الفصل الرابع والعشرين: طلب مبارزة~

قبل ساعة…

في قلب الحرم الجامعي، تمتد حديقة حديثة تخفها ممرات مرصوفة، وأشجار شامخة تنثر ظلالها الوارفة.

المقاعد الأنيقة متناثرة بعناية، فيما تعكس البرك الصغيرة بريق الضوء، مضيفة لمسة من الصفاء.

"هاااااف."تثاءب شاب، وعيناه المحمرتان تشي بضجر جلي، تخللت خصلات زرقاء شعره الأسود في أطرافه بشكل غير مرتب.

هذا ممل…

وضعت يدي على ذقني، وبدأت في التحديق في الطاولة أمامي. طلبت كوبًا من الإسبريسو منذ فترة، لكنه لم يصل بعد.

بينما تجاهلت نظرات الطلاب الفضولية نحوي، أصبح هذا جزءًا من روتيني اليومي.

هل سيتغير شيء هنا؟ فكرت وأنا أراقب المكان.

كل شيء يبدو ثابتًا… وجوه تتغير، المقاعد نفسها، المسارات ذاتها. هل أنا وحدي من يشعر بهذا الفراغ؟

تنهدت مرة أخرى.

كنت أعلم أنه يجب علي التحرك، لكن الحركة لم تكن لتجلب أي معنى… ماذا لو كان اليوم مثل أي يوم آخر؟ لا شيء جديد، لا شيء يستحق الانتباه.

لكنها كانت فكرة مريحة بعض الشيء، أليس كذلك؟ فكلما كان كل شيء متوقعًا، كان من الأسهل أن تبقى في مكانك، في هذا الروتين اللامتناهي.

تبقت ثلاثة أيام على بداية الفصول الدراسية… هل يجب أن أذهب للتدريب؟

فجأة، تسللت إلى ذاكرتي ذكرى مزعجة.

قطعًا لا! لقد سئمت منه في المنزل.

سواء كان النزال الودي—الذي لم يكن وديًا على الإطلاق—مع إفاندا، أختي، أو تدريبات والدي المرهقة، أو حتى غيرة إخوتي الأكبر سنًا التي تضعني دائمًا في مواقف معقدة.

"هوففف." زفرت براحة.

مقارنةً بالمنزل، هذا المكان أشبه بالنعيم… لا، بل هو النعيم ذاته.

"تفضل قهوتك."رفعت رأسي فرأيت شابة في مثل سني تقريبًا، تضع كوب الإسبريسو أمامي.

آه… صحيح، يُسمح للطلاب بالعمل بدوام جزئي طالما أنهم في حدود الأكاديمية.

التقطت الكوب وأخذت رشفة.

"اغغ"، كان الطعم لاذعًا، لكنه يحمل نوعًا من الإدمان الغريب.

رفعت نظري نحو النادلة التي لم تتحرك من مكانها. كانت واقفة بتوتر، وكأنها تحاول قول شيء.

"تفضلي، هل هناك ما تريدين قوله؟"

ترددت قليلًا، ثم رفعت ورقة بيضاء وقدّمتها لي.

"هل يمكنني الحصول على توقيعك؟"

أوه، معجب آخر!.

ابتسمت قليلًا، أخذت الورقة والقلم، ووقعت عليها قبل أن أعيدها إليها.

"شكرًا لك!" انحنت بانفعال، ثم استدارت وهربت بسرعة بعيدًا عن الأنظار.

أخذت رشفة أخرى من الإسبريسو، شعرت بالطعم المرير ينساب في حنجرتي، بينما كنت أغرق في أفكاري المتشابكة.

لكن فجأة-!

"وشش-!"

صوت حاد، كالسوط يلتوي فجأة في الهواء، محطماً السكون.

أمال دانيال رأسه بسرعة، بينما مرت شفرة تلمع ببريق فضي، بجانب أذنه، متجاوزة إياها بمقدار شعرة، تاركة وراءها انقطاعًا دقيقًا في الهواء.

غير اتجاه نظره نحو الخلف، وقال بصوت منخفض مليء بالدهشة والتهديد: "هل هذه محاولة اغتيال في قلب الأكاديمية؟!"

وقف عدة أفراد، تزين أجسادهم وشوم غامضة، حيث كان أحدهم يحمل وشمًا على رقبته، وآخر رقبته غارقة في أنماط غريبة، بينما كانت يد الثالث مغطاة بوشوم كثيفة تمتد إلى معصمه.

ضاقت عينيه قليلاً، وارتسمت على وجهه ملامح الاستغراب.

"الأوزوريس؟" همس بها، ثم أضاف بنبرة تحمل غضبًا مكتومًا: "محاولة قتلي في أرضي… هل هو تهور أم استهتار؟"

لم يردوا على كلماته، فواصل الحديث بنبرة حادة: "على هذا المنوال، سيتم طردكم قبل حتى أن تبدأ الفصول الدراسية."

فجأة، تحرك الأفراد بشكل مفاجئ، وانقسموا إلى قسمين، بتنسيق محكم.

فتحوا الطريق، ليظهر أمامهم شخص بدأ في التقدم، وكان حضوره طاغيًا يكاد يملأ المكان.

سرت برودة في الأجواء لحظة دخوله، إذ حملت تلك الشخصية معها شحنة غير مريحة.

شابة ذات شعر أشقر بلاتيني يتلألأ تحت ضوء النهار، وأبرز ما لفت الأنظار في ملامحها هو تباين لون عينيها.

كانت اليمنى زرقاء كالبلور، تتألق بلون بارد ونقي، بينما اليسرى كانت سوداء ذهبية، كالكسوف.

برز فكها بحدة، وكان جفنها ينحدر قليلاً، مما أضفى على نظرتها برودًا وجاذبية ساحرة.

لكن الأكثر غرابة كان الوشم الذي يغطي نصف وجهها الأيمن، بنقش غامض لا يُفهم، يمتد إلى أسفل ليغطي جزءًا من رقبتها.

هل الوشم يغطي جسدها بأسره؟ تساءل دانيال وهو يراقبها بتركيز.

"هل أنت دانيال ألستر؟" قالت بصوت بارد، كأنها تفتش عن شيء ما.

ما هذه النبرة؟

"ومن أنتِ؟" رد دانيال، وهو يوجه ويعيد السؤال، محاولة استفزازها عن عمد.

بالطبع عرفها، لكن لماذا عليه أن يوضح ذلك لها؟

أنت!!" صاح الشاب الذي كان يقف بجانبها، لكن لم تلتفت إليه. رفعت يدها بحركة واحدة فصمت على الفور.

"إذًا، أعذرني على دخولي غير المهذب، لم أقدم نفسي كما يجب"، قالت ذلك بدون أي نبرة اعتذار.

هل المشكلة حقًا في عدم تعريف نفسها؟ نظر دانيال إلى الخنجر الذي اخترق الجدار البعيد، واستقر فيه نصفه، لكنه لم يُحدث أي ضرر.

"أدعى أزيلاس ستارلينغ، الابنة والأميرة التاسعة للملك تارغن ستارلينغ."

صمت دانيال لبرهة، ثم تنهد عميقًا.

"تشرفت بمعرفتك، أنا دانيال ألستر، ابن حامي القارة، هوغو ألستر" قالها بثبات، دون أن ينحني.

"إذًا، ماذا تريد الأميرة المبجلة العظيمة مني أنا شخصيًا؟" أضاف، مع نبرة ساخرة كانت واضحة في صوته.

"لقد تخطيت حدودك!" اندفع أحد الشبان المحيطين بالأميرة، وكان الأقرب إلى دانيال، وعروق الغضب تنتفض في جبينه، قبل أن يمسك بقميصه بعنف.

دانيال لم يبد أي انزعاج، بل اكتفى برفع حاجبه قليلًا قبل أن يمد يده ويمسك بمعصم الشاب.

"هووه!" همس بهدوء مستمتع بالوضع، ثم قال بنبرة باردة: "عادةً، لا أبالي إن نبحت أمامي."

في تلك اللحظة، شد قبضته على المعصم المحبوس بين أصابعه.

"آغغ!" تأوه الشاب ذو الشعر الأحمر والعين الكحليه فجأة، ألم حاد اجتاح معصمه، حاول يائسًا تحريك يده، سحبها، لكنّها لم تستجب، كأنها تجمدت في مكانها.

"اتركها!" زمجر بحدة، عروقه تكاد تنفجر من الغضب.

لكن دانيال زاد من ضغطه أكثر، عيناه متسعتان بسخرية باردة.

"لماذا؟… ألم تكن أنت من مدها في المقام الأول؟"

"أيها الحقير!"

أغلق قبضته اليمنى، شدها بقوة، ثم أطلقها بأقصى سرعتها نحو دانيال.

كانت الضربة سريعة بلا شك… لكن المشكلة الوحيدة—أن دانيال كان أسرع.

بمجرد أن اندفعت القبضة نحوه، تحرك دانيال بخفة، خطا خطوة جانبية، وأدار يده بمهارة.

"ها؟!"

فجأة، انقلب العالم رأسًا على عقب.

لم يدرك الشاب ما حدث إلا بعد فوات الأوان، شعور بالجاذبية يجذبه للأسفل، والهواء يندفع حوله، ثم—

"دوم-!"

ارتطم ظهره بالأرض بقوة.

ذُهل الشاب من وضعه.

قبل لحظات، كان ينظر إلى دانيال مباشرة، لكن الآن… لم يكن في مجال رؤيته سوى السماء.

ظهر شاب ذو شعر أسود تزينه خصل زرقاء عند الأطراف في مجال رؤيته، يلوح له بابتسامة ساخرة.

"مرحبًا."

ظل الشاب في حالة ذهول للحظة، لكنه سرعان ما قفز عن الأرض وعاد إلى أزيلاس بحذر.

طقطق دانيال رقبته ثم قال بنبرة مزعجة، "إذًا، هل انتهت المسرحية؟"

لم يجب أحد، فتابع دانيال حديثه، "محاولة استفزازي، برمي سلاح مطاطي صلب، ثم أمر تابعك بمحاولة ادعاء الغضب وضربي."

أكمل دانيال بنبرة حادة، "فقط اذكري ما لديك، سأستمع لحديث صاحب السمو."

ابتسمت أزيلاس برقة قبل أن تخلع قفازها وترميه أمام دانيال.

"أنا أزيلاس ستارلينغ، أتحداك، في مبارزة عامة… يا دانيال ألستر."

نظر دانيال بتعبير غير مقروء إلى القفاز الأبيض المرمي أمامه على الأرض.

"أرفض، لست مهتمًا." خرجت الكلمات من فمه ما لم تتوقعه أزيلاس.

صُدمت من رده، وتوقفت لثوان قبل أن تتساءل بصوت منخفض، "هل يمكن أن أعرف السبب؟"

"السبب هو أنني لا أريد." قالها وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة، ثم أدار ظهره للمغادرة وكأن الأمر برمته لا يعدو كونه مزحة سخيفة لا تستحق الاهتمام.

يجب أن تدرك أن رفض طلب مبارزة من دون عذر أو سبب واضح يُعد عارًا وجبنًا، ويمكنه ببساطة أن يهدم سمعة أي شخص.

لكن من هو؟ إنه دانيال ألستر، ابن هوغو ألستر وإليزابيث آلفورد، وشقيق إفاندا ألستر، وإسحاق ألستر.

لن يكون ذلك سوى حادث عابر؛ قد يُعاب عليه، لكن هذا هو أقصى ما قد يحدث.

"أنت!" قالت أزيلاس بنبرة مليئة بالاحتقار، وهي تطلق نظرة ازدراء نحو دانيال، الذي كان يبدو غارقًا في إهماله.

"ماذا أيضًا؟"؟استدار دانيال، لكنه تفاجأ عندما رُمي إليه قرص دائري.

"شريط ذاكرة؟" تساءل بحيرة وهو يحدق في القرص.

"ضخ المانا الخاصة بك فيه."

لم يسأل عن السبب، بل امتثل فورًا لما طُلب منه.

"وشش-!" ومن العدم، ظهر هولوجرام مُربع أمام عينيه.

تحرك الشريط، وبدأت الشاشة تعكس حركة بطيئة.

في البداية، كانت مجرد تداخلات ضبابية، ولكن ببطء بدأ يتم تفعيل العدسة المخصصة لالتقاط الصورة المثالية، وأُبطئ الفيديو بشكل تدريجي

وقف رجل وسيم، ذو شعر فضي وعينين رماديتين، يملك جسدًا متناسقًا ومدربًا بعناية.

وعلى الجهة الأخرى، وقفت امرأة جميلة، بشعر أسود تزينه خصل زرقاء في أطرافه، تنضح بجمال بارد.

"هذا!" قالها وهو يدرك أخيرًا الشخصيات التي ظهرت في التسجيل.

وليام روتشليد، انتقل ولوح بسيفه من الجهة اليمنى، وإفاندا ألستر، التي كانت على اليسار، انتقلت ممسكة سيفها بقوة،

مشددة على قبضتها.

وفي الوسط، كان هناك رجل أسود الشعر يرتدي قناعًا أسود دائريًا يخبئ وجهه بالكامل، بينما كان يرتدي ملابس رسمية ذات تصميم أنيق.

في يده اليمنى، أمسك بسيف أسود حالك السواد، بدأ بريقه يلمع تحت الضوء الخافت للقمر.

كان التصوير من الأعلى، والجودة ليست الأفضل، لكن دانيال استطاع أن يرى كل شيء بوضوح.

ثم، فجأة، تخلل المشهد طقطقة مفاجئة، تلتها انبعاثات أرجوانية مظلمة تنبع من الرجل المقنع، غامرة الأجواء حوله.

رفع سيفه قليلاً، ومع حركته، تجسدت ظلال سوداء في المساحة الأرجوانية، كما لو أن الظلام نفسه تشكل في صورة مادية.

في تلك اللحظة، امتلأت الأجواء بشيء غامض، غلفها شعور غير مفسر.

ومن العدم أطلقت خطوط سوداء عريضة، تقطع الفضاء حولهم.

وليام، بمهارة تامة، تفادى بعضها، لكن أحدها مر بجانبه، فرفع سيفه في سرعة خاطفة.

لم يكن دانيال يستطيع سماع أي صوت من الهولوغرام، وكان بالكاد يتمكن من متابعة حركتهم بفضل المساعد التكيفي، الذي كان يبطئ المشهد.

ما كان يراه فقط هو الاحتكاكات النارية الناتجة عن تصادم الأسلحة، وتناثر الشرارات في الهواء.

إفاندا انحنت وقفزت بمهارة، متفادية العديد من الخطوط، لكن أحدها اخترق كتفها. سقطت يدها على الأرض، والدماء بدأت تنهمر بغزارة.

ابتعدت سريعًا عن الخطوط السوداء، بينما نظرت إلى ذراعها المفقودة، والدماء تتدفق منها.

رغم المشهد العنيف والمؤلم، كانت عيناها ثابتتين، ضغطت على الجرح ببرود، بينما بدأ النزيف يتوقف تدريجيًا.

"هذا!" ذُهل دانيال، وعلامات الصدمة بدأت تظهر بوضوح على وجهه.

استمر التسجيل، ومع مرور كل ثانية ، كانت تعابيره تظلم أكثر فأكثر…حتى وصل القتال لنهايته.

في الختام، وقف الرجل المقنع وسيفه يرجف في يده، بينما سقطت أمامه جثتان مشوهتان، ببشاعة تفوق الوصف.

ظل واقفًا للحظات، ثم أدار ظهره للمغادرة.

لكن فجأة توقف، ونظر للأعلى… أو إلى اتجاه الكاميرا.

مرت قشعريرة عميقة عبر عمود دانيال الفقري حين شعر أن المقنع يراه.

رفع يده، وتشكلت كرة رمادية أمام إصبعه.

ثم، فجأة، تلتها ضبابية رمادية اجتاحت الهولوغرام، وأظلمت الشاشة بالكامل…وتوقف التسجيل.

"إذًا." تحدثت أزيلاس، مستمتعة بالمشهد، وهي تراقب دانيال بعينيها الثاقبتين.

"هل ستقبل المبارزة؟"

"كلاك-!" قبض دانيال على القرص بقوة حتى تحطم بين يديه، محدثًا صوتًا حادًا.

هزت أزيلاس رأسها برفق: "يتم بيع هذا القرص في السوق السوداء. مع الموارد والعلاقات العامة لعائلتك، لن يمر يوم قبل أن تتمكنوا من القبض على البائع."

ثم استراحت برأسها على يدها، وأضافت بصوت مستفز: "ولكن، كم قرصًا سيباع من هذا التاجر خلال أربعة وعشرين ساعة؟"

"سموك.." نطق دانيال بكلمات باردة، وعينيه مشدودتين إليها.

"أقبل المبارزة، بشرط أن تخبريني عنوان البائع."

ابتسمت أزيلاس، ابتسامة ماكرة، "موافقة."

2025/03/23 · 159 مشاهدة · 1685 كلمة
Drbo3
نادي الروايات - 2025