تحرير أجسادنا؟

ضجّت القاعة على الفور وتهللت وجوه الجميع وبدؤوا يصرخون بفرح، انتظرهم رافي حتى هدأوا ثم أضاف

"تحريركم الآن لا يعني نجاتكم بالضرورة، لقد تم جمع أجسادكم في مزارع محمية، وخروجكم الآن سينبّه الآخرين فقط، هناك قوى عظيمة تضع عينها على المملكة، لذلك سأخرج أنا أولا وأستكشف ما يحدث، وربما قد أطور بعض التقنيات والأدوات التي ستساعدكم، فكما تعلمون.. لا توجد أسلحة مباركة مخصصة للحمالين، لذلك يجب علينا تقوية أنفسنا أولا قبل الخروج إلى العالم"

صمت الجميع فورا وبدؤوا في التفكير، ابتسم رافي ثم قال

"مستقبلا، سأقوم بإطلاق سراحكم تدريجيا، خاصة أولئك الذين كانوا حمالين لأكثر من عشر سنوات، حيث اكتشفت بأن أجسادهم قد تشبعت بعنصر الفراغ وقد يكونون محميّين أكثر من غيرهم، لكني كما قلت.. سأخرج أنا أولا لتجربة بعض الأمور على جسدي، وإذا نجحت فستكون لدينا بعض التقنيات المثيرة للاهتمام، حينها فقط.. سنكون في أمان"

تهللت وجوه الجميع من جديد وبدؤوا يبجّلون جلالة الملك، نظر رافي نحو نوبا بطريقة مختلفة عن نظراته نحو الآخرين، ابتسم فقط ولم يقل شيئا، لم يتحدث معها لأن هذين الاثنين كانا متفاهمين بطريقة غريبة منذ حادثة نبش قبره، ابتسمت نوبا التي كانت واقفة بجواره ثم قالت وهي تنظر نحو الجميع

"حتى وإن توفرت لديكم شروط الخروج فسيكون عليكم أولا الحصول على نقاط استحقاق كافية، والأسبقية للأكثر اجتهادا"

كانت نوبا قد استخدمت نقاط الاستحقاق منذ وقت طويل لتشجيع الحمالين على العمل، واليوم شعر الكسالى بالهواء البارد وقرروا في أنفسهم بدء العمل بجدية للحصول على فرصة للخروج من مملكة الحمالين والعودة إلى أجسادهم، لكنهم للأسف لا يعلمون بأنهم لن يتحرروا أبدا من المملكة لأن أجسادهم ستبقى مربوطة مع الفضاء الضبابي للأبد، وذلك لأن رافي لم ينجح في تحرير جسده إلا يشكل جزئي.

بعد بحث طويل في السنوات الماضية.. وصل رافي إلى طريقة لتنحية الضباب عن الأجزاء الداخلية من جسده، واستخدم في هذه العملية الطرق الأكثر انتشارا عند مستخدمي العناصر لحماية الجسد، حيث جميع مستخدمي العناصر يستخدمون البذور المباركة المندمجة مع أجسادهم لطرد العناصر التي تغزو أحشاءهم، والفارق الوحيد بين العناصر الستة وعنصر الفراغ هو أن هذا الأخير لا يؤذي الأحشاء عكس بقي العناصر مثل النار والبرق..، وفي المقابل كان يعمي البصر ويضبب التفكير، ولأنه عنصر ينتشر بسرعة فهو لا يمنح أي وقت لمباركي الفراغ الجدد للدفاع عن أنفسهم، وينتهي بهم الحال كـ حمّالين فاقدين لعقولهم.

نجح رافي لأنه كان يتصل بجسده من مصدر المشكلة، أي من نقطة اتصاله مع الفراغ الضبابي، معتمدا على قوة البذرة المباركة التي في جسده، استطاع فعلا استرجاع قدرته على التحكم قبل أكثر من سنة، لكنه لم يخبر أحدا سوى نوبا لأن عملية التحرير لم تكتمل بعد، حيث كان عليه إخفاء الضباب الذي يحيط بجسده حتى لا يتعرف عليه الآخرون بأنه حمال، وهذا أخذ منه عدة أشهر أخرى ليتمكن في النهاية من إخفائه، لحسن الحظ أنه كان في مزرعة كبيرة شرق قارة هارياس ولم ينتبه له أحد، وللمصادفة فقد كانت نوبا في نفس المزرعة أيضا بما أنها من سكان هذه المنطقة.

سبب اجتماعهما في نفس المزرعة هو أن رافي قد تم بيعه في مكتب مبعوث الحاكم في الجزر الشرقية، ثم تم ترحيله بحرا مع مجموعة من الحمالين إلى مملكة الجبل المنعزل، أما نوبا فقد كانت في قرية نائية وهي نفسها لا تدري كيف وصلت إلى هناك حيث كان من المفترض بأن عائلتها قد أبعدتها عن مملكتها، لكن عشرات السنين كانت كفيلة لينساها الجميع، وبهذا عادت الأميرة إلى مملكتها دون علمهم.

بعد إخبار الجميع عن قرار مغادرته.. وقف رافي وابتسم ثم قال بعزم

"سأرحل الآن، لكني سأبقى متصلا معكم عبر الفراشات، تستطعون مشاهدتي أيضا عبر الشاشة الرئيسية"

وقف الجميع أيضا ثم تقدم أحد القادة وكان اسمه سونكر، وهو من جنس البشرة الحديدية، وهم جنس شبيه بالبشر ولديهم بشرة سوداء تميل للأزرق، ومع أنهم يوصفون بالهمجية إلا أن رافي لم يفرّق بين الأجناس، وكان يخبر الجميع في مملكته بأنهم جميعا بشر، ومع أن هذا قد أحدث عند أغلبهم حالة استنكار إلا أنهم تعودوا على بعضهم البعض مع الوقت وعاشوا جميعا في المدينة الوهمية التي بناها لهم رافي ثم قام كارب بتوسيعها تدريجيا.

تقدم سونكر وكان طويلا عريض الكتفين، قال باحترام

"ما الذي تخطط لفعله بعد خروجك يا صاحب الجلالة؟"

ابتسم رافي واختلس النظر على نوبا ثم قال ضاحكا

"وما الذي سيفعله ملك مثلي غير البحث عن امرأة جميلة؟"

صمت الجميع فجأة قبل تحويل أنظارهم إلى نوبا التي كانت مصدومة ولم تتوقع مثل هذا القرار، هدأت تعابير رافي وتحولت من الجنون إلى الحكمة وهو يقول

"المسار الذي سأسلكه لن يكون سهلا، لذلك سأحتاج إلى تفريغ أفكاري الأنانية قبل بدء رحلتي، ويصدف أن الأميرة نوبا تتواجد في مكان قريب مني"

استدار نحو نوبا ثم أكمل

"هل لديك اعتراض يا نوبا؟"

علِم رافي بأنه كان يفرض نفسه بالقوة على نوبا، لكنه لم تعترض لأن سلوكه مناسب له كملك، فمن هذا الذي سيعترض على قرارات الملك؟

طبعا.. كان هذا هو ما يراه الحمّالون أمامه وليس ما يحدث في الحقيقة، فهو يستطيع الوصول إلى مشاعر جميع الحمالين عبر الفراشات المرتبطة مع وعيهم، وفهِم مشاعر نوبا منذ وقت طويل، حيث تحول احترامها لـ رافي إلى عشق مكتوم، لكن كان عمرها الحقيقي يمنعها من التقدم، فـ رافي لا يزال في السادسة والعشرين من عمره بينما كانت نوبا فوق الستين، وبقاء جسدها بدون تغيير لا يعني بأن عقلها كان نفس الشيء، لذلك تابعته أينما ذهب لكنها لم تتجاوز خط الاحترام أبدا.

طأطأت رأسها ولم يعرف أحد ما إذا كانت تحية أم خجل، وبعد صمت قصير.. قالت باحترام

"الملك يأمر، والجارية تنفّذ"

بدون تردّد.. قامت بتحويل نفسها إلى جارية، فمهما كان فهمها لـ رافي كبيرا إلا أنها لا تستطيع الادّعاء بأنها تفهمه كليا، لذلك لا تعلم ما إذا كان كـ "ملك" سيقرر يوما ما الحصول على زوجة، ولا تعلم أيضا ما إذا كانت هذه الزوجة المستقبلية ستكون أميرة بلد قوي في إطار تعزيز العلاقات بين بلدين، فحتى وإن كانت مملكة الحمالين في أسوء أشكالها إلا أن نوبا قد رأت الكثير من العجائب وتعتقد بأن يوم تأسيس المملكة لن يكون بعيدا، لذلك.. قررت أن تكون في مرتبة الجارية لتفسح المجال لـ رافي في حال أراد الزواج رسميا في المستقبل، وما شجعها على هذا هو أنها لم تعد أميرة منذ عشرات السنين، بل لم تعد حتى في مرتبة العبيد والجواري بعد أن تم التخلي عنها.

لم يفكر رافي كثيرا في ما قالته وإنما ركّز على ما شعرت به، حيث كان وعيها ينضح بمشاعر الامتنان والاحترام، ما يعني بأنها لا تعارض قراره، استعاد نظره ثم قال

"حسنا، أنا ذاهب"

وبحركة من يده.. بدأ جسده الوهمي يختفي، سارع البعض إلى الأميرة نوبا لمباركتها والاحتفاء بها بينما شعرت العديد من الإناث بالحسد والغيرة، أما نوبا فقد توجهت مباشرة إلى أكبر شاشة والتي كانت مركزة على جسد رافي، وفي هذه اللحظة.. قالت نوبا بقلق

"كن حذرا يا صاحب الجلالة"

رفع رافي رأسه خلال الشاشة ثم قال بدون تحريك شفتيه

"بالطبع"

علِم رافي ما كانت تقصده نوبا، حيث كان ثمن الرجوع إلى جسده هو التخلي على حماية الضباب، أي أنه سيكون بإمكان أي شخص قتله بلكمة أو طعنة سكين، ومع أن رافي كان يتدرب على جسده منذ أشهر دون علم أحد إلا أنه لم يصل بعد إلى أفضل الطرق لحماية جسده، لكن هذا لن يكون حاله على الدوام لأنه بدأ بالفعل في إنشاء تقنية ذكية قد تجعله حصينا في المستقبل، لكنه سيحتاج إلى مكان هادئ للتدرب عليها ولا يمكن فعل ذلك داخل مزرعة الحمالين هذه.

لم يكن يتدرب فقط خلال الأشهر الماضية وإنما كان أيضا يتعود على جسده الضعيف ويتغذى على الأدوية والأطعمة المفيدة حتى استرجع عضلاته وقوته البدنية، وإلا فلن يستطيع الخروج من المزرعة المحروسة، ناهيك عن حمل نوبا معه، نعم.. سيأخذ نوبا معه أثناء المغادرة، وللأسف فقد كان جسدها أضعف بكثير من جسده هو، لذلك لم يجعلها تتحكم في جسدها في الوقت الحالي.

وصل إليها ببطء حتى لا يثير انتباه الحارس الوحيد في المزرعة، أمسكها من يدها ثم جرّها نحو الباب، لحسن الحظ.. كان يملك أقوى جهاز استخبارات في العالم، لذلك كان يعلم الكثير حول هذه المزرعة، انتظر بصبر حتى فُتِح الباب ودخل الحارس، علِم رافي بأن الوقت هو منتصف الليل لأن الحارس كان يدخل كل ليلة في نفس التوقيت، وكانت عادته هي أن يتفقد أحواض الماء والطعام قبل أن يرجع، ولأن الحمالين في نظره مجرد بهائم فقد كان يُسند الباب فقط ولا يُغلِقه حتى يخرج، استغل رافي هذه الثغرة وتحايل على الحارس حتى خرج.

في الخارج.. علِم رافي كل شيء عن المنشأة الحكومية والمسارات الآمنة التي سيمر من خلالها، وفي عشر دقائق من التسلل بحذر.. كان في ساحة واسعة محاطة بجدار مرتفع، نظر إلى النجوم في السماء وكأنه ينظر إلى كنز لا مثيل له، ابتسم لأنه في هذه اللحظة كان قد أنهى الجزء المهم من خطته، لوّح بيده فظهر أمامه سلاح مبارك من نوع البرق يشبه الدراجة النارية، أخذه رافي من إحدى الخزائن التابعة لقارة أخرى، وكان بإمكانه الطيران بعلوّ مترين كما يستطيع القفز فوق الجدران العالية.

وضع نوبا أمامه على الدراجة ثم قام بتشغيلها وهو يقول بجنون مكتوم وكأنه يخاطب صاحبها

"أنت لا تمانع إذا جربتها قليلا، أليس كذلك؟"

2021/01/12 · 346 مشاهدة · 1405 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024