"هيا نعود إلى الميتم قبل أن يلاحظ أحد غيابنا."
قال ليونارد تلك الكلمات بصوت خافت، لكن وقعها كان كوقع صرخة مكتومة وسط الظلام، وكأنها تنذر بالخطر القادم. كانت خطواتهم ترتجف على الإسفلت الرطب، وكأن الأرض نفسها تتنفس تحت أقدامهم. أحسوا وكأن كل ظل في الطريق يراقبهم، وكل نسمة ريح تحمل همسات الأسرار التي لا يريدونها أن تُكشف.
عندما وصلوا إلى الميتم، كانت المدينة قد ارتدت عباءة الليل، وأضواء المصابيح الخافتة ترسم على الجدران ظلالًا ملتوية كأنها أشباح ترقص في صمت. تسللوا بخفة القطط، يتفادون أي صوت قد يكشف حضورهم، وأي عين قد تسلط الضوء على خطيئتهم الصغيرة. كل منهم انسحب إلى سريره، كأن الأمان يكمن فقط في حدود تلك الأسرة المهترئة.
غرق فينسينت في نومه بسرعة، وكأن عقله قد أغلق أبوابه على ضجيج يومٍ مثقل بالأسرار. لكن النوم لم يكن ملاذًا آمنًا؛ كان أشبه ببوابة تُفتح على عالم آخر، عالم تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والخيال.
بدأ الحلم كدخان كثيف يتسلل عبر شقوق وعيه. الظلام كان كثيفًا، لكنه لم يكن مظلمًا بالمعنى التقليدي، بل أشبه بمحيط بلا قاع، يغمره شعور غريب بأنه ليس وحده. وفجأة، انفجر المشهد أمامه: أرضٌ مشتعلة، اللهب فيها يتراقص كما لو كان يحتفل بفنائه، يتلوى ويرتفع كأفعى تتوق إلى سماء لا يمكنها لمسها. ثم، فجأة ودون سابق إنذار، خمدت النيران، وكأن يدًا غامضة قد أمرت السكون بأن يتسلط عليها.
لكن السكون لم يجلب السلام. من تحت الأرض، خرجت كائنات ميتة، عيونها جوفاء وأجسادها ملتوية كأنها لوحات كابوسية لفنان مهووس. صعدت إلى السماء التي كانت قد بدأت تتشقق، وكأن القمر يذرف دموع من الفضة المقدسة.
من الشقوق المتنامية في السماء، تدفق ضوء فضي باهت. كان الضوء أشبه بنصل بارد يمزق سواد الليل. ووسط ذلك المشهد الغريب، هبطت رماح فضية من السماء كعاصفة غاضبة، تقطع الكائنات الميتة وتسقطها كأوراق خريفية تهوي بلا حياة.
شعر فينسينت حينها أن العالم بأسره قد بدأ يلتف حول نفسه. الزمن نفسه أصبح أشبه بسطح ماء مشوّه، يلتوي في دوائر لا نهائية. وفي مركز ذلك الالتواء، ظهر شكل مهيب. لم يكن حجمه عظيمًا، لكن حضوره كان طاغيًا. عيناه، بلونهما الأخضر الساطع، كانتا أشبه بمشاعل تسلط الضوء على جوهر العالم ذاته. كل شيء حوله بدا عديم الأهمية، حتى السماء الممزقة بدت وكأنها تخضع لسطوته.
ثم ظهر كيان آخر من العدم. كان يرتدي رداءً أسود طويلًا، يرفرف مع الريح كما لو كان قطعة من الليل ذاته قد تجسدت في شكل إنسان. السيف الأسود الذي يحمله، والمحفور بنقوش بنفسجية متوهجة، كان يبدو كأنه يحمل أسرار الكون نفسه. ورغم وقوفه الهادئ، كانت طاقته تضج بهالة قاتلة لا يمكن إنكارها.
وفي ذروة الحلم، ظهرت أمام فينسينت كلمة واحدة. لم تُكتب على الأرض أو في السماء، لكنها انبثقت كأنها محفورة في الهواء ذاته: "حرب السيادة."
استيقظ فينسينت فجأة، يلهث وكأنه قد خرج لتوه من أعماق بحر غاضب. كان جسده مغطى بالعرق البارد، وقلبه ينبض بجنون كما لو أن شيئًا ما يطارده حتى في يقظته. حاول تهدئة نفسه، لكن الكلمة التي رآها بقيت محفورة في ذاكرته كجرح لا يندمل. أشعة الشمس الصباحية كانت تتسلل من النافذة، تلقي بظلالها الذهبية على الغرفة، لكن دفء الضوء لم يخفف من برودة الشعور الذي أحاط به.
"أوه، أنت مستيقظ... ما الخطب؟"
جاء صوت راندولف من خلفه، وكان مزيجًا بين السخرية والقلق. التفت فينسينت إليه ببطء، محاولًا جمع شتات نفسه.
"لا شيء... مجرد حلم."
قالها فينسينت، لكن صوته كان يفتقر إلى الإقناع.
رفع راندولف حاجبًا بنظرة ثاقبة: "حلم؟ لم أرَ حلمًا يجعل شخصًا يبدو وكأنه نجا لتوه من معركة. أخبرني، ما الذي رأيته؟"
تردد فينسينت للحظة، لكنه شعر بأن ما رآه كان أكبر من أن يحتفظ به لنفسه. بدأ يروي الحلم، تفاصيله الغريبة، الكائنات التي ظهرت، والشكل المهيب، والكلمة الأخيرة التي انبثقت أمامه.
عندما ذكر فينسينت كلمة "حرب السيادة"، اتسعت عينا راندولف على الفور. كان في وجهه خليط من الصدمة والخوف، ويداه ارتجفتا لوهلة قبل أن يستعيد رباطة جأشه.
"هل تعرف شيئًا عن هذا؟" سأل فينسينت، صوته يحمل مزيجًا من الخوف والفضول
جلس راندولف على كرسيه العتيق، متكئًا بظهره إلى الخلف كما لو أن ثقل القرون ينهال على كتفيه. ألقى نظرة عميقة على فينسينت، وكأنما يستعد للكشف عن سر يخشى حتى أن يلفظه الهواء.
"اسمع ايها الفتى، ما سأقوله مهم جدا، اكثر أهمية من اي شيء قد تراه او تسمعه في حياتك." قالها بصوت مهيب، عيناه تلمعان بوميض من الحذر. "أصغِ جيدًا، فهناك قلة قليلة ممن يعرفون هذه الحقيقة."
أومأ فينسينت بصمت، بينما تصاعدت الرهبة بداخله.
استنشق راندولف نفسًا عميقًا قبل أن يبدأ الحديث، كمن يحفر في أعماق ذاكرته. "قبل زمن بعيد، بعيد جدًا، عندما لم يكن عالمنا أكثر من أرض ممتدة بلا نهاية، بلا غابات ولا جبال، ولا حتى السماء التي نراها اليوم... كان كل شيء مجرد فراغ. وفي لحظة غامضة لا يعرفها أحد، انبثقت قوة لا توصف. قوة هائلة قلبت الزمان والمكان، وجعلت الأرض نفسها تشتعل بالحياة."
كانت الكلمات تتردد في عقل فينسينت كأصداء طاعنة في القِدم، فأضاف راندولف بنبرة أخفض، وكأنما يخشى أن يستمع أحد: "هذه القوة، بعد أن تركزت في بقعة واحدة من الأرض، خلقت أول كائنات حية مشت على هذا العالم."
"ومن كانوا هؤلاء؟" سأل فينسينت بحذر، وكأن الإجابة نفسها قد تغير كل شيء يظنه حقيقة.
"المتسامون العشرة." قال راندولف، صوته صارم وكلماته تحفر عميقًا في وعي فينسينت. "كائنات تفوقت على كل ما أتى بعدها. كل منهم أتقن مسارًا خاصًا من القوة، وارتفع فوق بقية الكائنات الحية."
ازداد الفضول تأججًا في صدر فينسينت. "وما هي مساراتهم؟"
ابتسم راندولف ابتسامة خفيفة، كمن يرحب بفضول تلميذ جيد. "أولهم كان متسامي الظلام، الذي سيطر على قوة الظلام المطلقة. ثم جاء متسامي الواقع، سيد الحقيقة والمادة. بعده متسامي اللهب، الذي أشعل الشرارة الأولى في هذا العالم. بعد ذلك، متسامي الغضب، قوة العواصف الهائجة في قلوب المخلوقات."
توقف للحظة، وكأنما يحصي الأرواح التي تركها الزمان خلفه، ثم أكمل: "ثم جاءت متسامية المياه المقدسة، التي منحت الحياة للبحار. متسامي الموت، الذي وضع حدود النهاية لكل شيء. متسامي الليل، سيد الظلال ورفيق القمر. متسامي العواصف، الذي جلب الرياح والرعد. وأخيرًا، متسامية القمر الفضي، أصغرهم جميعًا، لكن... قوتها كانت هبة لم يكن العالم ليستوعبها بسهولة."
" ولكن هكذا هم تسعة وليس عشرة". سأل فينسينت بإستغراب.
" اجل، هذا لان واحد منهم كان غامض جدا، اكثر من اي احد آخر منهم، لدرجة انه لا يوجد احد يعرف اسمه".
تفاجئ فينسينت
في تلك اللحظة، شعر فينسينت كأنه يسبح في بحر من الأسرار. "وما الذي فعلوه؟"
"ما فعلوه يا فتى، هو أنهم صنعوا الحياة كما نعرفها الآن. من كل واحد منهم، انبثقت أعراق وأمم. من متسامي الغضب، جاءت العمالقة والبرابرة، أجداد البشر. ومن متسامية المياه المقدسة، جاءت الوحوش البحرية وكل ما يعمر المحيطات. متسامي الليل خلق جان الظلام ومصاصي الدماء، بينما متسامي العواصف أنجب الكائنات الطائرة ووحوش الرياح."
ابتسم راندولف، ثم أردف: "أما متسامية القمر الفضي، فقد كانت أم جان الأقمار."
رفع فينسينت حاجبًا متسائلًا. "جان الأقمار؟ أليس الجان جميعهم متشابهين؟ وما الفرق بين الليل والظلام؟"
ضحك راندولف بهدوء، وكأن سؤال فينسينت أيقظ ذكريات قديمة. "ليس حقًا، يا فتى. جان الظلام يولدون من الظل والدم، طبيعتهما عنيفة وغامضة. أما جان الأقمار، فهم أنقى، يتفرعون إلى ستة أنواع، لكن قصتهم طويلة تحتاج يومًا بأكمله لروايتها."
لاحظ فينسينت لمحة من الفخر تزين صوت راندولف عندما تحدث عن جان الأقمار، لكنه لم يتوقف ليسأل، إذ أكمل راندولف بسرعة: "أما عن الليل والظلام... الظلام هو جوهر كل ما هو غامض، كل ما لا يمكن إدراكه. أما الليل فهو فرع منه، مرتبط بالسكينة والغموض."
أومأ فينسينت بإعجاب. "إذا، بمعنى آخر، يمكن أن يكون هناك متسامون من مسارات متشابهة؟"
أومأ راندولف بثقة. "نعم، متسامي الظلام كان أول من أتقن هذا المسار الرئيسي. بينما متسامي الليل، الذي جاء بعده، استمد قوته من فرع أقل شمولية، لكنه لم يكن أقل رعبًا."
____
رأيكم في الفصل