2 - عبارات الإيقاظ مجرد خرافة

ساعتان قبل عملية إيقاظ رافي

في قاعة سرية تحت الأرض، جلس ثلاثة من شيوخ العائلة على كراسي فخمة وأمامهم مجموعة من الباحثين يلبسون ألبسة عازلة ويغطون أوجههم بأقنعة طبية، كانوا منشغلين بتعبئة حوالي خمسين حوضا بسائل لزِج غريب الرائحة، وتخرج من الأحواض عدة أنابيب موصولة بآلة كبيرة، وبعد ملئها قاموا بإغلاقها قبل أن يتقدم أحدهم ويقول باحترام:

"السيد هارم، لقد انتهينا هنا، سأرسل فريق المراقبة، كالعادة.. سيفقد السائل قوته خلال عشر ساعات"

أومأ السيد هارم برأسه الأشيب ثم عدّل نظّارته ذات الإطار البني قبل لمس ذقنه المغطى بلحية بيضاء خفيفة وهو يسأل دون أن يلتفت

"بريام، هل سيكون ابنك هو الأول؟"

كان بريام رجلا خمسينيا طويل القامة رقيق الجسد، ورغم عمره إلا أنه وجهه الحليق يبدو شبابيا، ابتسم قليلا ثم رد

"هارم، ابني رافي ليس أفضل من غيره من شباب العشيرة"

قهقه الشيخ هارم وهو يقول

"ابتسامتك الواسعة توضح عكس ما تقوله، على أي حال.. دعنا نبدأ بالصغيرة شيفر، فهي أيضا من بين اليافعين الذين تفخر بهم عشيرة أوانيا"

حمحم الشخص الثالث وكان أربعينيا قصيرا ببطن بارز

"رغم ذلك فهي في المرتبة الثالثة، أعلم أنها حفيدتك العزيزة إلا أنها ليست أفضل من ابن أخي"

صمت الثلاثة قليلا ثم قال بريام

"مارج شاب واعد، على أي حال فالقانون يمنع إدخال أكثر من مرشح واحد، كما يمنع علينا إفشاء أي شيء قد يحدث أثناء فترة الإيقاظ دون استشارة رئيس العشيرة، لذلك.. دعونا نبدأ بالصغيرة شيفر ثم الصغير مارج، وبعدهما ابني رافي، موافق يا سيرَر؟"

أومأ سيرر ثم قال ضاحكا

"ليس وكأن ابن أخي أفضل من ابنك يا بريام، هذا شيء لا يمكنني إنكاره"

ابتسم بريام بسعادة لكنه لم يقل شيئا، وفعلا.. بعد حضور فريق المراقبة التقنية تم إدخال فتاة في السابعة عشر من عمرها، يكسو ظهرها شعر بني طويل مسرح بعناية، لها وجه رقيق وأنف حاد، مع شفتين باهتتين وعينين باردتين وكأنها تعيش وحدها في هذا العالم، لكن الجميع هنا يعلمون بأن هذه ليست طبيعتها وإنما تُعتبر إحدى أنشط الإناث في العشيرة، وما جعلها تبدو بهذه الجدية هو خوفها من عملية الإيقاظ، أو ربما بسبب ما قالته وهي تنظر نحو جدها بنظرة قاتلة

"هل من الضروري أن.."

لم تكمل حديثها، وبدل ذلك تصفحت أوجه الحاضرين، هقهق جدها هارم ثم قال

"ليس هناك ما تخجلين منه، جميع الحاضرين متزوجون وكبار في السن، ولن يهتموا برؤية فاكهتك الصغيرة، هاهاها"

هقهق بصوت مرتفع وهقهق الجميع بعده، ورغم ما قاله إلا أنه نظرة التوقع قد اشتعلت في أعين الجميع تقريبا، حتى جدها كان ينظر إليها بطريقة خبيثة، اسودّ وجه شيفر ثم عضت شفتها وبدأت تنزع ثيابها بسرعة بينما تخفي بيديها ثلاثة من كنوزها تاركة بعضها باديا أمام الجميع، وبسرعة خاطفة قفزت في الحوض المفتوح أمامها وهي تلعَن في قلبها.

على عكس المتوقع.. حبس الجميع أنفاسهم واختفت جميع نظراتهم الخبيثة، استغربت شيفر ولم تعلم ما الذي يحدث حتى تحدث بريام

"كانوا يضايقونك فقط يا شيفر، لكنك الان في عملية مهمة، أفرغي عقلك من أية أفكار جانبية واستحضري عبارات الإيقاظ التي قمتِ بالتدرب عليها في السنوات الماضية، وعندما تجهزين.. انطقي عباراتِك لتكون محفّزا نفسيا لك"

أخذت شيفر نفسا عميقا ثم هدّأت نفسها لأكثر من ثلاث دقائق، وأخيرا.. نظرت إلى الخبير بالقرب من آلة كبيرة ثم قالت بثقة وعزم

"أعيش فوق السحاب وأسعى لاختراق السماء"

ومع بداية نطقها لهذه العبارات.. قام الخبير بتشغيل الآلة لتحفيز البذرة في جسد شيفر، وفعلا.. بدأ السائل اللزِج يتناقص بطريقة مرئية للعين المجردة، أغلقت شيفر عينيها ودخلت في حالة سكون تام، وبعد حوالي عشر دقائق.. كان السائل قد اختفى تقريبا، ليس لأنه قد تسلل إلى جسدها وإنما لأن الآلة كانت تقوم بشفطِه بمجرد نفاذ المادة الدوائية منه.

وقفت شيفر بجسد ملطخ باللزوجة ولم تهتم بمن يشاهدها على ما يبدو، رفعت يدها وركّزت انتباهها قبل أن يظهر تيار هوائي خفيف جدا حول يدها، تهلل وجه هارم وقال

"أعيش فوق السحاب وأسعى لاختراق السماء، هكذا إذن، لقد كنتِ تحلمين بالطيران، لهذا حصلتِ على عنصر الرياح"

أومأ الحاضرون برؤوسهم وبدؤوا يناقشون نقاط قوة وضعف عنصر الرياح، فحتى لو كنت تحلم بالطيران إلا أنها لن تستطيع الطيران إلا في المستوى العاشر، أو بعد حصولها على سلاح مبارك مخصص للطيران وفي المستوى التاسع على الأقل، وهو شيء صعب حتى على عشيرة أوانيا، لكن هذا لا يعني بأنها لن تزيد سرعتها، خاصة إذا حصلت على بعض الأدوات المناسبة، وأثناء نقاشهم.. قال الشيخ هارم بخُبث

"اكتفينا من النظر إليك يا شيفر، إذا كنت مهتمة بعرض فاكهتك الصغيرة علينا فيمكنك العودة لإمتاع أنظارنا في يوم آخر"

ضحك الجميع وأيقظوا شيفر من ذهولها فصاحت بخوف لأنها نسيت بأنها كانت لا تزال عارية، قفزت بخوف نحو ثيابها وغطت بها جسدها قبل الجري نحو إحدى الغرف الفارغة لارتدائها، وهكذا حصلت العشيرة على أول مبارك في هذا العام وستكون قادرة في المستقبل على زيادة سرعتها، خاصة إذا استخدمت الأسلحة المباركة المخصصة لعنصر الرياح.

بعد ربع ساعة كانت العشيرة قد حصلت على ثاني مبارك وكان من نوع البرق، نعم، مارج حصل على عنصر البرق، ما يعني بأنه يستطيع في المستقبل تعزيز ضرباته واستخدام الأسلحة المباركة الأكثر انتشارا بعد أسلحة النار، ولن يواجه أبدا أية مشاكل في إيجاد وظيفة بسبب كثرة الطلب حول مباركي البرق.

كانت عبارات إيقاظه هي "أُضيء طريقي بنفسي، لا أحتاج شمسا ولا قمرا"، ومع أنه يبدو وكأنه كان يستهدف عنصر النور إلا أن ملامح وجهه توحي بأنه راضٍ عن عنصر البرق، وربما كان يستهدف البرق من الأساس!

نظر مارج في صدره ثم قدميه وكأنه فخور بطول جسده وعضلاته التي توحي بأنه رياضي ممتاز، هزّ رأسه يمينا وشمالا فتطايرت بقايا السائل اللزج من شعره الأشقر الذي كان يغطي أذنيه وقفاه ثم نظر إلى بريام لبعض الوقت، ابتسم ثم قال

"أخبرني رافي بأنه سيحاول إيقاظ عنصر النار، قال بأنه عنصر مطلوب في وسط القارة"

فهِم بريام تلميح مارج حيث يُعتبر تطور عنصر البرق أسرع بكثير من عنصر النار بسبب قلة تقنيات هذا الأخير، ابتسم ثم عقب

"إذا أيقظ عنصر النار فستكون هذه فرصتك للتغلب عليه"

شعر مارج بالحرج ثم أومأ وقال بإيمان

"كل شيء لأجل العشيرة"

أومأ جميع الحاضرين وكأن ما قاله كان عبارة مقدسة، لبس يثابه ثم خرج.

بعد ربع ساعة أخرى، دخل رافي بجسده القصير والنحيل وكأنه لم يكمل فترة نموّه بعد، كان وجهه دائريا بعض الشيء رغم خلو جسده من أي لحم زائد، ناهيك عن أية شحوم!

كان لديه شعر أسود وجبين صغير، حاجبان رقيقان وعينين كسولتين تحتهما أنف منخفض، أما فمه فقد كان يرسم ابتسامة خفيفة لا تكاد تكون ابتسامة، وعلى خدّيه غمّازتان تجعلانه أصغر سنا، وسواء من النظرة الأولى أو النظرة المائة فإنك ستعتقد بأنه مجرد شخص عادي بسيط وساذج، وربما حتى بعد أن يبلغ العشرين فسيظن الجميع بأنه لا يزال في الخامسة عشرة، لكن.. ورغم كل ما يبدو عليه إلا أن الجميع هنا قد ابتلعوا ريقهم ولم يصدروا صوتا واحدا، وهذا لأنهم يعلمون من يكون رافي.

عاش رافي منخفض الرأس منذ طفولته ولم يتزاحم مع رفاقه أبدا، ومهما قام والده بتحفيزه إلا أنه لم يُظهِر حقيقته أبدا حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره، ولأنه كان منخفض الرأس فقد كان من السهل على الجميع اختياره هدفا لإظهار شجاعتهم، خاصة أن هذا العمر كان يفرض على جميع يافعي العشيرة المشاركة في أعمال معينة، ومنها القيام بمسابقات في عشائر أخرى والخروج في خرجات إلا البراري والمشاركة في بعثات دبلوماسية في كامل الجزر الشرقية.

خلال هذه السنوات الثلاث كان رافي قد اكتسح جميع المسابقات ولم يتخلّف إلا في تلك التي تعتمد على القدرات البدنية بشكل أساسي، أما ما يتعلق بالذكاء والتخطيط والخداع فقد أدهش حتى الكبار، وهذا جلب له الكثير من المشاكل، سواء من منافسيه في عشيرة أوانيا والعشائر الأخرى أو بعض الكبار الذين رأوه عدوا مستقبليا، لكن.. وبطريقة غريبة.. كان ينجوا دائما من المكائد، ليس هذا فقط وإنما كان يرد الضربة بضربة أقوى، سواء بيده أو باستعارة أيدي الآخرين.

رغم صغر سنه.. تسبب في جروح خطيرة لأكثر من عشرين منافس من مختلف العشائر، حفّز عصابة من المتنمّرين للقيام بأعماله سرا مقابل مكاسب من عملياتهم بينما صنع لنفسه حجة غياب في جميع الأحداث، مشتبه رئيسي في إحراق وتخريب سلسلة متاجر خاصة بأحد شيوخ عشيرة منافسة، ورغم هول المسألة إلا أنه نجا منها بسبب نقص الأدلة، شارك في مسابقة بإحدى العشائر بهوية مزيفة وحصل على المركز الأول ثم اختفى هو والشخصية التي أخذ هويتها، ولم يعثروا عليه إلا بعد عدة أيام مربوطا في كهف داخل منطقة الاختبار، ولغرابة الأمر فهو أيضا لا يدري ما الذي حدث له.

كل هذه الأحداث جعلت الجميع يخشونه، ليس لأنه خطير جدا وإنما لأنه أنكر جميع هذه الأعمال بالأدلة القاطعة رغم أنه المشتبه الوحيد، إنكاره كان معززا بالأدلة دائما، وأحيانا يكون الشهود على براءته خصوما له، ما يعني بأن عقابه سيكون نوعا من "الظلم"، ورغم ذلك.. لم يمنع هذا العديد من الناقمين عليه من محاولة عقابه، ما زاد من حدّة انتقامه، حتى وصل خبرُه إلى مبعوث الحاكم في الجزر الشرقية، دعاه المبعوث للاشتراك في مسابقة استراتيجية مغلقة، أثنى عليه كثيرا ثم أصدر خبرا بأنه مهتم بـ رافي وأنه سيدعوه إلى العاصمة لإكمال دراسته بعد مرحلة الإيقاظ، وهذا جعل الجميع يبتلعون غيظهم رغما عنهم.

وقف رافي أمام الجميع ونظر إليهم بثقة متجاهلا صمتهم، حتى قال أبوه

"تعرف ما عليك فعله، أليس كذلك؟"

في السابق.. عندما قرر رافي إظهار جدارته، حصلت بينه وبين أبيه العديد من المشاحنات، علِم بعدها بأنه لا يجب أن يعتمد على أبيه للخروج من المآزق، بل صار متيقنا بأن أباه هو الذي سيضعه في المأزق عند أول زلّة، ومع ذلك حافظ الاثنان على نوع من الاحترام، والآن.. أومأ رافي برأسه ثم نزع ثيابه وقفز في الحوض، غاص جسده في السائل اللزج ثم نظر إلى الخبير وقال عبارات الإيقاظ التي جهزها منذ وقت طويل

"عبارات الإيقاظ مجرد خرافة"

وأثناء ذلك.. قام الخبير بتشغيل الآلة، وفي نفس الوقت ارتجف قلبه لأن عبارات رافي لا تبدو وكأنه عبارات إيقاظ، لكن الوقت كان قد فات على إيقاف العملية، نظر إلى الشيوخ ولاحظ بأن تعابير الجميع قد تغيرت، لأن ما قاله رافي كان ينتهك المعرفة الرائجة حول عبارات الإيقاظ، وقد كانت العشيرة حريصة على تعليم اليافعين قواعد التدرب على عبارات الإيقاظ وأنها لا يجب أن تكون عشوائية وإنما يجب أن تستهدف العنصر المرغوب بإيقاظه، لكن ما قاله رافي ليس فقط مخالفا لقواعد إنشاء عبارات الإيقاظ وإنما كان تجذيفا بشيء يقرّ به كل الأجناس.

رافي.. الذي حيّر الجميع بذكائه، حيّر الحاضرين اليوم بغبائه، ورغم ذلك.. ظن البعض بأن ما قاله ربما يحمل بعض المعاني الخفية التي لم يدركوها، وإلا فكيف لفتى أبهر الجميه بذكائه أن يفعل شيئا غبيا مثل هذا؟

ومهما كانت أفكارهم خلال العشر دقائق القادمة فقد استيقظوا منها بعد رؤية جسده الساقط والغارق في الدماء بسبب لكمة والده بنية القتل، نعم.. لا فائدة من حياته بعد إيقاظ العنصر السابع، الموت أرحم له.

2021/01/10 · 393 مشاهدة · 1660 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024