الضوء الخافت للمدفأة ألقى ظلالًا مرتعشة على جدران الكوخ الخشبي. كان المكان هادئًا، فقط صوت أنفاس فينسينت الهادئة وفرقعة النار يملآن السكون. الغطاء الصوفي كان دافئًا، لكن برودة غير مرئية كانت تتسلل عبر الغرفة، كأنها ذكرى لم تغادر بعد.
فتح فينسينت عينيه ببطء. لم يكن متأكدًا كم من الوقت نام، لكن الألم الخافت في جسده كان كفيلاً بتذكيره بكل شيء. حاول النهوض، لكنه شعر بضعف غريب في أطرافه، فقرر البقاء مستلقيًا.
كان الكوخ هادئا، لدرجة انه استطاع ان يسمع صوت الهواء في الخارج، صوت الهواء وهو يترتطم بالأشجار وجدران الكوخ. كان الهدوء شيئا اصبح فينسينت يحبه وحتى كان في بعض المرات يتمنى ان يبقى في صمت لبعض الوقت.
على عكس الماضي، حيث كان الصمت يملأه خوفًا وقلقًا؛ صمت الكهوف المظلمة، صمت الفراغ الذي يسبق الهجوم، صمت الأفكار التي كانت تمزق رأسه ليلًا. لكنه الآن، وللمرة الأولى منذ فترة طويلة، كان الصمت هنا مختلفًا... كان سلامًا.
تأمل ألسنة اللهب المتراقصة في المدفأة للحظات، ثم أخذ نفسًا عميقًا. الهواء هنا كان نقيًا، محمّلًا برائحة الخشب القديم والعشب الرطب.
أرغم نفسه على النهوض على الرغم من الألم الذي شعر به، وقف على قدميه الخدرتان وتحرك في ارجاء الكوخ بحثا عن راندولف. ذلك عندما وصل للغرفة المجاورة، عندما دخل، اول ما جذب نظره كان المكعب الصغير على الطاولة.
اقترب اكثر وجذبه إلى كفه، نظر اليه بتمعن والى النقوش الصغيرة التي على حوافه، نظر إلى كل المكعب الذي كان متشابه من جميع الجهات.
ولكن عندما نظر شد قبضته عليه، ظهر ضوء اصفر خافت من جوانبه. تفاجئ فينسينت ووضع المكعب على الطاولة بسرعة، لم يكن يظن ان راندولف قد يضع له غضو خطير، ولكن لم يكن يظن ايضا ان اغراضه ستكون آمنة في أيدي شخص لا يعرف شيئا عنها، مثله تماما.
تشكل الضوء الأصفر ليتحول لخطوط بيضا تعرض امامه في الهواء، تجمعت الخطوط لتشكل احرف، وتجمعت الأحرف لتشكل كلمات، وهكذا حتى كان امام فينسينت جمل كثيرة.
بدأ يقرأ فينسينت وهو كان يشعر بأن راندولف من فعل هذا. وتأكد عندما بدأ في القراءة.
" مرحبا يا فينسينت، إذا كنت تقرأ هذا، إذا أنا لم اعد متواجد. لقد ذهبت بالفعل، ولن أعود، في الحقيقة لن أعود اخيرا... لقد هربت من هذا المصير المحتوم لمدة قد لا تصدقها، في الحقيقة حتى أنا لا اعرف كيف استطعت ان أعيش لهذه المدة."
" لقد ذهبت إلى مكان افضل، حسبما اعرف... مكان قد اجتمع فيه مع امنا العظيمة، مكان هادئ اكثر من هذه الغابة، مكان حيث يتواجد الماء النقي من دون ان يكون مسموم ببعض النباتات، مكان ذو هواء نقي تستطيع ان تستنشقه من دون ان تخاف من ان يهجم عليك وحش ما... لكن لا يهم الان، ما يهم هو انت..."
" سوف اقول كيفية الخروج من هذه الغابة، لذلك اصغي جيدا، او اقرأ جيدا ههه... حسنا هذه كانت نكتة سيئة... على اي حال، ابحث في غرفتي عن اي شيء ثمين، مهما كان، إذا شعرت انه ثمين فخذه، بعدها في النهار، عندما تكون الشمس حارقة في الأفق، اذهب نحو الشمال، شمال الكوخ اقصد، سوف تصل لنفق في النهاية بعد ان تتجاوزه ستجد انك في سهل صغير، تقدم للأمام حتى تسمع صوت ماء غزير، ستجد قرية ضخمة، ولكن لا تتوتر، ايضا أبقى في الخفاء ولا تدع احدا يراك، ابحث عن قزم عجوز يعدى كالديرون لون بشرته رمادية، سيكون في مبنى لديه لافتة مرسوم عليها سندان، سيستطيع مساعدتك في الخروج... ايضا.."
" لقد انهيت تقوية اعضائك كلها، كم هو إنجاز قد أكون فخورا به جدا لو كنت متواجد، اعلم انه ليس امر سهلا لفعله، ولكن ايضا ليس صعبا، كنت اعلم من البداية انك تستطيع فعلها، في الحقيقة اعلم انك سوف تكون لديك إنجازات اعظم من هذا، ولكن لا تغتر بنفسك يا الفتى، في هذا العالم، يمكنك ان تكون اي شيء تريده ولكن بحدود، يمكنك ان تكون ملكا، ولكن لا تكن طاغية، يمكنك ان تكون تاجرا ولكن لا تغش، يمكنك ان تكون محارب، ولكن لا تكن جبانا... ولكن الأهم، هو ان لا تنسى حلمك وهدفك، في هذا العالم، الشخص من دون هدف، مثل الشخص الميت، لا يوجد فرق بينهما".
" كم كنت اود ان أكون متواجد في بقية رحلتك هذه، ولكنني اعرف اكثر من اي شخص كم هذا مستحيل... هنالك الكثير من الأشياء التي لم اعلمك إياها، ببساطة، لأنه ليس دوري ان اعلمك، في القريب العاجل، سوف تجد نفسك في مكان غريب، مكان لن تتصور انك قد تتواجد به، هناك سوف تتعلم كل شيء... ايضا، كم أتمنى لو كنت تشعر بنفس المشاعر التي أشعرها تجاهك.. هل تعلم كم كنت أتمنى حفيدا، ولكن للأسف سلالتي الوحيدة قد ماتت منذ مدة طويلة، في الحقيقة لدي حفيد ولكن لا يعلم عني اي شيء... لا تتعب نفسك في البحث عنه، لأنكم قريبين من بعضكم اكثر من اي شيء آخر. ايضا إذا أصبحت قوي كفاية لتعود للغابة، يمكنك زيارتي، بالطبع ليست بالطريقة التقليدية. على اعلى تل حيث يبزغ الفجر بلون السماء الزرقاء في فصل الشتاء، سوف أكون متواجد هناك".
" حسنا اظن انني تحدثت كثيرا... ابقى امنا يا فتى، ولا تنسى هدفك..".
وقف فينسينت صامتًا أمام الكلمات المتوهجة التي بدأت تتلاشى ببطء، كأنها تودعه بنفس الطريقة التي ودّعه بها راندولف. بدا أن الهواء نفسه يحمل ثقل الكلمات، كأن الكوخ امتلأ بأشباح ذكريات لا يريد أن يواجهها.
كان المكعب لا يزال دافئًا في كفه المرتجفة، لكن الدفء لم يكن مريحًا؛ كان ثقيلًا، وكأنه يحمل عبئًا لا يخصه. رفع رأسه ونظر حوله، إلى الجدران الخشبية التي بدت وكأنها تحتضن سكونًا أبديًا
كان يشعر بشيء غريب، ثقيل على قلبه مثل الصخرة الضخمة التي تضغط عليه، نعم، كان يعلم بالضبط ما كان هذا الشعور.
في الحقيقة لقد شعر به كثيرا من قبل، كان يشعر بالفراغ الذي يأتي بعد ضربة موجعة، ولكن لم تكن الضربة جسدية.
" في هذا العالم، يمكنك ان تكون اي شيء، ولكن بحدود".
ترددت هاته الجملة في رأسه عدة مرات، وهو يفكر بها بدأت بعض من ذاكرته تعود. لم يكن راندولف مجرد رجل عجوز قد علمه بعض الأمور في هذا العالم، بل كان مثل "العائلة" او كان على وشك ان يكون لولا انه مات الان. كان فينسينت يبحث عن عائلة طيلة حياته... الميتم، لم يعد متواجد الان... الأخوية التي كان بها، فقط أشخاص يعدوا على الإصابة كان يمكن ان يثق بهم، كما انه لم يعد في عالمه الان.
والان، عندما ظن انه كان هنالك شخص يهتم به في هذا العالم، قد ذهب. سار فينسينت في طريق لم يعلمه طيلة حياته، في الحقيقة لم يكن لديه خيار سوى اخذه.
كان وكأن هذا العالم يعيد ما حدث له من قبل، كان يعلم هذا الأمر، ويعلم ما ينتظره، لا شيء سوى العزلة.
إذا كان كل احد يتقرب منه سوف يهذب، إذا لن يقترب من اي احد، إذا كان عليه ان يكون مثل الفأر في جحره حتى لا يختلط مع الناس، إذا فليكن.
ما الذي جناه في الاساس من تعامله مع الآخرين مثل البقية، لا شيء...
بعد ذلك، بحث في كل الخوخ وجمع كل شيء ثمين مثلما قال راندولف، ووضعهم في حقيبة صغيرة وجدها، بعد ذلك خرج من الكوخ.
كانت الشمس ساطعة، ولكن كان الهواء بارد، والأشجار تعصف بصوت الحفيف الذي قد سمعه مئة مرة من قبل، لم يكن هنالك صوت للحيوانات او العصافير، مجرد الهدوء.
تذكر فينسينت شيئا قد قرأه ذات مرة في كتاب ما، لم يكن من محبي القراءة ولم يفهمها عندما قراءها حتى ولكنه فهمها الان.
" الوحدة ليست غياب الناس من حولك، بل غياب الشعور بأنك تنتمي لهم، ورفضهم لك".
وهكذا، بدأ فينسينت سيره نحو الشمال، والى مستقبل لن يتوقعه حتى في اكبر أحلامه الجامحة.
________
رأيكم في الفصل