استغرب رافي من أسلوب نوبا الراقي وهي تحيّيه وتعتذر له، كانت فعلا تعتذر وبإخلاص على شيء تافه مثل أنها اتخذت شكل عصفور في حضرة الملك، ما جعلها تبدو وكأنها تتجرأ على اتهام الملك في أخلاقياته، ولأن رافي لم يعش حياة الملوك فقد استغرب لأن هذا ليس بالأمر الذي يستوجب الاعتذار أصلا، ومع ذلك.. طرأت في ذهنه فكرة مثيرة وهو يسألها

"ماذا كنتِ قبل استيقاظك كحمالة؟"

طأطأت رأسها بحُزن وهي تقول

"جلالتك، لقد كنت أميرة بلد معين، لكن.. يبدو بأن شيئا ما قد حدث وانفصلت عن عائلتي"

فعلا، هذا ما استنبطه رافي من أسلوبها الراقي، لقد كانت أميرة حقيقية، ومكانتها هذه لم تسمح لها بأن تقول بأن عائلتها قد تخلصت منها بعد تحولها إلى حمالة، تنهد ثم قال

"للأسف، لا أستطيع إنقاذ جسدك في الوقت الحالي، لكني سأفعل ذلك إذا تحررت من قيودي"

رفعت رأسها ببطء ثم ابتسمت وهي تواسيه

"ليس عليك إنقاذ جسدي يا صاحب الجلالة، لقد كنت محبوسة لعشرات السنين، وربما يكون يومي قد اقترب، كل ما أتمناه هو أن أعيش في سلام في آخر أيامي"

تعجب رافي لأنه لم يفكر في هذه النقطة، فحتى وإن كانت تبدو كمراهقة إلا أن عمرها كان أكبر منه بكثير، استدار ونظر نحو خزانتها ثم قال

"حينها.. سأمنحك دفنا لائقا"

قهقهت نوبا بصوت لطيف ثم تقدمت نحو رافي حتى وقفت إلى جانبه، قالت بابتسامة

"شكرا على كرمك يا صاحب الجلالة"

...

في الأيام القادمة، استمر رافي في محاولة التواصل مع جسده وفي نفس الوقت كان يراقب عمليات التخزين في محاولةٍ لإنقاذ بعض الحمالين الآخرين، لكن وكالعادة.. كانت فترة عملية التخزين سريعة ولا تمنحه الوقت الكافي لاختراق الحاجز، لذلك بدأ يوجه بحثه في اتجاه آخر، ولتحقيق هذا.. قام بإيقاف مراقبة الخزائن وأرسل الفراشات في كل اتجاه للبحث عن أمر معين، وبعد بضعة أيام حصل على إشارة بأن هناك شيئا غريبا في منطقة نائية من الفضاء الضبابي فذهب لرؤيته.

وصل بسرعة إلى المكان لكنه وجد شيئا مختلفا عن الذي كان يبحث عنه، نظر إلى المساحة الشاسعة أمامه قبل أن يسمع صوت نوبا خلفه

"ما هذا يا صاحب الجلالة؟"

لم يعرف رافي كيف تعلمت نوبا الانتقال الآني بهذه السرعة، لكنه لم يهتم كثيرا ما دامت لا تحاول السيطرة على مركز البيانات، وبالتأكيد لن تستطيع السيطرة عليه ما دامت الفراشة المدمجة مع وعيها تحت سيطرة كارب، لم يجبها مباشرة وإنما بدأ يحدّق في المساحة الشاسعة أمامه، والتي كانت مليئة بجميع أنواع الأشكال العائمة، حبال عملاقة من البرق، أعمدة ضخمة من النار، قذائف مشتعلة لم تصل بعد إلى وجهتها، أسهم ضوئية خارقة، حجارة تنطلق نحو اتجاه معين..، وكلها تبدو وكأنها هجمات تستهدف منطقة معينة، لكنها كانت جامدة بشكل غريب.

قام كارب بتحليل الأمر اعتمادا على ما لديه من بيانات ثم أخبر رافي بالخلاصة، شعر رافي بأن هذا هو ما يحدث حقا، لذلك شرح لـ نوبا

"الوقت في مملكتي بطيء مقارنة بالخارج، الوعي وحده هو الذي يستطيع التحرك بحرية، أما الأشياء المادية فستبقى جامدة لذلك لا يفسد الطعام في الخزائن، وما ترينه أمامك عبارة عن هجمات استهدفت الحمالين، لكنها دخلت إلى هنا وبقيت تطفو لوقت طويل، وهذا هو ما يفسر حصانة الحمالين ضد جميع أنواع الهجمات"

فهمت نوبا بسرعة ثم سألت

"هل هذا ما كنت تبحث عنه في الأيام السابقة؟"

هز رافي رأسه ثم نفى

"لا، ما كنت أبحث عنه يجب أن تكون لديه قيمة أكبر"

وللصدفة.. أتاه إشعار بالعثور على ما كان يبحث عنه، ابتسم ثم انتقل بصمت، فهِمت نوبا شيئا فتبعته، وعلى ما يبدو فقد كانت تستخدمه كنقطة وصول للانتقال بدل استخدام الفراشات التي لا تستطيع الشعور بها، وصلت إليه ووجدته يبتسم بسعادة، وجّهت نظرها بحركات راقية نحو المكان الذي كان ينظر إليه، وفجأة..

"براغ، ما هذا يا صاحـ...، براااغ"

في لمحة عين، تحولت الفتاة الراقية إلى طفلة جاثية على الأرض تتقيأ الفراغ وتتمرغ على الأرض، ضحك عليها رافي

"هذه مجرد أحاسيس خادعة يا نوبا، وأنت لستِ في جسدك حتى تتقيّئي، أليس كذلك؟"

استمرت في حالتها وهي تصرخ

"لكن ... لكن، هذا.. يا صاحب الجلالة، هذا الشيء هو.."

ضحك رافي بجنون

"نعم، إنها أكبر بحيرة براز في العالم، وهو لا يزال طريا رغم الفوارق الزمنية بين عمليات التفريغ"

نعم، كانت هذه المنطقة النائية هي المكان الذي ينتقل إليه البراز والبول الذي يتم إخراجه من أجساد الحمالين، وحسب كارب.. فقد كان هذا مجرد إجراء إضافي قام به اعداؤه عندما سرقوا المشروع وأنشأوا نظام الحمالين، حيث تعيش أجساد الحمالين في بيئة محمية ولا يسمح لهم بالأكل إلا نادرا كما يتم إفراغ أحشائهم تلقائيا، وهنا حيث يأتي البراز، اليوم عرف رافي جواب نظريته التي كانت السبب في قدرته على دخول هذا الفضاء.

كانت نوبا سريعة وذكية، لذلك قامت بطمس حاستي الشم والبصر مؤقتا، قامت كالعمياء ثم عدّلت فستانها وهي تقول

"لقد جعلتُ صاحب الجلالة يرى شيئا محرِجا"

كانت أميرة فعلا وعكست الوضع ببضع كلمات، ضحك رافي ثم قال معتذرا

"لم أرغب منك رؤية هذا لذلك لم أطلب منك مرافقتي، على أية حال، أنا لم آت إلى هنا لرؤية القذارة، سبب قدومي إلى هنا هو محاولة الاتصال مع الحمالين بطريقة مختلفة"

كانت نوبا مطلعة على محاولات رافي السابقة للتواصل مع الحمالين، لذلك قالت

"هل ستحاول التواصل معهم أثناء.. تفريغ بطونهم؟"

قالت الكلمات الأخيرة ببعض الخجل، هز رافي رأسه

"تلك ستكون المحاولة النهائية، لكني آمل إيجاد طريقة أفضل، مهلا.. هذا رائع"

تهلل وجه نوبا وصاحب بفرح

"وجدتها بهذه السهولة؟"

قال

"قد لا تكون بهذه السهولة، لكنها ستكون بداية نعمل عليها، عودي الآن يا نوبا، سأبقى هنا لبضعة أيام"

طأطأت نوبا رأسها ثم غادرت بصمت، لم يرغب رافي شرح الكثير لها لأن الأمر يتعلق بالهيبة التي يريد صنعها.

الفكرة التي جعلته يأتي إلى هنا هي أن الحمالين يتواصلون مع الخزائن برغبة مستخدميهم وفي أوقات عشوائية، أيضا يفرغون بطونهم بطريقة عشوائية، لكن في الحالة الأولى يكون سبب اتصالهم هو اصحاب الخزانات، أما في الحالة الثانية فلا يوجد كيان ذكي يجبرهم على فتح الاتصال بالفضاء لقضاء حاجتهم، إذن.. كيف ينتقل البول والبراز إلى هذه المنطقة؟

حينها.. فكر رافي بأنه ربما تكون هناك آلية تلقائية تتصل بالحمالين وتفرغ بطونهم، وربما تكون هذه الآلية متصلة بهم على الدوام، وهذا هو ما كان عليه الحال فعلا، حيث اكتشف رافي بأن هناك آلية اتصال متشعبة تتصل بأكثر من مليون حمال، والاتصال بهم جميعا سيكون صعبا جدا، لكن رافي كانت لديه خطط أخرى لهذا الأمر.

أول شيء سيقوم به هو البحث عن طريقة للتواصل مع جسده، وحتى إن لم يستطع التواصل معه فربما قد يستطيع تحديد المكان الذي خرج منه قبل سنوات، وخلال ذلك سيحاول إنقاذ بعض الحمالين ومراقبتهم، وإذا لم يحدث شيء سيء فسينقذ الباقي.

...

مر الوقت بسرعة، ولا أحد يدري كم مر منذ اكتشاف بركة البراز، لكن رافي يعتقد بأنه قد مرت على الأقل خمس سنوات، أي أنه قد قضى داخل هذا الفراغ أكثر من ثمان سنوات، وفي هذه اللحظة.. كان جالسا على عرش عملاق ينظر إلى العدد الهائل من الأشخاص الجاثين أمامه، لم يكونوا راكعين له وإنما فقط جالسين على الأرض بهدوء ينتظرون ما سيقوله.

بعد اكتشاف بركة البراز قبل خمس سنوات.. قام رافي بالعديد من التجارب واستطاع بطريقة ملتوية التواصل مع الحمالين المحجوزين، وكما توقع.. فقد كان لجميع الحمالين قناة اتصال دائمة ولم يعد من الضروري انتظار لحظة استخدام الحمال لتخزين الأغراض كما فعل مع نوبا، لكنه لم يبدأ عملية الإنقاذ مباشرة وإنما بحث أولا عن جسده، وهذا أخذ منه وقتا طويلا للبحث والفرز حتى وصل إليه بعد عناء طويل.

بعد العديد من التجارب الأخرى، اكتشف بأن جسده لا يزال جيدا حتى بعد مرور عدة سنوات، لكنه لم يستطع التحكم فيه رغم وصوله إليه بسبب ضعف عضلاته حيث صار مجرد كومة من الجلد والعظم، مما جعله يشعر بضيق في قلبه وكاد ينهزم، فمهما كان عنيدا وصبورا إلا أنه يبقى إنسانا، وهذا الضيق النفسي كاد يوقع به في اليأس لولا مساعدة نوبا، شكر رافي حظه لإنقاذ نوبا التي كانت أميرة وتعلمت الكثير حول تهدئة الرجال، حيث كان من المفروض أن تتزوج الأميرة ملكا أو على الأقل شخصية عظيمة، ولابد أن تكون عنصرا لتهدئته عندما يكون في المنزل حتى لا تتغلغل إليها مشاكله في الخارج، ورافي كان الشخص الذي استمتع بهذه النعمة.

بعد هذه المحنة.. خرج رافي من جُحره وبدأ العمل بطرق مختلفة، وكانت أول عملية قام بها هي محاولة إخراج بعض الأغراض من جسده وكأنه شخصا آخر هو الذي أخرجها من خزانته، ولأنه كان في قبر مظلم فقد جرب العمل على جسد نوبا، وهذا الأمر تحول إلى مادة مضحكة عندما رأوا ذلك الشاب الثلاثيني الفاسق يهلع ويكاد يغمى عليه من الخوف عندما رأى كرة نارية تظهر أمامه من العدم، حيث استخدم رافي عبوة نارية يستخدمها الجنود لإشعال النيران في أراضي الأعداء، ثم استخدم أغراضا أخرا بنفس الطريقة لصعقه وتجميده ولطمِه، طبعا كان يأخذ هذه الأشياء من خزائن الآخرين، ويبدو بأن الشاب الثلاثيني الفاسق مجرد غبي ولم يفهم ما الذي يحدث معه.

بعد نجاح هذه العملية.. بدأ رافي عملية حساسة على جسده، وكانت عملية طويلة وتحتاج إلى صبر كبير، حيث بدأ يحقن ببطء مجموعة من المواد المغذية مباشرة إلى معدته، وكانت هذه العملية مثل عملية إفراغ البطن التي يقوم بها النظام تلقائيا، وبعد فترة طويلة.. استعاد جسده بعض صحته وبدأ ينتعش، ومع ذلك.. لم يستطع رافي التحكم فيه أو استرجاع بصره على الأقل، لكنه لم يُصب بخيبة أمل هذه المرة وإنما ثابر حتى النهاية.

بعد فترة.. بدأ عملية إنقاذ الحمالين، كان محظوظا في البداية لحصوله على عشرات الأشخاص الممتنّين له، لكنه حصل بعد ذلك على بعض المجانين الذين تأثروا بالظلام الطويل، وهذا دفعه إلى استغلال الموارد البشرية التي حصل عليها بمساعدة الأميرة نوبا، وفعلا.. استطاعت الأميرة السيطرة على الجميع بطريقتها الخاصة وقادتهم إلى تشكيل فِرقٍ والمساعدة في العمل، وكانت أولى مهامهم هي مراقبة أجسادهم الحقيقية بما أن المسار قد تم فتحه، والغرض من هذه العملية هو جمع المعلومات.

الجميع يعتبرون الحمالين مثل الحيوانات، لذلك لا يخفون عنهم أي شيء، وحتى القاعة الأكثر سرية في أعلى إمبراطورية ستجد فيها بعض الحمالين، لذلك بدأ جميع الحمالين الذين أنقذهم رافي في نسيان ماضيهم المرير وولائهم نحو عشائرهم السابقة لبناء مملكة جديدة، "مملكة الحمالين"، وكان هناك سبب غير مباشر في سهولة سيطرة نوبا عليهم وهو أن رافي بدأ بإنقاذ الحمالين الأكثر معاناة، وبهذا كان تحويل الولاء أكثر سهولة، أما من يعارض ويريد التشغيب أو من كان مجنونا ولا يستطيع السيطرة على نفسه فقد كان كارب يحبسهم في قاعات مخصصة لا يستطيعون الخروج منها، وستقوم نوبا وفريق متخصص في علم الكلام بمحاولة الحديث معهم والسيطرة عليهم من جديد.

بعد ازدياد "المواطنين".. بدأت الأفكار تظهر وتتطور، وبما أنهم جميعا مربوطون بالفراشات فقد كانت أفكارهم جزءا لا يتجزأ من مركز البيانات، وهذا يعني بأن رافي كان الأكثر استفادة من طرق تفكيرهم، وبسبب شغفه.. بدأ يعقد جلسات استماع مع أكثرهم ذكاء حتى وصل إلى فكرة جنونية.

فكرة قد تجعل موازين العالم تتغير.

2021/01/12 · 392 مشاهدة · 1667 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024