بعد أول اتصال مع الحمالة الأنثى، أصيب رافي بالجنون تقريبا وصارت تصرفاته غير رزينة، ومن الوهلة الأولى سيبدو لك وكأنه انفجار نفسي جراء كبت نفسه خلال السنوات الماضية، ليس فقط سنوات تحوله إلى حمال وإنما أيضا تلك السنوات التي قضاها في مراقبة الآخرين دون اتخاذ أي إجراءات، حتى أن كارب كان ينصحه بين الفينة والأخرى بالهدوء كأحد الإجراءات التي تمت بها برمجة الذاكرة الحية من طرف الشركة المصنعة، ومع ذلك لم يستجب رافي لأية نصائح وإنما بدأ يطوف من خزينة لأخرى بمجرد استشعاره بأن صاحبها سيقوم بتخزين أو سحب شيء ما.

حتى بعد مراقبة عشرات العمليات ورؤية العديد من الوجوه والأحداث من خلال مرآة الاتصال، لم يستفد رافي سوى من شيء واحد، وهو أنه اكتشف طريقة للانتقال الآني داخل الفضاء المغلق ما دام يستطيع تحديد نقطة الوصول، لذلك اعتمد على الفراشات للانتقال آنيا إلى حيث توجد ولم يعد بحاجة لقضاء وقت طويل للسفر بين الخزائن، أما الاتصال بالحمالين من الجهة الأخرى فقد كان صعبا جدا بسبب سرعة عملية التخزين، فلا أحد يبقى متصلا لوقت طويل مع حماله، لذلك سيختفي الاتصال وتنقطع الصورة بين رافي والهدف المراقَب في لمحة عين ودون نتائج.

مع مرور الوقت دون نتيجة.. بدأ جنون رافي يتحول إلى الأسوأ، وحتى هو نفسه قد بدأ يخشى على نفسه من الجنون، لذلك قرر بأن يرتاح لفترة قبل استئناف تجاربه، لكنه غيّر رأيه في هذه اللحظة بسبب حدوث شيء غريب.

في هذه اللحظة.. تعثر في اتصال غريب مع أحد الحمالين، ولسبب ما.. فقد طالت مدة الاتصال هذه المرة مما جذب انتباه رافي وانتقل إلى تلك الخزانة، وأثناء فتح الاتصال.. سقط فكّه السفلي مما رآه، وبعد أكثر من نصف دقيقة.. عبس وقال بغضب

"ما الذي يفعله هذا الوغد؟"

أجابه كارب ببراءة

[هذا أشبه بعملية اتصال جنسي]

لوى رافي فمه ساخرا

"أنا أعرف هذا، لكن.. هل يفعلها مع حمّال؟"

في المرآة.. كان يرى ذلك الشاب الثلاثيني الفاسق الذي رآه في أوه اتصال له، ويبدو بأنه كان عاريا ويتلامس مع الأنثى التي أمامه، ومع أنه لا يستطيع الوصول إليها إلا أنه كان شغوفا بما يفعله، وبعد المشاهدة لبعض الوقت.. قرر رافي البدء في عملية الاتصال بالحمالة وعدم تضييع هذه الفرصة النادرة.

استغل رافي خبرته في تحريك الضباب وفتح الخزائن لاقتحام الصورة والوصول إلى الهدف، ولأنه لم يعرف متى سيحصل على فرصة مثل هذه فقد استخدم كل وعيه الذي يتشاركه مع الفراشات لصنع مسار اتصال، وأثناء هذه العملية.. شعر بنفس الشعور الذي حصل عليه عندما كان يحاول الدخول إلى الفضاء الضبابي أول مرة.

استمرت هذه العملية لأكثر من عشر دقائق قبل أن يحصل على استجابة، وبعد دقيقة أخرى.. شعر وأن شيئا ما قد كُسِر، وفي نفس الوقت.. سمع غمغمة ضعيفة تقول شيئا بلغة غير مفهومة، ولأن الغمغمة كانت عبارة عن فكرة ووعي.. فقد استطاع رافي فهم ما تقوله

"لا تفعل، أرجوك، لا تفعل، دعني أذهب"

عبس رافي لبعض الوقت وشعر بأن الغمغمة قادمة من إرادة الأنثى، لكنها كانت تبدو ضعيفة جدا ولا تستطيع الوصول إلى الفضاء الضبابي، وضعفها يعني أيضا بأنها لن تستطيع تشكيل جسد مرئي، ولو حتى عبارة عن نقطة ضوء صغيرة حتى يعرف رافي بأنها موجودة، وبعد تفكير طويل.. قرر رافي استشارة كارب، أومأ عندما وصل إلى فكرة تبدو جيدة ثم أرسل وعيه عبر المسار المفتوح حتى شعر بأنه قريب من مصدر الغمغمة، مد وعيه حتى لامس وعي الفتاة ثم تحدث معها بهدوء

"هل تريدين مني إنقاذك؟"

صمتت الغمغمة على الفور مما يعني بأنها قد سمعت صوت رافي، أضاف قائلا

"لدي طريقة لتحريرك، هل تريدين الهروب من هذا المنحرف؟"

ساد صمت طويل قبل أن تومئ برأسها، نعم.. أومأت برأسها، فالوعي لا ينقل الكلمات فقط وإنما ينقل الرغبات كلها، شعر رافي بموافقتها فقال

"سأرسل إليك إحدى فراشاتي، اعتبريها فراشة رحمة، اقبليها واعتزّي بها ثم دعيها تقودك نحو الخلاص"

منذ قرر رافي محاولة التواصل مع الحمالين وهو يفكر في الهوية التي يجب عليه استخدامها أمامهم، فهو بالتأكيد لا يريد أن يكون مجرد حمال مثلهم، لذلك قرر أن يضع حدا فاصلا بينه وبين باقي الحمالين، قرر هذا دون أن يدرك بأن قراره هو نفسه قرار البشر في استعباد إخوانهم، ومع أنه ربما لا يملك أي نوايا سيئة ضد الحمالين إلا أنه في قرارة نفسه كان يرى بأنه أفضل منهم، فهو المالك الحالي للضباب الذي يعذبهم.

أرسل إحدى فراشاته نحو الحمالة ثم انتظر، وبعد فترة بدأ يشعر بأن وعي الفتاة قد صار أقوى قليلا، لكنها لا زالت غير قادرة على اتخاذ أي قرارات مثل الحركة، لذلك اعتمدت على الفراشة لإخراجها، رأى رافي الفراشة قادمة نحوه ومعها كمية من الضباب الخفيف، عرف بأنه وعي الفتاة الصغيرة، وضعها في مكان آمن ثم عاد لمشاهدة ما كان يفعله ذلك المنحرف، وبعد نصف ساعة أخرى كان قد انتهى وابتعد عنها، لكن الغريب الذي صدم رافي هو أن الاتصال لم ينقطع هذه المرة.

فهِم رافي بأنه بمجرد فتح المسار فسيكون الاتصال بالحمال ممكنا في أي وقت، هنا.. دقّ صوت جرس قوي في ذهن رافي، ألا يعني هذا بأنه يستطيع التواصل مع جسده المدفون طوال هذه المدة لأنه سبق وفتح مسارا نحو الفضاء الضبابي؟

لكن.. كيف سيتواصل معه وهو لا يذكر من أين خرج؟

أرسل جميع الفراشات بشكل هائم وفي جميع الاتجاهات للبحث عن أي "ثقب" غريب، لكن مهما فعل.. لم يستطع إيجاد المكان الذي خرج منه، لذلك عاد خائبا وبدأ يفكر في طريقة لإيقاظ الفتاة الضعيفة، حتى توصل بمساعدة كارب إلى طريقة لربطها بمعالج البيانات مباشرة حتى تستفيد من الوعي الذي توفره باقي الفراشات، ومع ذلك سيحرص كارب على أنها لن تستطيع الوصول إلى البيانات الحساسة، وإلا فكيف سيتميز رافي عن باقي الحمالين؟

بعد يوم واحد.. سمع رافي صوتا رقيقا يقول

"أين أنا؟"

انتفض وسارع نحو مكان الفتاة وكأنها هي أمله الوحيد للخروج من هذا العالم الضبابي، وقبل أن يصل إليها، وبفكرة واحدة، قام بتغيير ثيابه إلى بذلة سوداء خلفها رداء أسود طويل ويرفرف بدون رياح، وحتى جسده المتخيَّل قد تحول إلى شاب عشريني طويل له ملامح واثقة ويعطي شعورا بأنه يحكم العالم، وصل أخيرا إلى الفتاة وكانت لا تزال في حالة ضبابية، لكنه من تجربته السابقة كان يعلم بأنها قد تعافت بعض الشيء، ابتسم نحوها ثم قال

"لقد سمعت استغاثتك وقررت إنقاذك"

صمتت الفتاة لبعض الوقت ثم قالت

"لا أعرف أين أنا، لكني على الأقل لا أشعر بأنك تريد الإساءة إلي"

صمت رافي قليلا وبدأ يتذكر ما حدث معه عندما تحول إلى حمال أول مرة، في ذلك الوقت استطاع سماع ما كان يقوله كبار عشيرته، بل وشعر أيضا برغباتهم بطريقة غريبة، وبما أنه كان هنا لوقت طويل فقد فهِم بأن التحول إلى حمال سيمنحك وعيا قويا، لذلك كانت الفتاة تستطيع فهم ما يحدث معها في الخارج، ويبدو بأنها لم تفتح "عينيها" بعد بما أنها كانت متعودة على الظلام، ابتسم رافي نحوها ثم قال

"اتبعي رغبة فراشة الرحمة وافتحي عينيك"

عبست الفتاة قليلا ثم تفاجأت بطريقة غريبة وقالت بـحشرجة

"كيف ... هذا؟"

قال رافي بصوت واثق

"أنت الآن في مملكتي، تستطيعين العيش هنا وفعل ما تشائين، لن يعتدي عليك أحد هنا"

ارتجفت الفتاة قليلا ثم انحنت نحوه وقالت بإخلاص

"شكرا لك سيدي على رحمتك"

نعم، هي عبست وانحنت وارتجفت، كل هذه الأفعال فعلتها بوعيها فقط، وفهِمها رافي أيضا بوعيه، ضحك رافي ثم أراحها

"أنا لست بحاجة إلى شكرك، ارتاحي قليلا ثم ابدئي باتباع إرشادات فراشة الرحمة، ستعلمك كيف تنشئين جسدا لنفسك، بعدها يمكنك القدوم إلي للإجابة على تساؤلاتك"

رغم أنه أراد الحديث معها وإجراء التجارب عليها إلا أنها كانت لا تزال ضعيفة جدا، لذلك تركها وحدها حتى تأتي بنفسها، لكن.. وعلى غير المتوقع، بدأت الفتاة تتبع إرشادات الفراشة وبدأت تشكل لنفسها شكلا، لكن المثير للدهشة هو اتخاذها لشكل عصفور ذهبي بدل فتاة، استغرب رافي قليلا قبل أن يفهم بأنها قد كانت تعاني لوقت طويل بسبب كونها فتاة، وبما أن لديها حرية اختيار شكلها فقد اتخذت شكل عصفور ذهبي، لكن.. ألا تخشى بأني سأشويها على العشاء؟

ابتسم رافي في نفسه ثم انتظرها حتى انتهت وتقدمت نحوه تطفو بدون رفرفة أجنحتها، ابتسمت نحوه ثم قالت باحترام

"اسمي نوبا، من الجبل المنعزل شرق قارة هارياس، كيف أناديك يا سيد؟"

صمت رافي قليلا لأنه سبق وفكر في الشكل فقط وليس في الاسم، ابتسم أخيرا ثم قال

"يمكنك مناداتي.. ملك الحمالين"

يبدو بأن نوبا قد فهمت شيئا ما من جوابه فبدأت تتحول إلى شكل فتاة شقراء تلبس فستانا ذهبي اللون، انحنت نحوه باحترام أكبر وهي تقول

"أعذرني على وقاحتي.. يا صاحب الجلالة"

2021/01/12 · 361 مشاهدة · 1296 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024