38 - الكيان والمرآة

فصل 38 : الكيان والمرآة

أخذ غريب نفسًا عميقًا محاولًا استجماع شجاعته، لكنه لم يستطع أن يتحرك. كانت عيناه معلقتين على الكيان الذي أمامه، وكأنهما مسحورتان بجاذبية لا تقاوم.

الضباب يلتف حوله، والهمسات تزداد وضوحًا، كأنها تعرف اسمه... تعرف ماضيه.

"ما هذا الشعور؟... لمَ لا أستطيع التقدّم؟ هل هو خوف... أم شيء أعمق؟"

بدأ الوحش يقترب ببطء، وكل خطوة منه كانت تثير الأرض من حوله، وكأنها تستجيب لوجوده.

كان هناك شيء مألوف في تلك الهمسات، وكأنها تحمل ذكريات من زمن بعيد... أو تحذيرات من مستقبل مجهول.

تردد غريب بين الرغبة في الفرار، والفضول الذي يجذبه نحو المجهول.

"المنطق يقول اهرب... لكن القلب؟... القلب يريد أن يعرف ما هذا الشيء... ولماذا أحس أني أعرفه؟"

لم يكن يعلم ما الذي ينتظره، لكن كان هناك شعور داخلي يخبره بأن هذه اللحظة قد تكون نقطة تحول في حياته.

وبينما يقف، محاطًا بالضباب والهمسات، بدأ يدرك أن المواجهة مع هذا الكيان أمر لا مفر منه.

ابتسم بسخرية وهو يشد قبضته على سيفه:

"لا وقت للهذيان... دعنا ننهي هذا."

اندفع الوحش أولًا، بلا إنذار. قفز كقطعة مطاط مشحونة بالقوة.

اضطر غريب للتراجع وتفادي ضربة شنيعة كادت أن تخلع كتفه.

الأرض تقشّرت تحت وطأة الهجمة، والسيف ارتد من يده لوهلة.

ثم بدأت الهمسات تتسلل إلى أذنه:

"كل ما تفعله لا معنى له... قوتك مجرد وهم... لا أحد سينقذك..."

"أغلقي فمك... لن أسمح لك بالتسلل إلى رأسي."

صرخ غريب بعنف، وشحن جسده بطاقة الغضب.

ركض نحو الوحش، هذه المرة لا ليتفادى، بل ليُهاجم.

قطع ذراعه اليمنى بضربة نظيفة، لكن السائل الأسود الذي انبعث منها التصق بذراعه كحبر حيّ، وبدأ يزحف نحو عنقه.

أحس بضغط في رأسه، كأن شخصًا يطرق جمجمته من الداخل.

ظهرت رؤى مشوشة... سيليرا تسقط... نورثان ميت...

وهو يضحك كالمجنون فوق جثث بشرية.

"لا! هذا ليس أنا... هذا ليس أنا!"

صرخ وهو يطرد الصورة، ثم طعن الوحش في صدره، لكنه لم يمت.

بل... ضحك.

امتدت إحدى أذرعه وطعنته في جانبه، جعله يتراجع وهو يتقيأ دمًا، ورجلاه ترتجفان.

"لا تستسلم..."

"أنت لست بشريًا تمامًا... تذكّر من أنت..."

صوت داخلي، مألوف، كأنه من مكان أقدم من الذاكرة.

رفع غريب رأسه، ونظر إلى الوحش بعينين غارقتين في السواد.

"إن كنتُ وهمًا... فسأحرق كل شيء حتى أجد حقيقتي."

ثم انفجر بهجوم أخير، لا تكنيك، لا خطة، فقط نية صافية للقتل.

ضربات متتالية كالعاصفة، حتى أصبح الوحش مجرد كومة من الرماد اللزج.

ركع غريب على ركبتيه، يتنفس بصعوبة، جسده ينهار.

لكن... قبل أن يفقد وعيه، رأى شيئًا في الضباب يتكون...

بابًا حجريًا، منقوشًا عليه رمز غريب...

وهمس داخلي قال:

"المرحلة الثانية من الوعي... تنتظرك."

. . .

فتح عينيه، فوجد نفسه في مكان لا يعرفه، لكن فيه لمسة من حنين.

كأن هذا المكان يحمل ذكريات قديمة لم يستطع استرجاعها بالكامل.

كانت الجدران مغطاة بنقوش تروي قصصًا من الماضي، عن أبطال، مغامرات، وقوى تتجاوز الفهم البشري.

شعر غريب بأن النقوش تتحدث إليه مباشرة، كأنها تدعوه لاكتشاف حقيقتها.

"هل كنت هنا من قبل؟... أو هل تركت جزءًا مني هنا؟"

بدأ يتجول، محاولًا فك رموز النقوش. مع كل خطوة، شعر بقوة خفية تدفعه للأمام.

رغم الغموض، كان هناك شعور غريب بالطمأنينة.

وفي إحدى الغرف، وقف أمام مرآة كبيرة... لكنها لم تعكسه كالمعتاد.

اقترب منها، فبدأ يرى لمحات من طفولته، وجوهًا من ماضيه، مشاهد من رحلته.

"هذا أنا... لكن... لم أكن أراها بهذا الوضوح من قبل."

كل لحظة أمام المرآة أعادت إليه جزءًا من ذاته، وكأن المواجهة لم تكن مع الوحش فقط، بل مع نفسه أيضًا.

"أنا أكثر من مجرد جسد مشوه أو قوة لا أفهمها... هناك شيء أعمق... شيء مفقود."

قرر أن يترك المرآة ويتابع طريقه، محمّلًا بالمعرفة التي اكتسبها.

كان يعلم أن التحديات القادمة ستكون أصعب، لكن لأول مرة منذ زمن، شعر بأنه أقرب لفهم ذاته.

وبينما يتقدّم نحو الباب الحجري الذي ظهر في الضباب، تمتم:

"هذه الرحلة... لن تُعيدني كما كنت."

فجأة تغيّر المشهد، وتبدّل المكان.

أصبح الضوء ذهبيًا، نقيًا، كأن الأرض تشع من ذاتها.

تمعّن غريب في المكان، لكن ما رآه جعله يتجمّد في مكانه.

كان محاطًا بأشخاص يرتدون أزياء مميزة... يبدون ككهنة أو محاربين من زمن آخر...

ثم تغيّر المشهد مرة أخرى...

المجموعة ذاتها، لكنها الآن جثث هامدة،

وغريب... لم يكن موجودًا.

"ما هذا؟... رؤى؟... ذكريات؟... أو تحذير من شيء قادم؟"

ظل صامتًا، لكن عقله كان يعجّ بأسئلة لا حصر لها.

2025/06/01 · 2 مشاهدة · 671 كلمة
Amen
نادي الروايات - 2025