⏳
السنة: 9984 من العصر الرابع – إمبراطورية فاليريا – بارونية داركلين
---
ليل مختلف...
كان ليلًا طويلًا على غير العادة، ليلًا حمل في طيّاته صمتًا غير مألوف…
الريح التي اعتادت أن تصرخ بين أشجار الشربين لم تهب،
والذئاب التي تسكن تخوم الغابة السوداء لم تعوِ،
كأن العالم كلّه عقد أنفاسه، في انتظار شيء لم تُدركه القلوب.
فوق هضبة عالية تحيط بها أشجار كثيفة، تربّعت قلعة داركلين كظلٍ قديم لا يزول، مشيدة من الحجر الأسود، وكانت نوافذها المضيئة في تلك الليلة تشبه عيونًا ساهرة.
الثلج الذائب تشبّث بالحواف، والدخان ارتفع من مواقد الحجر.
في قلب القلعة، خلف أبواب مغلقة، كانت سيدة الدار تُعاني.
"آآآه!!"
كانت روزاليا ، زوجة البارون، تشدُّ على يد القابلة بألم، بينما تُنقل أوامر سريعة بين الخادمات، والشموع تُنقل من موضع إلى آخر.
على الجانب الآخر، وقف البارون داركلين ، رجلٌ في منتصف العمر، ذو وقفة صارمة ونظرات قلقة، يتابع دون تدخل.
لم يكن التوتر ظاهرًا على وجهه، لكن يده كانت تشدّ على مقبض سيفه بين لحظة وأخرى.
---
لحظة الميلاد
"ادفعي، سيدة روزاليا! لقد اقتربنا!" صاحت القابلة.
ثوانٍ طويلة من الصمت.
ثم صرخة بكاء.
بكاءٌ طبيعي، صادق، حادّ النبرة.
شهقت الخادمة "إليسا":
"طفل سليم! إنه يبكي!"
أمسكت القابلة بالمولود ورفعته نحو النور.
كان ذا بشرة وردية، وملامح طفولية عادية، لا شيء فيها يلفت الانتباه سوى ذلك البكاء القوي… كأن رئتيه تأبيان الصمت.
"ها هو ابنكِ يا سيدتي..." قالت القابلة، تضعه بلطف على صدر روزاليا.
ضحكت روزاليا بدموع عفوية:
"طفلي... صغيري... زيريوس."
نظر البارون إليه واقترب ببطء، ثم وضع يده على رأسه وقال بهدوء:
"ليكن اسمك زيريوس... ولتكن داركلين فخورًة بك."
---
الهدوء بعد الصرخة
عمّ الصمت القلعة من جديد، لكن هذه المرة كان صمتًا دافئًا.
كان الطفل قد هدأ، وبدأت أنفاسه المنتظمة تتماشى مع صوت قلب أمه.
الخادمة إليسا نظرت إليه وابتسمت:
"له أنف السيدة… وذقن السيد تمامًا. سيكون وسيماً."
ضحك البارون للمرة الأولى تلك الليلة.
وفي الخارج، لمعت النجوم في السماء، كأنها تهنئ القلعة بمولودها الجديد.
---
همسات في الأروقة
انتشرت الأخبار بهدوء:
"ابن البارون وُلد… طفل قويّ البنية…"
قال أحد الجنود على السور:
"أظنه سيكون فارسًا مثل أبيه."
ورد عليه الآخر:
"أو عالِمًا مثل جده…"
في الأثناء، دخلت إليسا إلى المطبخ، تخبر كبير الطباخين أن يحضّر حساءً خفيفًا للسيدة، وتخبر الجميع:
"الصغير يشبهنا جميعًا، وسيكون محبوبًا من الجميع!"
---
في أحد أركان القلعة، جلس الجد الكبير للدار، شيخ طاعن، يكتب في دفتر:
"في هذا اليوم، من عام 9984، وُلد الوريث الجديد… طبيعي ككل طفل، لكن الحياة كفيلة بأن تفتح له الطريق."
ثم نفخ على الحبر، وأغلق الدفتر.
وابتسم.
الأيام الأولى
مرت الأيام الأولى من حياة زيريوس بهدوء يشبه نسيم الصباح فوق تلّة خضراء، لا اضطرابات ولا صراخ عبثي، فقط بكاء عند الجوع، وابتسامات بريئة عندما تلتقي عيناه بوجهٍ مألوف.
كانت روزاليا، والدته، لا تُفارقه طويلًا. تغنّي له أناشيد طفولية قديمة تعلمتها من جدتها، وتهمس له بأحلامها عن مستقبله، وكأنه يفهم كل ما يُقال.
قالت في إحدى الليالي لإليسا، الخادمة المخلصة:
"كأن ابتسامته تردّ على حديثي… هل هذا طبيعي؟"
ضحكت إليسا وهي ترفع الغطاء عن كتفي الطفل الصغير:
"إنه فقط مرتاح… لم نرَ طفلًا ينام بهذا السلام من قبل."
سكينة في المهد
لم يكن زيريوس طفلًا خارقًا أو مختلفًا… لكنه كان طبيعيًا على نحوٍ محبّب.
يستيقظ في أوقات منتظمة، يتأمّل وجه أمه، ثم يعود للنوم بعد قليل من الرضاعة والدفء.
وحين يُحمل بين ذراعي أحدهم، يكتفي بالتحديق بعينين واسعتين دون أي نوبة بكاء غير مبرّرة.
قالت إحدى المربيات:
"هذا الطفل يعرف متى يكون صامتًا… عكس أبناء أخي الذين يقلبون البيت رأسًا على عقب."
أولى الهمسات
مع بلوغه الشهر السادس، بدأ يُصدر أصواتًا غير مفهومة، لكنها منتظمة، كأنها محاولات للتواصل.
وحين قالت له أمه ذات مرة: "ماما"، ردّ بضحكة ومدّ يده نحوها، ثم قال: "ما… ما…"
هرعت إليسا إلى المطبخ تصرخ:
"قال أول كلمة! قال ماما!"
ضحك الجميع، حتى الحارس العجوز على بوابة القلعة قال متفاجئًا:
"أظنه أذكى من أبناء النبلاء الذين درّبتهم…"
بداية الحركة
في الشهر التاسع، بدأ زيريوس يجلس مستقيمًا دون دعم. كان ينظر حوله، يُمسك الأشياء ويضربها ببعضها. لم يكن متهورًا، بل متفحّصًا.
كانت إليسا تقول:
"لا يكسر شيئًا… فقط يراقب. هل رأيتِ طفلًا يراقب بتلك الطريقة؟"
أجابت روزاليا بابتسامة دافئة:
"ربما لأن عينيه تتعلم قبل يديه."
داخل القلعة
في قاعة الطعام، كان الخدم يتهامسون بحب كلما مرّ بهم الطفل محمولًا:
"هذا هو الصغير الذي لا يبكي؟"
"إنه يُشبه السيدة في عينيه، والسيد في جبهته."
حتى الطباخ العجوز أعدَّ له حساءً خاصًا في أول مرة بدأ فيها التذوق، وقال مازحًا:
"ليبدأ تدريبه على الطعام كما يبدأ الفرسان تدريبهم على السيف!"
شعبيٌّ في مهده
سرعان ما أصبح زيريوس محبوبًا من كل أفراد القلعة، من أعلى الحراس حتى خادمة التنظيف. لم يكن أحد يمرّ بجواره دون أن يربّت على رأسه أو يهمس له بكلمة حنونة.
قالت روزاليا في إحدى الليالي لزوجها:
"كأنه يملك قلوبهم جميعًا…"
وردّ البارون، بنبرة هادئة وهو ينظر إلى الطفل النائم:
"القادة الحقيقيون يُولدون هكذا… لا يُفرضون."
*خطوات أولى
بلغ زيريوس عامه الأول، ومعه بدأت ملامح الطفل الحقيقي في التشكّل: لم يعد مجرد رضيعٍ يُحمَل ويُغذّى، بل أصبح كائنًا صغيرًا يمشي على قدميه، ويستكشف عالمه خطوةً خطوة.
كانت أولى خطواته حدثًا لا يُنسى.
في مساءٍ دافئ داخل غرفة الطعام، كان البارون جالسًا على كرسيه الخشبي يتناول العشاء مع روزاليا، وإليسا تقف بجانب المهد وهي تحاول إقناعه بالتشبث بالحافة.
وفجأة، رفع زيريوس نفسه، وتقدم خطوة… ثم أخرى… وسقط في أحضان أمه مباشرة.
صرخت إليسا:
"لقد مشى! بحق الآلهة، لقد مشى وحده!"
ضحكت روزاليا وهي تضمه بشغف:
"أحسنت، صغيري! ستسبق الريح يومًا ما."
أما البارون، فقد انحنى أمامه، ومد إصبعه نحو الطفل وقال:
"تعال إليّ، زيريوس."
وبخطوات صغيرة مترددة، تحرك زيريوس نحوه، حتى لمس إصبعه، وابتسم ببراءة.
ملاحظات الطفولة
مرت الأيام التالية بسرعة، لكن شيئًا ما لفت انتباه من حوله:
كان زيريوس يلتقط الكلمات بسرعة، لا يكرّرها كالببغاء فقط، بل يستخدمها في السياق المناسب.
قالت المربية:
"إنه يفهم ما نقوله، أراه يتفاعل مع الحديث…"
حتى البارون، الذي قلّما يعبّر، قال ذات ليلة وهو ينظر إلى ابنه يلعب:
"فيه هدوء لا يشبه صغار النبلاء المعتادين على الصراخ والدلال."
🧸 في غرفة الألعاب
خُصّصت له غرفة مليئة بالألعاب الخشبية: خيول صغيرة، أبراج هندسية، دواليب بسيطة.
لكنه لم يكن يركض ويفسد كما يفعل أقرانه، بل كان يرتّب، يصفّ، ويعيد ترتيب القطع مرارًا.
قالت إليسا بدهشة:
"كأنه مهندس صغير... أنظري كيف وضع الحصان أمام العربة، ثم أوقف القلعة بجانب التمثال."
ورد الجد الكبير الذي صادف دخوله الغرفة في تلك اللحظة:
"ذلك لأنه لا يرى في الأشياء لعبًا… بل رموزًا لعالم أكبر."
حُسن السلوك
مع مرور الوقت، أظهر زيريوس خصالًا غير مألوفة في سنّه:
لم يضرب طفلًا آخر، حتى إن أزعجه.
لم يصرخ مطالبًا بلعبته، بل ينتظر.
يضحك بسهولة، لكنه لا يُزعج.
يبكي بصمت حين يتألم، دون صراخ مبالغ.
قالت إحدى الخادمات:
"كأن فيه طباع النبلاء الراسخة منذ الآن."
وردت روزاليا ضاحكة:
"بل فيه قلب طيّب… وهذا أعظم من النبلاء."
في أحضان والدته
ذات مساء، جلس في حضن أمه وهي تقرأ له من كتاب قديم حكايات عن الملوك والفرسان.
وما إن أنهت القصة، حتى قال بكلمات متقطعة:
"الملك… طيب؟"
شهقت روزاليا، ونظرت إليه بعينين دامعتين:
"نعم يا صغيري، الملك الحقيقي… يكون طيبًا."
عام ونصف من الطفولة
مرت الأشهر التالية بسلاسة. بلغ زيريوس عامه الأول ونصف، وكان أشبه بنسمة هادئة تُلطف جوّ القلعة الصخري. لم يُظهر نوبات غضب، ولم يطلب شيئًا بالبكاء. بل كان يعبر عمّا يريد بإشاراتٍ واضحة، أو همساتٍ تُفهم رغم قِصَر كلماته.
قالت المربية لإليسا ذات صباح:
"لو لم أعِش سنينًا طويلة، لظننت هذا الطفل أُرسل من كائنات أخرى."
لكن إليسا ضحكت، وهزّت رأسها:
"بل هو فقط ابن داركلين… وربّما سيكون سيدها يومًا ما."
إشارات مبكرة
كانت أكثر اللحظات إثارة للدهشة حين جلس زيريوس في حضن والده ذات مساء، ونظر إلى الخرائط المعلّقة على الحائط. لم يقل كلمة، لكنه أشار بيده إلى نقطة محددة وقال:
"قلعة… دار…"
تبادل البارون وروزاليا النظرات. قال البارون:
"أين سمع الاسم؟"
ردّت روزاليا، بصوت منخفض:
"لم نذكره أمامه… قط."
ورغم ذلك، لم يُظهرا ذهولًا أمامه. فقط ابتسم البارون، وربّت على رأسه:
"ذكاء مبكر… هذا كل شيء."
الحياة اليومية
في الأيام العادية، كان زيريوس يتجول في ممرات القلعة بصحبة إحدى المربيات أو والدته. يحب الجلوس في المطبخ، يستمع إلى ضجيج الأواني، أو يراقب تحضير العجينة، وأحيانًا يشارك بأصابعه الصغيرة في تشكيلها.
قال الطاهي مرة، وهو يزيل الطحين عن وجنته:
"الفتى يعرف العجن أفضل من أحد مساعدي!"
كما أحب الحديقة الصغيرة، حيث النباتات الطرية، والورود البرية التي كانت روزاليا تعتني بها.
كان يجلس هناك، يمد يده على العشب، ويحدّق طويلاً في الفراشات.
حلمٌ غريب
في إحدى الليالي، وبينما كانت إليسا تُغطيه، استيقظ فجأة، ونظر إلى السقف، ثم تمتم:
"نجم… في رأسي."
تجمدت إليسا في مكانها.
قالت روزاليا في اليوم التالي وهي تضحك:
"ربما حلم فقط."
لكن البارون لم يعلّق، فقط جلس قرب النافذة تلك الليلة، وحدّق في السماء طويلًا.
محبة لا تُشترى
لم يكن زيريوس محبوبًا فقط من أسرته، بل من الجميع:
المربية تعتبره ابنًا.
الحارس العجوز يروي له قصصًا كل يوم عند الغروب.
الخادمات يتنافسن على من تحمله أطول وقت.
الجنود ينادونه بلقب "السيد الصغير" دون سخرية، بل بفخر.
قال أحد الحراس في حفل صغير:
"من النادر أن يُولد في بارونية صغيرة مثل داركلين، طفل يجعل الكبار ينظرون إليه وكأنهم في حضرة نُبل لا يُدرَّس."
وهكذا، بدأ زيريوس أولى خطواته في هذا العالم كطفل طبيعي…
لا علامة تدل على مصير عظيم، ولا نبوءة معلّقة، فقط هدوء… وصفاء… ومحبة صادقة.
لكن في أعماق أعماقه، في نقطة لا يمكن إدراكها…
كان هناك شيء ينتظر أن يُفتح.