الفكرة التي وصل إليها رافي هي أنه لا يجب عليه الاعتماد على الحمالين على الدوام، فهو وإن كان باردا إلا أنه لا يزال شخصا طيبا، لذلك كان يأمل أن يطلق سراح هؤلاء الحمالين في يوم ما، لكن إطلاق سراحهم يعني بأنه سيفقد إحدى أبرز بطاقاته في التجسس وجمع المعلومات، لذلك بدأ يفكر في صنع بديل للحمالين، وهذا قاده إلى مراجعة معرفة كارب الذي ساعد في بناء هذا المشروع، ورغم أن رافي ليس عالِما ولا متخصصا إلا أن الذاكرة الحية التي تتصرف على أنها كارب قد كانت تقوم بكل العمل تقريبا، فـ رافي الآن يستطيع التصرف في العديد من الأمور مثل صنع الأسلحة المباركة والطب والسياسة..، وهذا لأن أي شيء يقرأه سيبقى عالقا في "ذهنه"، ويستطيع الوصول إليه بسرعة كبيرة بسبب قدرة كارب على ترشيح المعلومات والوصول إلى أفضلها.

اهتم رافي بهذا الجانب لأنه يأمل أن يجد يوما ما دواءً لمرض اللمسة المظلمة، وبهذا سيكون قد أغلق حقبة كاملة وفتح حقبة جديدة، وبما أن آماله كبيرة فقد اقترح أن تكون الحقبة القادمة هي حقبة الحمالين، لكن كل هذا يعتمد أولاً على قدرته على الخروج من سجنه.

بعد دراسة الوضع لوقت طويل.. قرر رافي التركيز على البذور المباركة، حيث وجد بعض التلميحات في ذكريات كارب بأن البذور تصنعها الأنظمة السبعة، لكن البشر لم يروا أبدا أية بذور تسقط من الحمالين، كما أن البذور التي تأتي من الأنظمة الستة الأخرى تقوم بتحويل بعض مستخدميها إلى حمالين كما حدث مع رافي الذي استخدم بذرة من أمه التي كانت مباركة للماء والنور.

بعد عملية طويلة من التجربة والخطأ، توصل رافي إلى طريقة لتركيز الضباب وضغطه على شكل كرة زجاجية صلبة تحمل داخلها كمية كبيرة من طاقة الفراغ، وكانت متصلة مع مملكة الحمالين وكأنها حمال آخر، وبعد إخراجها من أجساد الحمالين إلى العالم الخارجي.. حصل رافي على نفس النتيجة، رؤية وسماع كل ما يحيط بالكرة المضغوطة.

بدأت عملية إنتاج البذور المباركة المزيفة بشكل كبير بمساعدة الحمالين الفراشات داخل المملكة، وفي نفس الوقت سيقومون بقذفها من أجسادهم الحقيقية عندما يكون أمامهم شخص ما، ومع مرور الوقت.. بدأ الناس يهتمون بهذه البذور الغريبة، لكنهم في البداية استهجنوا العملية لأنهم لم يثقوا في البذور التي تأتي من الحمالين، لكن وبعد فحصها من الخبراء اكتشفوا بأن هذه لا يجب أن تكون بذورا مباركة ولا يمكنها أن توقظ المباركين، وهذا جعل جميع الأجناس يدخلون في سباق محموم لاكتشاف ماهية هذه البذور المباركة المزيفة، وبعد سنتين أو ثلاث.. توصلت إحدى الشركات إلى اكتشاف مذهل.

كانت شركة البرج المقمر غير الربحية رائدةً في العلوم التجريبية في مجال الفيزياء ولها شهرة واسعة في القارات الثلاث، وتحصل على الدعم المادي من مختلف الحكومات مقابل نشر المعرفة غير العسكرية، أما المعرفة العسكرية فكانت تمنحها للحكومة التي دفعت لأجلها، ورغم كونها شركة غير ربحية إلا أنها كانت تكسب أكثر من أغلب الشركات التي تبيع المنتجات بسبب احتوائها على عدد هائل من العباقرة.

بعد بحث طويل وصلت الشركة إلى أفضل استخدام للبذور المباركة التي تسقط من الحمالين، وهذا الاختراع هو أدوات التخزين، صرّح مدير الشركة حينها بأنهم لم يعودوا في حاجة إلى مرافقة الحمالين أينما ذهبوا، تكفي قلادة أو خاتم لتخزين الأغراض، وكل ما عليهم فعله هو توفير عدد أكبر من البذور المباركة لصناعة أكبر عدد من أدوات التخزين، وهذا التصريح وحده قام بقلب موازين العالم وفرضت الحكومات على شعوبها تسليم البذور بشكل إجباري، كما بدأت العديد من المنظمات العنصرية تدعو إلى تخفيف العقوبات على الإساءة للحمالين بما أنهم لم يعودوا مهمين كثيرا، بينما بدأت المنظمات الحقوقية تدعو إلى جمع الحمالين في أماكن مخصصة وحمايتهم، وهذا أعجب الحكومات كثيرا.

بعد مناقشة الأوضاع.. بدأ التحالف العالمي بعملية تبادل واسعة للحمالين، سلّم حمالا واحصل على خاتم تخزين مع مبلغ مالي مهم، فعلوا هذا حتى يحصلوا على أكبر عدد من الحمالين وبالتالي أكبر عدد من البذور، ولأن شركة البرج المقمر قد نشرت تقنيات صقل أدوات التخزين فقد صارت عملية تجارية مهمة للكثير من الدول، وبسبب هذا.. بدأ الناس في تسليم الحمالين، وكان أشرارهم يتذكرون جاهدين الأماكن التي رموا فيها بعض حماليهم سرا، في الأخاديد والأنهار والكهوف، وحتى في القبور، حيث كان المشاغبون منهم يتخلصون من الحمال بمجرد نزوة.

هذا الحدث أعجب جموع الحمالين في المملكة، لذلك اجتمعوا حول رافي وبجّلوه طويلا، لكنه لم يهتم بهم لأنه كان يبحث عن طريقة لاسترجاع جسده، وفي يوم ما.. حدث شيء غير متوقع، وهذا الشيء جعل رافي لا يدري أيضحك فرحا أم يبكي حزنا، ما حدث ثم أنه شعر بشيء ما حول جسده، ثم تحول الشعور إلى سماع، ثم إلى رؤية، وهذا كان غريبا لأنه كان في قبر عميق، لكن ما لم يتوقع هو أن يرى شيئا بخلاف الظلام، نعم، ما رآه كان خيال شخص قريب من جسده، وهذا جعله يهتم بما يحدث ويترك كل شيء آخر يفعله للتركيز على جسده، وبعد دقائق.. بدأ يسمع بعض الهمسات.

..

"هل أنت متأكد بأنه هنا؟"

"نعم، لقد تبعتهم عندما كنت صغيرا، لذلك أعرف مكان دفنه"

"لماذا لم تخبر أباك حينها بأنه لا يزال حيا؟"

"سوكر، إنه ليس أخا لنا بعد الآن، إنه مجرد حمال"

"لكن أبي سيكون غاضبا إذا علم بأنهم دفنوا ابنه حيا، ومع ذلك لم تخبره يا جيرم، والآن تريد بيعه؟"

"اللعنة يا سوكر، لا تصدر أي ضجيج حتى لا يسمعونا، لا تدعني أندم على جلبك معي"

"تسك، هل تعتقد بأنه لا يزال على قيد الحياة؟"

"لا يهم، إذا كان ميتا فهو ميت، وإذا كان حيا فبيعه سيكون أفضل له من البقاء مدفونا، أليس كذلك؟"

...

تجمد رافي في مكانه وهو يسمع ويرى خيال شابين أحدهما يبدو في الخامسة عشر والثاني أصغر منه يقليل، ومع أن الوقت كان ليلا إلا أنه قد تعرف عليهما من أسمائهما وخيالهما، وكل ما قاله هو كلمة حزينة جدا

"هذا.."

نعم، هذان هما أخواه من أبيه، سوكر وجيرم، واصل التحديق فيهما وتخللت ذهنه العديد من الذكريات، كان في الثامنة عندما ولد جيرم، فرح رافي كثيرا بحصوله على أخ صغير، كان يلعب معه يوميا ويرافقه وهو ينمو، كان هو من علمه العديد من الخدع والحركات، ودعمه في دراسته وبين أقرانه، وأعطاه من مصروفه سرا دون علم والديه، أما سوكر فقد حظِي بأكثر مما حظي به جيرم، فحتى وإن لم يلعبا مع بعضهما البعض بسبب فارق العمر إلا أنه كان أفضل داعم له، أفضل حتى من والدهم، ومع ذلك.. لم يمنعهما هذا من نبش قبره للاستفادة منه.

في السنوات السابقة.. كان يراقب إخوته الثلاثة وبعض أفراد عشيرته عبر الحمالين، ورغم أنه لم يكن ينوي الرجوع إليهم إلا أنه لم يفترض يوما بأنهم ليسوا عائلته، واليوم.. صُدِم بما فعله أقرب الناس إلى قلبه.

بعد المشاهدة لبعض الوقت.. بدأ يبتسم بطريقة غريبة، ثم تحولت الابتسامة إلى قهقهة، ثم إلى ضحكة عالية، بدأ يضحك كالمجنون، صدى صوته في جميع أنحاء مملكة الحمالين، توقف جميع الحمالين عما كانوا يفعلونه واستغربوا من سبب هذه الضحكة التي تحمل داخلها أنينا مؤلما، ويبدو بأن نوبا هي الوحيدة التي فهمت ما يشعر به لأنها كانت تراقبه من بعيد، اقتربت منه واحتضنته بعفوية من الخلف، لم تقل شيئا ولم يمانع رافي، بقي يضحك والدموع تجري على خدّيه بغزارة وهو ينظر إلى جسده الذي تم إخراجه وتقييده ثم جرّه بعيدا باستعجال.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها رافي بالوحدة، المرة الأولى التي يبكي فيها على شيء فقده، المرة الأولى التي يُصدم فيها لدرجة شعوره بأنه قد مات ثم وُلِد في عالم جديد ومختلف، عالم لا ينتمي إليه ولا يجب أن يعيش فيه، ومع ذلك.. شعر بأنه يجب أن يفرض نفسه على هذا العالم بالقوة رغم أنف الجميع.

في هذه اللحظة.. لم يعد رافي الحالي هو رافي السابق، بسبب هذه الحادثة.. وُلِد الكيان الذي سيقلب العالم رأسا على عقب، اليوم.. وُلِد ملك الحمالين، والشخص الوحيد الذي شهِد هذه اللحظة هي الأميرة نوبا، وهي الوحيدة التي فهمت وقع هذه الصدمة على رافي، لذلك احتضنته من الخلف كأم وليس كعشيقة، وكل آمالها أنه لن يتحول إلى طريق الشر، لأنها لا تريد للشخص الذي أنقذها أن يفقد نفسه.

بعد هذه الحادثة.. تحول رافي إلى ملك حقيقي ولم يعد يتظاهر فقط بأنه ملك، صارت جميع قراراته صارمة ولم يعد لديه مجال للتسامح، لم يراقب جسده بعد الحادثة وكأنه لا يعنيه، كان آخر ما رآه هو جرّه من طرف أخوَيه العزيزين وجعله يركب عربة صغيرة، ومع أنه شعر بشيء مختلف بعد خروجه إلى الهواء وأحس بأن تواصله مع جسده قد تحسن إلا أنه ترك مهمة المراقبة لـ نوبا وغادر للاهتمام بأمور أخرى.

مر الوقت بسرعة وانتشرت أدوات التخزين في جميع القارات وتم الاستغناء على الحمالين بشكل واسع، وبهذا حصلت مملكة الحمالين على أقوى جهاز استخبارات في العالم، وصارت قاعة المراقبة في المدينة الوهمية مليئة بالشاشات العملاقة التي تعرض ليل نهار كل ما تراه وتسمعه، وبمجرد توفر معلومات مهمة سيتم تسجيلها وأرشفتها في معالج البيانات.

تعافى رافي من صدمته بمرور الوقت لكن شخصيته قد تغيرت كثيرا وصار أكثر جنونا من السابق، ويبدو بأن رعاياه قد تعودوا على شخصيته الجديدة ورأوها أكثر إبهارا كونه الملك الذي يحكمهم، واليوم.. جمعهم رافي حول عرشه ونظر إليهم بصمت لوقت طويل قبل أن يقول بنبرة هادئة

"لقد حصلت أخيرا على طريقة لتحرير أجسادكم"

2021/01/12 · 373 مشاهدة · 1401 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024