، وكأن جسده يرفض استيعاب المزيد.
راندولف، الذي كان جالسًا على بعد خطوات، لاحظ استيقاظ فينسينت. اقترب منه ببطء، وبقي صامتًا للحظة، ملاحظًا العلامات الواضحة للإرهاق على وجهه.
"كيف كان الأمر؟" سأل فينسينت بصوت ضعيف، محاولًا التقاط أنفاسه.
راندولف ابتسم قليلاً وقال: "لقد فعلت أفضل مما توقعت. لكنك دفعت نفسك إلى ما هو أبعد من حدودك."
نهض فينسينت بصعوبة، يشعر بأطرافه وكأنها مثقلة بوزن غير مرئي. لكنه، ورغم التعب، شعر بإنجاز كبير. لقد بدأ يفهم ما يعنيه السحر، وبدأ يدرك الطريق الطويل الذي ينتظره.
بعد عدة دقائق. استعاد فينسينت طاقته كلها، وشعر انه يستطيع ان يحاول مرة أخرى. كانت نيران الحماس تضيء من خلال عينيه.
ضحك راندولف قليلا عندما رأى هذا." حسنا. هناك طريقة تسهل عملية جمع المانا".
اضائت عيون فينسينت." حقا! ما هي ؟".
" المانا هي الوسيلة من اجل ان تفهم او تتقن المسار، ومن اجل ان تفهم المانا عليك ان تعرف طبيعتها".
رفع فينسينت حاجبا واحداً." يبدو ان هذا الأمر معقد".
ضحك راندولف وقال:" في البداية قد يبدو الأمر معقد ولكن مع التجربة سوف ترى انه عكس ذلك تماما. هيا، عد إلى نفس وضعيتك، وتعامل مع الأمر وكأنك تتأمل، ولكن هذه المرة ركز على محيطك، ليس على استشعار المانا".
أخذ فينسينت نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة ذهنه. أغمض عينيه واستحضر كلمات راندولف عن المانا. المانا ليست الهدف هذه المرة، بل فهم طبيعتها. حاول أن يفتح وعيه، لا ليستوعب المانا، بل من اجل ان يفهم طبيعتها.
مع كل لحظة تمر، بدأ إحساسه بالعالم يتغير. لم يعد يشعر بجسده كما كان من قبل. بدت أطرافه وكأنها تمتزج مع الأرض تحته، وكأن الهواء من حوله ينساب عبره لا حوله. لم تكن المانا شيئًا ملموسًا أو مرئيًا، بل كانت كالنبض الهادئ، تتردد في كل ما حوله، وفي داخله أيضًا.
كلما عمق تركيزه، ازدادت وضوحية هذا الإحساس. شعر بأشياء لم يشعر بها من قبل: الجذور الدفينة للأشجار التي تمتد عميقًا في الأرض، تدفق النسيم الذي يمر بلطف بين الأعشاب، حتى حركة الصخور الصغيرة التي بدت وكأنها تروي قصة وجودها.
كان فينسينت يحاول ألا يسيطر على هذه الأحاسيس، بل يتبعها. من ما قاله راندولف، إتقان المسار يأتي من المانا، واتقان المانا يأتي من فهم طبيعتها، ليس التحكم بها. التحكم هو النتيجة وليس الوسيلة.
كان شعوره ثقيلا الان. جسده لم يكن مستعدًا بعد لهذا النوع من الانسجام العميق. بدأ يشعر بضغط متزايد على صدره، وكأن الهواء يدفعه. او الارض كانت تسحقه .
فجأة، انفصل عن هذا الشعور. فتح عينيه بسرعة، يلهث وكأن الهواء كان غائبًا عن رئتيه. شعر بعرق يتصبب على جبينه، ويديه ترتعشان.
راندولف، الذي كان يراقبه من بعيد دون أن يتدخل، اقترب ببطء. "لقد قطعت شوطًا كبيرًا، فينسينت. لكنك تسرعت قليلاً."
نظر فينسينت إليه بصعوبة، يحاول استيعاب ما حدث." هل حقا هذا سيساعد على التحكم في المانا؟"
ابتسم راندولف برضى وأومأ برأسه. "اجل. تذكر المانا ليست سوى وسيلة. التحكم الحقيقي بها ليس في السيطرة عليها، بل في فهم طبيعتها. هذا الرابط الذي شعرت به اليوم هو أول خطوة في رحلتك."
نهض فينسينت ببطء، يشعر وكأن جسده أثقل من ذي قبل، لكن ذهنه كان أكثر وضوحًا. أدرك الآن أن ما ينتظره لم يكن مجرد تعلم التحكم في المانا، بل فهم اعمق لها، وفهم اعمق للمسارات.
مع هذا الإدراك، كان يعلم أن الطريق أمامه طويل، لكنه لم يشعر بالخوف. بل بالحماسة.
________
وأيكم في الفصل