كان فينسينت يترنّح بخطوات غير ثابتة تحت أشعة الشمس التي تسللت بين أغصان الأشجار. رغم دفء الضوء، لم يقدر على إزاحة البرد العميق الذي تسرب إلى عظامه داخل الكهف. الرطوبة كانت لا تزال تلتصق بملابسه وجسده يرتجف قليلاً، لكن التنفس أصبح أسهل، والسماء... آه، السماء كانت زرقاء.
"وأخيرًا... أخيرًا..." تمتم بصوت ضعيف، يكاد يكون همسًا.
استند إلى جذع شجرة قديمة، يلتقط أنفاسه المتقطعة. كل شيء كان هادئًا بشكل مريب. لا ضجيج، لا نداءات طيور... فقط النسيم يحمل معه رائحة التربة الرطبة.
لكن هذا الهدوء لم يدم طويلاً.
"فينسينت!"
صوت عميق وحاد شق السكون، صوت يعرفه جيدًا. التفت بسرعة، وقد انعكست ملامح المفاجأة على وجهه الشاحب.
من بين الأشجار ظهر راندولف، الرجل العجوز طويل القامة بلحيته الرمادية وعباءته السوداء الممزقة عند الأطراف. يداه محكمتان خلف ظهره، وعيناه الرماديتان تلمعان بحذر وقلق.
"أنت...!" تلعثم فينسينت.
"لقد تأخرت يا فتى!" قال راندولف بإبتسامة ضخمة على وجهه الشاحب. ضحك قليلا قبل ان يقول:" لقد أخذت وقت اكثر مما توقعت".
كان فينسينت يحاول ان يستجمع قوته ويقول له اكبر كلمة بذيئة عرفها في حياته، ولكن عندما تحرك شعر بالخدر في قدماه وكاد ان يسقط على الارض العشبية لولا مساعدة راندولف له في اللحظة الأخيرة.
" واو، تمهل يا فتى، جسدك متضرر لتفعل اي حركة".
زفر فينسينت من ما سمعه." لا تجعلني اضحك، قبل قليل كنت اقاتل وحش ما". ابتسم راندولف وهز رأسه." لقد قلتها، قبل قليل. بمعنى انه لا يمكنك الان... حسنا لا يهم، لنعد للمنزل".
حمل راندولف فينسينت على كتفه، بمعرفته انه لن يستطع المشي بشكل جيد. بينما كان يسير، خف عقل فينسينت وهو على كتف راندولف، وشعر بالراحة التي لم يشعر بها من قبل. بعد كل ما حدث، كان يستحق بعض الراحة، وهذا اخيرا ما سيحصل له.
' منزل... ههه، كم هي كلمة غريبة'.
بعد ذلك، شعر بعيناه وهي تصبح اثقل، وبعد قليل اغلقهما وغط في النوم.
....
النسيم الليلي كان يهمس بأسرار قديمة بين الأغصان العالية، والسماء اكتست بلون أرجواني داكن مرصّع بنجوم بعيدة، كأنها ثقوب في ستار أسود سميك. كان راندولف يسير بخطوات هادئة، يحمل جسد فينسينت المرهق على كتفه كما يحمل الجندي رفيقًا سقط في ساحة المعركة.
الصمت كان ثقيلًا. لم يكن الصمت الذي يمنح الراحة، بل ذلك النوع الذي يختبئ تحته خطر مجهول، كأنه يستعد للانقضاض على أول نفس يتجرأ على كسره.
"ما زال مجرد طفل... على الأقل في هذا العالم"
راودت راندولف تلك الفكرة مجددًا وهو ينظر إلى وجه فينسينت النائم، وقد بدا أضعف من أي وقت مضى. خدوشه وكدماته رسمت خريطة لمعركة غير متكافئة خاضها بكل شجاعة.
"الأطفال لا يجب أن يحملوا أعباء العالم..." تمتم بصوت بالكاد يسمع، كأن الكلمات كانت موجهة لنفسه أكثر من أي أحد آخر.
شد على قبضته وهو يتجاوز جذور الأشجار البارزة. كان دربه واضحًا في ذهنه، محفورًا كالنقوش القديمة التي لا تمحوها العصور.
خف على قبضته وبسطها وفردها امامه، ايضا مررها بخفة، لتبدأ خطوط زرقاء خافتة بالظهور على الأرض. تعاويذ حماية قديمة، تعاويذ نسي معظم السحرة كيف تُستخدم.
توقف للحظة، التفت برأسه لينظر إلى ظلام الأشجار من خلفه. لم يرَ شيئًا، لكنه كان واثقًا أن شيئًا ما كان هناك. ظل، أو ربما شخص... أو مجرد ذاكرة قديمة ترفض الرحيل.
زفر نفسًا طويلاً وتابع السير.
كانت خطواته متزنة، كأن جسده يعرف هذا الطريق جيدًا حتى دون أن يراه. لكنه لم يستطع منع نفسه من التفكير في الماضي؛ في الليالي المشابهة لهذه، عندما كان هو الشخص الذي يتم حمله بعيدًا عن الخطر.
"الوقت يمر يا راندولف... العالم لن ينتظرك."
تردد صدى تلك الكلمات في رأسه، ذكرى صوت قديم نسي صاحبه.
بعد فترة طويلة من السير، ظهر ضوء خافت بين الأشجار—ضوء نار مشتعلة من بعيد. كان هناك كوخ خشبي قديم، يكاد يبدو وكأنه جزء من الغابة نفسها، كأنه نما من بين جذور الأشجار.
توقف راندولف عند الباب للحظات، يتأمل الدخان المتصاعد من المدخنة الخشبية، والظلال الراقصة خلف النوافذ الصغيرة.
"منزل..." تمتم الكلمة بصوت منخفض كأنها كانت غريبة عليه.
دفع الباب الخشبي بكتفه ودخل بخطوات هادئة. المكان كان بسيطًا؛ مدفأة حجرية قديمة مشتعلة، طاولة خشبية مليئة بالكتب المتربة، ورفوف مليئة بالقوارير الزجاجية التي تحتوي على سوائل بألوان غريبة.
توجه إلى السرير القشي الذي طال انتظاره من اجل شخص لينام عليه، وضع فينسينت برفق عليه. كان الصبي غارقًا في النوم، أنفاسه خفيفة ووجهه الشاحب يبدو أهدأ تحت وهج النار الخافت.
غطّاه ببطانية صوفية سميكة، وتأكد من أنه مرتاح قبل أن يستقيم ببطء.
ظل يحدق فيه لوهلة، قبل أن يبتعد بخطوات هادئة نحو الطاولة الخشبية، وبدأ يفك أزرار عباءته الثقيلة.
مد يده إلى إحدى القوارير الصغيرة على الرف، وسكب سائلًا أزرق فاتحًا في كأس صغير. شربه دفعة واحدة، وسعل قليلاً من مذاقه المرّ.
" لقد اتى هذا الوقت بسرعة، لدرجة انني لم انتبه."
جلس على كرسي خشبي قرب المدفأة، يحدق في ألسنة اللهب المتراقصة. عيناه الرماديتان كانتا مشوبتين بظل من القلق... وشيء آخر، شيء أعمق بكثير: الخوف.
رفع نظره نحو السقف الخشبي، كأن عينيه تخترقان الجدران نحو السماء المظلمة بالخارج. كانت عيناه لديهما لون خافت من الرماد، وكأنهما يخسران حياتهما.
"الظلام يقترب... الوقت يداهمني...."
صوت النار وهي تتراقص كان هو الصوت الوحيد الذي يملأ الفراغ الثقيل في الغرفة.
أغمض راندولف عينيه لوهلة قصيرة، لكنه لم يجرؤ على النوم. كانت هناك أشياء كثيرة لا تزال غير مكتملة، وأخطار كثيرة تتربص خلف هذا الهدوء الزائف.
في الخارج، كانت الرياح تعوي كأنها تنقل رسائل مشؤومة من مكان بعيد. أما في الداخل، فقد كان المكان هادئًا... لكنه لم يكن آمنًا.
بعدها، ذهب إلى الغرفة المجاورة، وأخرج مكعب مظلم، كان يبدو وكأنه مصنوع من الخشب او اي مادة صلبة، ولكنه كان يعرف اكثر من اي شخص كم هو اثمن من اي مادة أخرى.
ظهر ضوء اصفر خافت منها، وبعدها بدأ يتحدث.
بعد ان انتهى وضع المكعب على الطاولة وخرج من الغرفة، بعدها أخذ الحقيبة الصغيرة، وعصا خشبية مثل اي عصا أخرى. بعدها فتح باب الكوخ وخرج.
عصف الهواء بجسده الذي بدأ يهون ويضعف، نظر إلى الخلف، بعدها أكمل سيره للأمام.
"حين يعصف الظلام بأركان الحياة، ويبتلع الفجر آخر أنفاسه، يولد ضوء خافت من رماد التضحية. عندما يموت الجميع وهم يتشبثون بأمل الحياة، يبقى من لم يرغب بها أصلًا. وعندما يختار من أراد الحياة أن يفديها بروحه، يبقى العمود الذي حمل عبء الرحلة، صامتًا... ثابتًا... شاهدًا على كل شيء."
هذا كان قول مشهور، على الأقل قولٌ قد انشأه من اجل هذه اللحظة، لم يكن يعرف المستقبل، ولكن يعرف ما هي أركانه.
" مهما يكن... لقد انهيت دوري بالفعل".
_______
رأيكم في الفصل
واعتذر عن اي اخطاء، كتبته وانا على وشك النوم