الفصل الثاني والعشرون: العجوز~

"كهاها… ها… ها…!"

في أعماق الليل، اخترق الضحك المتقطع حجاب السكون، مترددًا بين أروقة المدينة كصدى خافت ينبعث من نقطة مجهولة.

في زقاق ضيق، توقفت امرأة مسنة، يكلل الشيب شعرها الأبيض المربوط للخلف في هيئة ذيل حصان. حفرت التجاعيد أخاديد عميقة في ملامحها، وكأن الزمن ذاته قد تفنن بنحتها.

بصوت أجش مرتعش، همست: "هم…"

عينان نصف مغمضتين، ظهر محني، وعصا خشبية تلامس الأرض مع كل خطوة، وكأنها امتداد لجسدها الواهن. تقدمت ببطء، تتبع مصدر الصوت الذي تلاشى تدريجيًا… حتى اختفى تمامًا.

عند مدخل الزقاق، توقفت. نظرت حولها بحذر، ثم وقعت عيناها على جسد مُلقى على الأرض.

شاب… فاقد الوعي.

شعره الأسود مبعثر على وجهه، وملابسه الفضفاضة التي كانت مريحة يومًا ما، أصبحت مغطاة بالغبار والدماء. جرح مفتوح في جبهته، وثياب ممزقة تشي بمعركة خاسرة.

حدقت فيه طويلًا قبل أن تهمس لنفسها: "هل كان هو مصدر تلك الضحكات؟"

رفعت إصبعًا متجعدًا في الهواء، وبحركة بطيئة، بدأ جسده يطفو، كأنه تحرر من ثقل الجاذبية للحظات.

تأملت ملامحه الواهنة، الإصابات التي وسمت جسده، الدماء التي لطخت ثيابه، ثم زفرت بحرارة، وكأنها تُطلق تنهيدة عمر كامل.

"آه… يا ولدي، شاب يافع بهذا الحال، كيف انتهى به الأمر هكذا؟"

خرجت الكلمات من بين شفتيها المتشققتين بصعوبة، كأنها لم تعتد الحديث كثيرًا.

ثم، بخطوة حازمة، ضربت الأرض بعصاها.

"دوم—!"

اهتز الهواء للحظة، قبل أن تستدير وتسير ببطء نحو منزلها. خلفها، جسد كال يطفو في الفراغ، فاقدًا للوعي، كدمية معلقة بخيوط غير مرئية، تتبعها دون إرادة.

***

***

"مم…"

شعور ثقيل اجتاحني بينما كنت أستعيد وعيي ببطء. الضباب الخفيف استقبلني عند فتح عيني، كأنني أطل على عالم لم أعد أنتمي إليه.

في البداية، كانت الرؤية مشوشة، لكن تدريجيًا، بدأت التفاصيل تتضح.

سقف خشبي منخفض… متآكل. تصدعات الزمن حفرت فيه شقوقًا طويلة، وكأنه شهد أيامًا أكثر مما ينبغي.

أغمضت عيني للحظة، ثم فتحتهما مجددًا، متحملًا لسعة الضوء الذي اخترق بؤبؤيّ. جسدي ثقيل، كأنني غارق في بحر من الوهن.

حاولت تحريك يدي… لكن هناك شيء ما يعيقني. إحساس غريب اجتاح معصمي، ثقل غير مألوف، كأن قيدًا خفيًا يكبلني.

رفعت رأسي ببطء، نظراتي تجولت في أرجاء الغرفة.

مظلمة بعض الشيء. النوافذ الضيقة بالكاد سمحت للضوء بالتسلل، مما أضفى جوًا ثقيلًا على المكان. الجدران من الخشب، قديمة، متآكلة، والأثاث بالكاد يُعتبر أثاثًا… بسيط، باهت، مهترئ.

السرير الذي أستلقي عليه ضيق، بطانيته بالية، بالكاد توفر دفئًا. الأرضية غير منتظمة، وكأن الزمن ترك بصمته عليها بلا رحمة.

"أغغ…!"

ألم حاد اجتاح رأسي فجأة، كطعنة خفية انطلقت من عمق جمجمتي. أغمضت عيني بقوة، بينما بدأ كل شيء حولي يهتز بفعل الألم.

كيف وصلت إلى هنا؟ ماذا حدث لي؟

حاولت استجماع أفكاري… لكن كل شيء كان ضبابيًا.

الصمت ثقيل… لا إجابة، لا همسات، لا أصوات سوى أنفاسي المتقطعة.

"أين أنا…؟"

خرجت كلماتي بصوت خافت، بالكاد مسموعة، تتلاشى في الفراغ. لكن الغرفة لم ترد، لم يكن هناك سوى الصمت.

بعد عدة محاولات، تمكنت أخيرًا من رفع ذراعي المتصلبة. نظرت إليها… ثقيلة، وكأن عضلاتي فقدت جزءًا من قوتها.

كل حركة كانت صراعًا، شد مؤلم يجتاح جسدي، وكأنني أحاول تحريك أطراف غارقة في سبات طويل.

ضمور عضلي؟

لا مجال للشك… لقد فقدت الوعي لفترة طويلة.

هذا سيئ.

تسارعت أنفاسي، ثم—

"كرااكك—!"

تمزق الصمت بصوت صرير حاد.

تشنجت عضلاتي، وألقيت نظرة خاطفة بطرف عيني.

الباب… يُفتح ببطء.

ثم، من الفراغ خلفه، انبثق ظل بشري، يتحرك بثبات… وبطء مقصود.

في تلك اللحظة، تدفقت الذكريات إلى رأسي، آخر ما فعلته قبل أن أفقد الوعي—

لا… لا تقل إنهم قبضوا علي!

إيفاندا؟ وليام؟ أم شخص آخر؟

كان يجب أن أتخلص منهم حينها… لكن لا، كان ذلك ليُفسد الحبكة كلها. لم أكن متأكدًا من العواقب، من الأضرار التي قد تترتب على موتهم.

رأسي اشتعل بالأفكار، لكن جسدي ظل مشلولًا.

ثم، في جوف الصمت، تسللت إلى مسامعي خطوات ثقيلة، بطيئة، تدق كالمطارق في عقلي.

لم أستطع تحريك رأسي بعد.

هل أتحول؟ هل أستطيع؟

"هوهوهو…!"

ضحكة بطيئة، متقطعة، خشنة كأنها آتية من عصر آخر.

ثم، بخطوة إضافية، دخل الدخيل إلى مجال رؤيتي بالكامل.

عجوز…؟

امرأة عجوز، يغزو الشيب خصلات شعرها الأبيض، الذي رُبط للخلف، بينما ارتسمت على وجهها تجاعيد عميقة.

لكن… ابتسامتها المتعبة لم تكن تهديدًا.

"أأستيقظت من نومك، أيها الأمير النائم؟"

قالتها بنبرة دافئة، بحنين خافت.

للحظة، اجتاحني شعور غريب… وكأن كلماتها لامست شيئًا في داخلي. شيء كان نائمًا منذ زمن.

اجتاح دفء غريب قلب كال في تلك اللحظة، وكأن كلماتها الحانية لامست شيئًا دفينًا داخله، أشبه بأشعة الشمس المتسللة عبر نافذة صباح بارد.

لبرهة، تلاشى كل إرهاقه، كل شكوكه، وكأن صوتها نسج حوله غلافًا من الطمأنينة، يخفف وطأة التيه الذي كان يثقل روحه.

حاول أن يتكلم، لكن—

"آه—كحح! كح!!"

سعال حاد اجتاح صدره فجأة، وكأن كتلة حجرية علقت في حلقه، تمنعه حتى من النطق.

"لا داعي للاستعجال، خذ وقتك."

بصوت ضعيف، وبحركة مرتجفة، رفعت العجوز كوب الماء قرب شفتيه، تحركت بحذر، كأنها تخشى أن ينسكب ولو قطرة واحدة.

راح يراقبها بصمت، عيناه تتبعان كل حركة، بينما فتَحَ فمه ببطء.

الماء البارد انساب عبر شفتيه، تسلل برفق إلى حنجرته، واستقر أخيرًا في معدته، وكأن جسده يستعيد وعيه من جديد.

"هوهو… لا يمكنك شرب الماء دفعة واحدة بعد غيبوبة دامت ثلاثة أيام، يا صغيري."

قالتها بضحكة متعبة، وكأنها تحاول تهدئته رغم القلق الذي كان جليًا في نظراتها.

لكن كلماتها—

اتسعت عينا كال فجأة، وقلبه ارتعش في صدره.

ثلاثة أيام؟!!

***

***

الساحة الدائرية الشاسعة امتدت أمامه، مساحتها تتجاوز ضعف حجم ملعب كرة قدم، يلفها سكون تام، وكأن الزمن قد توقف عندها.

كانت هذه الساحة ذاتها التي ضجت يومًا بأصوات المتبارين، حين احتشد فيها المتقدمون لاختبار القبول، يوم كانت المنافسة تشتعل في كل زاوية منها.

على منبر مرتفع، وقف رجل طويل القامة، يقارب طوله 193 سنتيمترًا، مهيب الحضور، تشع منه هالة من الثقة والوقار.

شعره الأسود الداكن، الذي يكتسب بريقًا مزرقًا تحت الضوء، كان مسرحًا للرياح وهو مرفوع للخلف، كاشفًا عن ملامح صارمة متزنة.

في يده، كتاب مغلق، بينما تستقر نظارة دائرية على أنفه، تضفي على نظراته عمقًا وتحليلًا دقيقًا، كأنه يرى ما وراء المظهر.

تجولت عينا البروفيسور فيليب بين الحضور، عددهم هذه المرة لم يتجاوز المئتين، على عكس اختبارات القبول السابقة، حيث فاق العدد الألف.

كان ينظر إليهم بتركيز، يحاول أن يقرأ ما تخفيه ملامحهم.

"أحم..!"

رفع يده قليلًا، وفي اللحظة نفسها، اهتز الهواء من حوله بلطف، كما لو كان شيء غير مرئي يتسلل عبر الفضاء.

ترددات لا تُرى امتدت في الفراغ، وتضخمت معها نبرته بشكل غير ملموس، ليصل صوته إلى أقصى زوايا الساحة، وكل ركن فيها.

المانا.

طاقة صوفية متغلغلة في كل شيء حولنا، في كل ذرة من الهواء، في كل شيء حي وغير حي.

مع المهارة المناسبة في التلاعب بها، يمكن تعديل تردداتها وضبطها كما تشاء. وعندما تتناغم مع ترددات الصوت، يحدث تداخل بينهما، مما يعزز الصوت ويجعله أكثر تأثيرًا ووضوحًا في البيئة المحيطة.

أعاد نظره للحضور، هذه المرة بتمعن أكبر.

على السطح، بدوا أشبه بالبشر… لولا تلك التفاصيل التي ميزتهم بوضوح.

البعض لديه وشوم غامضة، تمتد من الرقاب حتى أسفل الأعناق، رسومات معقدة تنبض بغموض وتاريخ غائر.

وأخرون يمتلكون قرون بارزة، تتدرج بانحناء خفيف نحو الأعلى، تضفي على أصحابها هيبة غريبة.

وعدد قليل منهم يحملون وأذان مدببة، تبرز بعيدًا عن رؤوس البعض، تضفي حدة على ملامحهم، تثير الفضول حول حقيقتهم.

لم يكونوا بشرًا— على الأقل، ليس كما يعرف البشر.

تنحنح فيليب قليلًا، قبل أن يقول بصوت عميق،

"مرحبًا بكم، أيها القادمون الجدد إلى أكاديمية الأمل الجديد."

تغيرت تعابيره، ازدادت جدية.

"أنا شخص لا يحب الحديث كثيرًا، لذا سأترك شرح التفاصيل للمدير."

توقف لحظة، قبل أن يضيف بنبرة باردة:

"لكن قبل ذلك… سأوضح لكم شيئًا بسيطًا عن الاختبار."

***

السلام عليكم ورحمة الله…

مبدئيًا، ستلاحظون اختلافًا في أسلوب الكتابة والسرد في هذا الفصل مقارنة بالفصول السابقة. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى عدم نشر فصل بالأمس، إذ لم أشعر بالراحة مع الأسلوب السابق، لذا قررت التغيير.

بعد بحث مكثف واطلاع، توصلت إلى ما ترونه أمامكم، وقد راق لي بالفعل.

بالمناسبة، بروفيسور فيليب يذكرني بديكولين.

وأخيرًا، أعتذر عن قصر هذا الفصل، فقد كتبته وأنا على وشك النوم.

2025/03/18 · 176 مشاهدة · 1247 كلمة
Drbo3
نادي الروايات - 2025