الفصل الثالث والعشرين: حديث نفس~
في غرفة خشبية ذات جدران متآكلة بفعل الزمن، جلس شاب ذو شعر أسود وأعين زرقاء متقدة، مستندًا بظهره إلى الوسائد المتراصة على السرير.
أمامه، جلست امرأة مسنة، تحمل بيدها ملعقة مملوءة بحساء دافئ يتصاعد منه البخار.
رفعت الملعقة باتجاهه وقالت بنبرة حازمة لكن مشوبة بالعطف:
"هيا… قل آه."
حدق كال في الملعقة للحظة، ثم زفر بخفة وهو يحك خده بإحراج.
"عندما تقولينها هكذا… أشعر أنني طفل."
ابتسمت ابتسامة ماكرة، وعيناها تعكسان اهتمامًا صادقًا.
"هووه، صحتك أهم حاليًا. قل آه."
لم يكن لدي القدرة على المقاومة.
هذا غش!
تذمرت، لكن لم يكن هناك مجال للاعتراض.
"آه…" فتحت فمي على مضض، مستسلمًا للأمر الواقع.
بمجرد أن لامس الحساء الساخن لساني، انتشرت حرارته ببطء، حاملة معها طعم الدجاج والتوابل الخفيفة. شعرت بالدفء يتسلل إلى جوفي، وكأن السائل الذهبي يبعث الحياة لجسدي المنهك.
توقفت للحظة، متذوقًا النكهة، بينما راقبتني بنظرة مطمئنة، مستمتعة بردة فعلي.
"لذيذ!" فتحت فمي مرة أخرى، مستعدًا لاستقبال الملعقة التالية.
شعرت بشيء من الاستسلام يتسلل إلي، مع كل قضمة تمر في جوفي.
كانت الحرارة تعيدني للحياة بشكل غريب، وكأنني أبتلع شيئًا أكثر من مجرد الحساء.
هذا دافئ…
"هوهو، لم تعد محرجًا بعد الآن."
ضحكت العجوز بخفة، وعينها تلمح بالانتصار، بعد أن أخترقت جدار فخره الذي كان يرفض السماح له بالاستسلام.
تلك النظرة في عينيها، كانت مزيجًا من السخرية الرقيقة والاطمئنان، وكأنها تقول له: 'لقد هزمتك'.
رفعت الملعقة مرة أخرى، وبسلاسة، اقتربت بها إلى فمه، ليتلقى الجرعة التالية من الحساء.
استمر الوضع هكذا، الدقائق تتوالى ببطء، بينما كال في حالة من التردد، لكن الفخر الذي كان يعانده قبل لحظات بدأ يذوب تدريجيًا.
كلما امتلأ فمه، كان يبدو وكأنه ينسى قليلاً من مقاومته، وفي كل مرة كان يتناول من الملعقة، كان شيئًا من الكبرياء يذوب معه، ليحل محله شعور غير محدد: حالة من الضعف المطمئن.
حتى تم إفراغ الصحن، ولم يعد هنالك شيء سوى صمت و الارتياح الذي خلفه الحساء الدافئ في صدره.
نظرت إليها بارتياح، شعور غير معتاد يملأ صدري.
أعتقد ان التوتر الذي ملئني، منذ وصولي لهذا العالم اختفى.
على اي حال..لقد مرت عدة ساعات منذ استيقاظي.
وقد تلاشت معه بعض من أثار الغيبوبة التي استغرقت ثلاثة أيام من حياتي.
في البداية، لم أكن أستطيع تحريك جسدي.
كانت تلك ضريبة فقداني للوعي لفترة طويلة؛ جسدي كان متيبسًا، غير الإصابات التي تعرضت لها في المعركة. شعرت وكأنني سجين، غير قادر على التحرك.
لكن ببطء، ومع مرور الوقت، بدأت أستعيد بعض الحركة.
استطعت تحريك رأسي أولًا، ثم بدأ جسدي يستجيب بشكل تدريجي. ورغم أنني لا زلت أشعر بالضعف يلفني من كل جانب، إلا أنني أشفى بتقدم بطيء ولكنه ملحوظ.
"بالمناسبة، ما اسمكِ سيدتي؟"
خرج السؤال من فمي رغم أنني كنت قد مررت بوقت طويل في هذه الغرفة معها. لم تسألني عن هويتي، ولم تسأل عن ما حدث لي.
كان الفضول يملؤني، رغم أنني كنت في حالة ضعف، لكن هذا السؤال كان يلح في عقلي.
وضعت الصحن جانبًا، ونظرت إليّ بهدوء، لكن كان في عينيها لمحة من الفضول. "حسناء."
"تشرفت بمعرفتك، أنا كال مورت."
“ابتسمت بدفء وقالت: "اسمك لطيف. هل ترغب في إخباري بما حدث لك"
حككت رأسي قليلاً، وأنا أبحث عن مخرج. "كانوا لصوصًا".
"لست أدري إن كانوا قد أُرسلوا بالفعل من طرف ثالث، أم أنهم جاءوا بغرض سرقتي فحسب." قلت ذلك بينما تمسكت بذقني، ابدو مستغرق في تساؤل عميق.
عبست حسناء قليلاً عند سماع ردي، ثم قالت بعد لحظة: "أفهم ترددك، لكن الكذب مباشرة امام محسنك… أمر آخر."
آغغ…هل أنا سهل لهذه الدرجة؟
ليس وكأنني لا أرغب في إخبارها، لكن لا يبدو أنها ستصدقني حتى وإن أخبرتها.
مر الصمت بيننا لعدة ثوانٍ، شعرت بثقل الصمت في الاجواء المحيطة.
تنهدت حسناء ببطء، ثم قالت بنبرة هادئة: "لا تهتم، قد يكون موضوعًا حساسًا بالنسبة لك… إذًا من أين أتيت؟"
انها متفهمة!…
ابتسمت مجددًا وقلت: "هاها… أنا طالب في أكاديمية الأمل الجديد."
لحظة من التردد مرت على وجهها، قبل أن تعود لتستقر ملامحها، وقالت: "أكاديمية الأمل… هذا الاسم يثير الحنين." رفعت عينيها نحو السقف كأنها تسترجع ذكرى قديمة.
صمتت قليلاً، ثم قالت بصوت هادئ: "أتعلم، كان ابني طالبًا أيضًا في أكاديمية الأمل الجديد."
فرصة!…هذه فرصة لفتح موضوع جديد قد يخفف من هذا الصمت المحرج.
"مذهل! لابد أنه كان يمتلك موهبة فذة… فما الذي يفعله الآن؟"
رفعت عينيها للحظة، ابتسمت ابتسامة خفيفة لكن بملامح شاردة، ثم قالت بصوت منخفض: "توفي وهو لا يزال طالبًا."
تجمدت ملامح كال، ثم انحنى رأسه إلى الأسفل قائلاً: "أسف."
ابتسمت حسناء بلطف وقالت: "لا عليك، هذا ليس خطأك بعد كل شيء."
نزعت الغطاء عن حظني، ثم همت بالوقوف.
"اغغ!." فجأة، مر تيار شبيه بالكهرباء الساكنة عبر جسدي بأكمله.
"لا تجهد جسدك، لقد استيقظت للتو." قالت بنبرة قلقة.
ابتسمت محاولًا تجاهل الألم الذي كان يشتعل في جسدي، ثم أجبت: "لا عليك، إنه مجرد دغدغة." ثم بدأت أتحرك ببطء.
"أين دورة المياه؟" سألته، محاولًا توجيه انتباهي لشي أخر.
أشارت إلى الأمام بيدها نحو باب عند نهاية الممر خارج الغرفة.
"حسنًا."
اتخذت خطوات بطيئة نحو الباب، ثم دفعته ببطء وأغلقته خلفي.
دخلت الحمام وتوجهت إلى الحنفية أمام المرآة.
حين نظرت إلى المرآة، استقبلني انعكاسي: شاب ذو بشرة شاحبة، عينان زرقاوان تتلألآن ببريق حاد، وشعر أسود مبعثر ينسدل على جبهته.
حدقت في نفسي، ثم لاحظت ملابسي. كنت أرتدي قميصًا كحليًا مع سروال أسود، لكن… هذا ليس ما كنت أرتديه سابقًا.
"تشش-!" بدأ صوت الماء يتساقط من الحنفية.
غسلت وجهي، محاولًا استعادة شعور الانتعاش بعد أن لامست المياه الباردة بشرتي.
شعرت ببعض البرودة سرعان ما تنشط جسدي، وأخذت أنفاسًا عميقة، مستشعرًا الهدوء الذي يرافق المياه المتدفقة.
*
"آغغ-!" اجتاحتني نوبة صداع مفاجئة، كأن شيء ثقيل قد أرتطم برأسي، تراجعت خطوات إلى الوراء، ويدي تمسك برأسي في محاولة يائسة لتهدئة الألم.
كان الوجع ينهش في عقلي، كما لو أن تيارًا كهربائيًا يجتاحني.
تضاءل وضوح الرؤية، وبدأت الحواف الضبابية تتداخل.
نظرت مجددًا إلى المرأة، لكن شيئا في الزجاج جعلني أُذهل.
في الانعكاس، لم يكن ‘أنا’ من أراه. كان كان هناك رجل يرتدي قناعًا أسود، يتناغم مع شعره الأسود المصفف بعناية.
"ماذا تريد؟" سألته، وقد شعرت وكأن السؤال يهرب مني قبل أن أتمكن من طرحه.
أجاب بصوت بارد خالٍ من الحياة: "أنت متردد، أليس كذلك؟"
تلعثمت، وتعثرت الكلمات في حلقي. "متردد؟ أنا؟ في ماذا؟"
قال، وعينيه تشعان من وراء القناع كما لو كانا يريان شيئًا لا يمكنني فهمه.
"في فهمك لما يحدث لك، أنت عالق بين ما تريده وما تخاف أن يحدث. بين الحقيقة التي تهرب منها والأكاذيب التي تصنعها."
"غادر… لا وقت لديك للأوهام. ربما تعتقد أنك ستكون في أفضل حال، ولكنك تدمر نفسك بأوهامك." استمر حديثه بلا أي نبرة تأثر، بدأ الهواء نفسه قد توقف عن الحركة عند سماع كلماته.
أمسكت برأسي بشدة أكبر، وأخذ الألم يخف شيئًا فشيئًا، لكن ذلك لم يمنعني من الرد بانفعال: "ومن أنت لتقرر ما هو الأفضل لي؟"
"شعورك بالانتماء هو سجنك. تلك الأوهام التي تراهن عليها ستسحقك." كانت الكلمات تخرج من فمه وكأنها ضربة سكين، بلا تردد.
"أخرس!" همست، يداي ترتجفان بينما الضغط على صدري يكاد يوقف أنفاسي.
شعرت وكأن كل كلمة تخرج منه تتفجر داخل نفسي، محدثة شقوقًا عميقة لا أستطيع إغلاقها.
أشار المقنع ببطء إلى الباب: "هذه ليست سوى وسيلة لإبقاء عينيك مغلقتين. حسناء تذكرك بكاثرين، والدتك…"
توقف ‘كال’ للحظة، ونظر إلى الأرض، ثم رفع رأسه وقال بصوت منخفض: "هل تعرف شيئًا عني أكثر مما أعرفه عن نفسي؟"
رد برزانة: "لقد قرأتك جيدًا، أكثر مما قرأت أنت نفسك. لا تبني أحلامًا على أكاذيب راسخة."
توقف للحظة قبل أن يكمل، ويضيف: "في هذا العالم، لا أحد يضحي بكل ما يملك ليخسر كل شيء مرة أخرى."
صمت ‘كال’ طويلاً، وكأن الكلمات قد اختفت من فمه، ثم تقوست شفتاه للأعلى ببطء، "سأفعل ما أشاء، وإن كان الفشل هو مبتغاي، فهو خير لي من نجاحٍ تُسلب فيه حريتي في اتخاذ القرار."
"ستندم على ذلك." قال المقنع أو الجوكر بلهجة لا تتغير، كأنما كانت الكلمات قد خرجت من شخص رأى أهوال العالم وادركها جيدًا.
“الخوف من الندم أيضًا وهم لا أحتاجه." أجاب كال، ثم غسل وجهه مرة أخرى.
ألقى نظرة أخرى على المرآة، وأصبح انعكاسه أكثر وضوحًا وحيوية، اختفى الوهم، وعاد انعكاسه لطبيعته.
تساءل في نفسه: ‘ما الذي يحدث لي؟'
***
في قلب قاعةٍ فسيحة، خالية من أي صوت سوى همسات الهواء البارد…
وقفت شابة وسط أربع دمى خشبية جامدة، تطوقها من جميع الجهات.
كانت ترتدي رداءً أسود مشدودًا على جسدها، وسروالًا أسود يصل إلى ركبتيها، يتناغم مع لون الأرضية الداكنة التي تسلل إليها ضوء خافت.
شعرها الكهرماني كان مربوطًا بعناية إلى الوراء، كذيل حصان، فتدلى من خلفها، وكأنها على استعداد للانطلاق في أي لحظة.
وقفت بلا حراك، يداها على غمد سيفها، مغمضة العينين، كما لو كانت جزءًا من السكون المطبق حولها.
"هافف…" تنفست بعمق، ملأ رئتيها الهواء البارد.
ثم، فجأة، سحبت السيف بخفة مذهلة، وتلاشت حركتها في الهواء.
"وشش-!" صدى احتكاك السيف بغمده اخترق صمت المكان، محدثًا صوتًا حادًا.
في نفس اللحظة، ظهرت خطوط حادة على الدمى الخشبية، خطوط مائلة تلتف بسرعة، لتتساقط الدمى في تناغم تام، كل واحدة منها قُطعت بشكل جانبي نظيف.
"كلاكك-!" دوى صوت سقوطهم على الأرض بشكل واضح في الفضاء.
أخذت نفسًا عميقًا آخر، وزفرت بتعب، ثم نظرت إلى الدمى التدريبية بعينيها ذواتي اللون الأزوردي.
وضعت يدها على كتفها، وبدأت تدلكه بحركات هادئة، بينما همست في نفسها: "مستواي راكد هذه الفترة. لا شيء يتغير."
ثم، بنظرة شاردة، تمتمت، "هذا الروتين المتكرر أصبح مملًا… متى تبدأ الفصول الدراسية؟" كانت التساؤلات تتردد في ذهنها.
فجأة، قاطعها صوت عالٍ يشق الصمت: "أوي، كارلا!!"
رفعت رأسها بسرعة، فوجدت نفسها أمام شابة ذات شعر بني قصير وعيون بنية، كانت صديقتها.
"كلوي؟" همست بدهشة، لم تكن تتوقع رؤيتها في هذا الوقت.
ركضت نحوها، حتى توقفت أمامها.
"ألم تسمعي الأخبار؟!" قالت وعيناها تتألقان بتوهج من الإثارة.
أكملت بحماسٍ لا يوصف: "أميرة الأوزوريس، تتحدى دانيال ألستر في مبارزة عامة!"
لم تتمالك كارلا نفسها، فانسابت دهشة عميقة في ملامح وجهها، واتسعت عيناها بذهول. "حقًا!!" ترددت كلماتها، وكأنها لم تصدق ما تسمعه.
***
في ليلة ممطرة، داخل القطار…
تساقطت قطرات المطر على النوافذ بحذر، بينما كان الصوت الوحيد هو همسات العجلات على القضبان.
الضوء الخافت الذي ينساب عبر الزجاج أضاء الوجوه العابرة في صمت، وكل شيء حوله كان يبدو معلقًا.
وقف رجل بشعر أسود يشوبه وهج دموي، وعينين صفراوين تلمعان تحت ضوء القمر، كجمرتين خامدتين.
رفع السيجارة ببطء، لامست شفتيه بانسجام، ثم أشعلها بنقرة خفيفة، تاركًا اللهب يلتهم أطرافها بصمت.
"هوف…" زفر خيوط الدخان في الهواء البارد، تراقصت أمامه للحظة قبل أن تتلاشى، كما لو كانت انعكاسًا لأفكاره العابرة.
ظل صامتًا، عيناه مثبتتان على الفراغ الممتد أمامه، قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة، غير مبالية، لكنها تخفي وراءها ضجرًا عتيقًا.
"بفت…"
ضحكة قصيرة، بالكاد تُسمع، شقت السكون.
ثم بصوت مزيج بين السخرية والشفقة، تمتم:
"أخسرت مرة أخرى…عزيزي وليام؟"