الفصل الخامس عشر: أطلال كاثلوب [5]

دفع الباب بحماس، وهو يرفع صوته بنبرة مفعمة بالحيوية:

"أمي، لقد وصلت!"

شاب ذو شعر أسود وعينين بنية، مظهره عادي يمكن رؤيته في أي مكان، لكنه حمل معه طاقة شبابية لا تخطئها العين.

التفتت والدته، كاثرين ، بابتسامة دافئة تضيء ملامحها الجميلة.

كانت امرأة ذات شعر أسود طويل وعينين زرقاوين، حاجباها المرسومان بعناية أضافا إلى وجهها لمسة من الأناقة، ورموشها الطويلة عززت وسع عينيها.

أنفها الصغير، ملامحها الرقيقة، جعلتها تبدو كشخصية مأخوذة من لوحة فنية.

"أوه، ليو! " نادت باسمه بفرح. "لقد وضعت الفطور على الطاولة، اذهب وانتظر والدك."

أومأ لها بابتسامة قبل أن يتوجه إلى غرفته، يخلع زي المدرسة ويستبدله بملابسه المعتادة.

كانت هذه إحدى عاداته الصغيرة التي تبعث في نفسه شعورًا بالراحة.

بعد لحظات، جلس إلى الطاولة حيث اعتاد أن يجتمع مع والديه كل صباح.

نظر حوله، ثم سأل وهو يرفع حاجبه قليلًا:

"أمي، أين أبي؟"

"سيأتي قريبًا. " أجابته كاثرين بينما تضع الطعام على الطاولة.

وكأن كلمتها كانت نبوءة، إذ سمع صوت صرير الباب يتردد في أرجاء المنزل.

"لقد عدت."

ظهر جون ، والده، بابتسامة مرهقة، لكن في عينيه ظل من الحنان.

كان رجلاً بشعر بني قصير، وعينين عسليتين مشابهتين لابنه، لحيته الخفيفة وشامته أسفل فمه أضافتا لمسة مميزة إلى ملامحه العادية.

لم يستطع ليو أبدًا أن يفهم كيف انتهى الأمر بأمه مع رجل بهذه البساطة.

جلس جون في مقعده المعتاد، بالكاد رفع يده لفك أزرار قميصه قبل أن تلاحظ كاثرين الأمر:

"عزيزي، ألا تنوي تغيير ملابسك؟"

تثاءب وهو يرد بإرهاق: "آه… سأتناول الطعام ثم أذهب للنوم. أنا متعب حقًا."

"صحيح، هل سمعت عن والدة ريموندا؟…"

اندمج والداه في حديث جانبي لم يهتم لسماعه، وبدأ ليو في تناول طعامه دون انتظار.

كانت أحاديث الكبار واحدة من أكثر الأمور مللًا في حياته، ربما تلي الفصول الدراسية مباشرة.

لكن فجأة، لاحظ أمرًا غريبًا.

جفف شفتيه بمنديله وهو ينظر إلى الجالس بصمت معهم على الطاولة، فرد لم يكن من المفترض أن يكون هنا.

عقد حاجبيه قليلًا قبل أن يسأل بفضول: "أمي… من هذا الضيف؟"

كان بإمكانه تجاهله، لكنه شعر أن ذلك سيكون وقاحة.

توقفت كاثرين للحظة قبل أن تبتسم بتوتر: "آه… إنه صديق والدك."

"أتى إلى المدينة مؤخرًا، لذا سيعيش معنا لفترة من الوقت."

أومأ ليو دون اهتمام كبير، ومد يده لمصافحة الرجل بحرارة.

لكن حين دقق في مظهره، وجد شيئًا غريبًا… ملابسه كانت مبهرجة للغاية، وكأنه يستعد لحفلة تنكرية.

"مرحبًا، أنا ليو. سررت بلقائك."

وضع الرجل كأسه على الطاولة، نظر إلى ليو بعينين ثابتتين قبل أن يتحدث بنبرة هادئة:

"سررت بمعرفتك، أدعى كال."

تجمدت أنفاس ليو للحظة.

ذاك الاسم…

شيء ما بداخله انقبض بقوة، حلقه جف وكأنه قد ابتلع حجرًا، حرارة طفيفة زحفت عبر جسده، لكن شفتيه بقيتا مغلقتين، عاجزًا عن الرد.

عبس قليلًا، لكنه سرعان ما أخفى ذلك، ليكمل طعامه بصمت.

أما كال ، فلم يلمس طبقه منذ البداية، بل كان ينظر إلى ليو باهتمام عميق، وكأن عينيه تحاولان سبر أغوار شيء لا يراه أحد سواه.

لم يكن الأمر مجرد إحساس عابر، بل كان شعورًا ثقيلًا يزحف إلى صدر ليو ، يزرع فيه انقباضًا غير مبرر.

لكن والديه؟ لم يلحظا شيئًا.

استمر جون و كاثرين في حديثهما وكأن شيئًا لم يكن، كلمات متداخلة، نقاش يبدو بلا نهاية، حتى بعد أن أنهيا طعامهما.

لم يرغب ليو في الجلوس أكثر، فنهض بصمت، وجمع الأطباق الفارغة.

"شكرًا لك، عزيزي." ابتسمت له كاثرين وهو يتجه إلى المطبخ.

تشغيل—

"ششش… " تدفقت المياه الباردة بين يديه، انزلقت على سطح الصحون، تلاعبت بها أنامله بينما غسلها بدقة.

لكنه لم يلمس طبق كال —لم يكن قد تناول لقمة واحدة بعد.

ثم…

رن هاتف كاثرين ، اهتز بشدة فوق الطاولة، وظهر على شاشته رقم غريب.

لم تتردد كثيرًا قبل أن تجيب، رفعت الهاتف إلى أذنها بصوت خفيف: "مرحبًا؟"

لكنها لم تكن مستعدة لما جاء بعدها—

<مرحبًا… آنسة كاثرين؟>

تسارعت دقات قلبها. “نعم، من معي؟”

تردد صوت جاف، خالٍ من أي عاطفة:

<أنا وكيل الاتصالات من مستشفى كولفر سيتي… يؤسفني إبلاغك… بوقوع حادث مروع للسيدة سامانثا.>

تصلبت ملامح كاثرين ، تلاشى اللون من بشرتها حتى بدت شاحبة كالأموات.

"لا… " همست، ثم شهقت بفزع: "سأكون هناك حالًا!"

أغلقت الهاتف، وقبل أن يستوعب جون ما يحدث، صاحت به: "إنه سامانثا! جون، شغّل السيارة!"

وكأن التعب الذي أثقل جسده سابقًا اختفى، وقف بسرعة، التقط مفاتيحه، وركض إلى الخارج.

أما ليو ؟

استمر في غسل الصحون بهدوء، كما لو أن شيئًا لم يحدث.

هرعت كاثرين إلى الخارج بعد أن التقطت حقيبتها، تبعها جون بلا تردد.

لم يلتفت أي منهما إليه.

لم يكن هذا إهمالًا بقدر ما كان يقينًا… بالنسبة لهما، لم يكن ليو طفلًا بحاجة إلى رعاية، كان قادرًا على تدبر أمره بنفسه.

ثم…

هدوء ثقيل.

"لن توقفهم؟"

كسر الصوت هذا السكون.

لم يلتفت ليو ، استمر في تنظيف الطبق بين يديه، وكأنه لم يسمع.

"لماذا يجب علي فعل ذلك؟"

صوته كان خافتًا، لكنه حاد، وكأن السؤال بحد ذاته لا معنى له.

جلس كال على كرسيه، مداعبًا ذقنه، قبل أن يهمس بابتسامة غامضة:

"أليس هذا يوم وفاتهما؟"

توقفت يد ليو للحظة، ثم رفع رأسه لينظر إلى النافذة أمامه.

في الخارج، رأى والدته تركب السيارة، ووالده يشغّل المحرك.

"تشرررا..!" صوت محرك—

السيارة تتراجع للخلف، تعدّل وضعيتها…

ثم…

انطلقت بسرعة مرعبة.

"هذه فرصتك الأخيرة، " قال كال بنبرة بطيئة تهبط على صدر ليو بثقل هائل. "إن ذهبوا الآن، فلن يعودوا أبدًا."

لم يتحرك ليو ، لم يقل شيئًا، فقط حدّق في الشارع، في السيارة التي تبتعد، حتى تخطت اقصى ما يصل إليه بصره.

"أنت غير حازم حقًا… " قال كال بإحباط، وهو يراقب تعابيره الجامدة.

صمت.

لكن بعد لحظة، بصوت هادئ، أجاب ليو :

"لست بحاجة إلى الحسم… كل ما في الأمر أن وقتهم قد انتهى، وحبرهم قد جف، انتهت الصفحة الأخيرة من فصل حياتهم."

حدّق كال به، عابسًا قليلاً، ثم ضحك بسخرية:

"ولكن كان بإمكانك مساعدتهم للانتقال إلى الفصل التالي، إعطاؤهم قلمًا جديدًا… كان بإمكانك إبقاؤهم بدلًا من السماح لهم بالرحيل."

"العالم قرر بالفعل موتهم. " رد ليو بنبرة هادئة، لكنها حاسمة. "أنا لست إلهًا، مجرد موتهم يعني أن نهايتهم قد كُتبت… النقطة قد وُضعت في آخر السطر." زفر بسخرية.

"إذًا، أنت مجرد جبان." ضاقت عينا كال بخيبة أمل، "تتحدث وكأنك قاضٍ أصدر حكمه الأخير… دون حتى محاولة التمرد عليه."

ارتسمت على شفتي ليو ابتسامة بالكاد تُرى، "ربما…"

لكن قبل أن يُكمل، تحدث كال بجدية، "ولكن يداك تقولان عكس ما يتفوه به فمك."

تجمد ليو ، ثم نظر إلى الصحون.

تنقيط—!

تنقيط—!

تنقيط—!

قطرات دافئة سقطت على الصحون، امتزجت مع الماء الجاري، امتدت كخيوط قرمزية وسط البياض.

عقد حاجبيه… ثم نظر إلى يده.

كان يمسك سكينًا دون أن يدرك، قبضته مشدودة عليه لدرجة أن النصل حفر في راحة يده العارية.

قطرات الدم انزلقت من بين أصابعه، تساقطت داخل المغسلة، ولوّنت المياه بلونها القرمزي.

ببطء… رفع رأسه، ليقابل نظرة كال .

"إذًا… من أنت؟.. لا تقل لي أنك كال الأصلي."

رفع كال زاوية شفتيه بابتسامة خفيفة، "خطأ… كنت فقط أستعير الاسم."

انعقد حاجبا ليو بارتباك طفيف، علامة استفهام ارتسمت في ذهنه.

لكن قبل أن يسأل، أكمل كال بنبرة ثابتة:

"أنا… النسخة المثالية منك."

"…المثالية؟ " كرر ليو ، وهو يحلل كلماته.

"الشخص الذي ترغب في أن تكونه أكثر من أي شيء آخر."

"أنا…"

" الجوكر."

عمّ الصمت بينهما، وكأن الزمن قد تجمّد للحظة.

ثم، تنهد ليو ، محاولًا وقف النزيف من يده، لكنه فشل.

"إذًا، ماذا تفعل في حلمي؟ " سأل، وقد بدأ الانزعاج يتسرب إلى صوته.

رفع الجوكر نظره إليه، وأجاب بوضوح:

"ماذا تعتقد؟ جئت لإيقاظك، بالطبع."

"إيقاظي؟ " رفع ليو حاجبه باستغراب.

رفع الجوكر يده اليمنى ببطء، وابتسامة غامضة ارتسمت على وجهه.

"استيقظ، أنت في خضم قتال جاري… لم ينتهي بعد."

"كلاك..!"

فور ختام كلماته، فرقع أصابعه .

ثم انقلب العالم رأسًا على عقب.

***

وسط ضوضاء غير واضحة، تردد صوت مشوش في أذني كال. كان الصوت ضبابيًا، وكأنه يطفو على حافة الوعي، يخرج من العدم ثم يختفي.

[ا..قظ…]

عبس كال. هل كان يحلم؟ أم أن هناك شخصًا ما يحاول التحدث إليه؟

[سيدي، استيقظ!!!]

انفجر الصوت هذه المرة كصرخة مدوية، وكأنها صدى انفجار اخترق جمجمته، مما جعله يشعر بألم مفاجئ في رأسه.

“أدن؟” تمتم باسمه دون وعي، فيما بدأت حواسه بالعودة تدريجيًا.

—أنت… في خضم قتال جارٍ—

حين ترددت تلك الكلمات الأخيرة، انفتحت عيناه فجأة وكأنها نافذة مزقتها عاصفة.

شهق بحدة، وهو يجر نفسًا عميقًا كمن عاد للحياة بعد الغرق.

فتح عينيه، فاستقبله الليل في أوجه، والسماء ملبدة بالغيوم التي حجبت ضوء القمر، تاركة المكان يغرق في ظلال باردة ومخيفة.

كان الهواء مشبعًا برائحة الحديد المحترق والدماء، وبالكاد استطاع جسده مواكبة وعيه الذي عاد على حين غرة.

أمام ناظريه، كان هناك جسد واقف ينظر إليه.

وليام…؟

كان ينظر إلي ببرود، لكن شفتاه تحركتا ببطء، وكأنه يهمس بشيء ما…

<أدن… لخص ما حدث.>

[تم الاستلام] — بعد تعرض الجسد لكثافة مانا عالية، تم استخدم [الجسد القتالي] لتحملها واحتوائها، لكنه وصل إلى حدوده القصوى. في اللحظة الأخيرة، تفعّل [التكيف] لأول مرة، وبدأ الجسد بإعادة ضبط نفسه لامتصاص المانا الهائلة، محولًا الحمل الزائد إلى مصدر قوة متجددة]

إذًا لهذا السبب أشعر بالأنتعاش!

تحركت أصابعي بلا وعي، أحسست بقوة كامنة تتدفق في جسدي، وكأنني قد تحررت من قيود غير مرئية.

على بعد خطوات، أدار وليام ظهره وبدأ بالمغادرة.

فرصتي!

نهضت بسرعة، ولكن في اللحظة التالية—

"وشش—!!"

انفجرت الأرض تحت قدمي، وجسدي اندفع في الهواء بعشرات الأمتار، كما لو أن الجاذبية فقدت تأثيرها علي للحظات.

ما هذا بحق الجحيم؟!

كانت قوّتي غير طبيعية! لم يكن هذا مجرد تحسن طفيف، لقد كنت أسرع، أخف، أقوى… أقوى بكثير!

استدرت في الهواء بسرعة، ونظري انحرف نحو وليام الذي توقف فجأة، تجمد جسده للحظات، ثم عاد لينظر باتجاه المكان الذي كنت أقف فيه قبل لحظات.

***

"كيف…؟!"

تلفت وليام في كل الاتجاهات، محاولًا أن يتتبع آثار الرجل الذي اختفى فجأة من أمامه. لكن نظرته توقفت على شيء غير متوقع.

كان الرجل في الهواء، هبط بكل رشاقة وكأن الأرض استقبلته بأذرعها.

لم يُسمع أي صوت أثناء هبوطه.

وجهه مخفي وراء قناع أسود قاتم، ارتدى قميصًا أبيض ضيقًا يبرز جسده الممشوق، تليه سترة سوداء أنيقة، وسروال أسود يتناغم مع مظهره العام.

ورابطة عنق سوداء، تضيف لمسة من الأناقة المترفة..

وقف الرجل بثبات، وأخذ وقتًا قصيرًا ليؤكد وضعه، ثم اعاد نظره نحوي

وليام، الذي كان يراه كتهديد حقيقي هذه المرة، نظر إليه ببرود قاتل.

كانت الدماء التي لطخت ملابسه هي الدليل الوحيد على إصابته السابقة.

كان الجسد الآن يبدو سليمًا، وكأن الجروح لم تكن سوى ذكرى بعيدة.

وليام، الذي لم يفقد تركيزه للحظة، شعر بتوتر غير مسبوق وهو يراقب هذا الشخص.

نظراته الحادة تركزت عليه بشكل لا يقبل الشك، كأن هناك شيئ غريب حوله.

الهالة التي تحيط به.. تقشعر كل شعرة في جسدي.

"وشش-!!"

بحركة سريعة، سحب سيفه الفضي الطويل من غمده.

ارتطم المعدن البارد بشدة، ليخرج السيف بلمعان خفيف، يعكس بريقًا قاتمًا من ضوء القمر الذي خرق السحب السوداء الملبدة.

السكوت الذي عم المكان انقلب إلى توتر ثقيل، وكأن كل شيء تجمد لثوان.

السيف الذي أمسكه، مع تفاصيله اللامعة والباردة، كان أكثر من مجرد سلاح—كان رمز لفروسيته.

بدأ وليام يتنفس ببطء، عينيه تضيء بعزم لا يتزعزع.

تغيرت الهالة حوله، إلى برود قاتل…

الآن… مستعد للقتال.

***

رأيكم.…

اكتبوا في التعليقات، لا تجعلوني اعتقد انني اكتب لبعض الأشباح.

2025/03/03 · 237 مشاهدة · 1753 كلمة
Drbo3
نادي الروايات - 2025