لم يُصدم رافي من شكل الكرة البيضاء التي كان حجمها لا يتعدى حجم تفاحة، صدمته كانت لأنها عنصر دخيل على مخيلته، لم يفكر نهائيا في أي شيء يشبهها، والأكثر صدمة هو أنها لم تبدأ في الاختفاء عندما تراجع رافي عن تخيّلاته، لماذا هذه الكرة لا تختفي؟

هل هي ليست جزءا من مخيلتي؟

بعد التفكير لبعض الوقت قرر رافي بأن هذا أفضل، لأنها إن كانت عنصرا مستقلا فهذا يعني بأن وعيه لم يتم اختراقه بتخيل أشياء لا يعرفها، ما يعني بأنه ليس قريبا من الجنون، إذن.. كيف ظهرت هذه الكرة؟

بعد التفكير لبعض الوقت قرر رافي بأن الكرة ربما قد انجذبت إلى قوة وعيه، لكن هذا قد لا يكون جيدا بالضرورة، فربما قد تكون آكلة للوعي أو شيء مثل هذا، طبعا لا توجد قدرات الوعي في هذا العالم إلا في الأساطير والقصص الفلسفية، لذلك كانت هذه فكرة مستبعدة، هذا طمأن رافي بعض الشيء وقرر الاقتراب من الكرة ومحاولة لمسها.

بمجرد لمسها بيده الوهمية.. شعر بأنه يستطيع التواصل معها، ارتجف وعيه قليلا قبل أن يشعر بكمية من الأفكار تغزو وعيه، صاح وتراجع لمسافة بعيدة قبل أن يهدأ وينظر إلى الكرة البيضاء، ولسبب ما.. شعر بأن الكرة قد صارت جزءا من وعيه رغم بُعدِها عنه، مد
يده الوهمية أمامه وفجأة ظهرت فيها الكرة البيضاء، ارتجف قليلا وتركها ثم تراجع للخلف، لكنه هذه المرة لم يشعر بأي تهديد ولا أية أفكار تغزو وعيه، وقف مكانه لوقت طويل قبل أن يستذكر الأفكار التي دخلت وعيه سابقا، وبعد التركيز حصل على عدة جمل واضحة

[الذاكرة الحية ***** قابلة للاستخدام ولا تحتاج إلى كلمة مرور]

[هذه الذاكرة هدية لأول من يصل إليها]

[مرحبا بك أخي، لابد أن حياتك ليست جيدة بما أنك هنا، أنا أيضا مثلك، أوه، ربما علي القول بأني كنت أيضا مثلك، على أية حال، لقد برمجت هذه الذاكرة لمساعدتك، وفيها العديد من الذكريات الخاصة بي، اسألني ما تشاء وقد أستطيع إجابتك، هاه، أقصد بأن معرفتي هي التي تستطيع إجابتك، أتمنى أن تكون أحوالك أفضل من أحوالي، لا أعرف من أنت أو كم هو الوقت الذي يفصل بيننا لكني سأعتبرك أخي، أخوك ***** من دولة ***** وسط قارة الـ *****]

صُدم رافي هذه المرة تماما، ذاكرة حية وشخص ترك رسالته ولغة غير مفهومة لكن يمكن للوعي فهمها، كل هذا كان غريبا عن معرفة رافي الواسعة باختراعات العالم الحديث والقديم على حد سواء، لا يوجد في التاريخ المكتوب شيء مثل الذاكرة الحية أو مخاطبة الوعي مباشرة وتجاوز الحدود اللغوية، فماذا يكون هذا الشيء أمامه؟

هل ربما يكون مجرد فخ قديم يهدف للسيطرة عليه؟

نعم.. قد يكون رافي واسع الحيلة، لكنه لا يزال مجرد صبي واسع الخيال، لذلك بدأت الأساطير والقصص الخرافية تغزو عقله، وهذا جعله خائفا من هذا المتغير الجديد، لذلك بقي بعيدا عن الكرة البيضاء لأكثر من نصف يوم، بعدها.. أخذ "نفسا عميقا" ثم اقترب من الكرة ولمسها مرة أخرى، لكن.. وفي هذه اللحظة.. انفجرة الكرة وتحولت إلى ضباب، عبس رافي وتراجع للخلف قبل أن يقول في نفسه

'ما الذي حدث؟'

وبشكل غير متوقع، تلقى إجابة في وعيه

[لقد اندمجت الذاكرة الحية ***** مع وعيك، تستطيع الآن الوصول إلى ما يوجد فيها من معرفة، وستقوم الذاكرة الحية ***** بمساعدتك مستقبلا على تذكر كل ما تراه، وتوجد خصائص أخرى مثل سرعة التحليل وزيادة الحواس وغير ذلك، لكن وعيك مفصول عن جسدك لذلك لا تعمل هذه الخصائص في الوقت الحالي]

صمت رافي لوقت طويل قبل أن يسأل

"ما هي الأضرار الجانبية لاستخدام الذاكرة الحية؟"

تلقى الإجابة مباشرة

[منتجات شركة ***** هي الأفضل في السوق، تمت تجربتها على ملايين البشر بدون مشاكل، وشركتنا هي الأكثر انتشارا ورغم ذلك هي الشركة الأقل من حيث الدعاوى القضائية التي تقام ضدها، لأن شركة ***** تراعي عملائها ولا تقدم لهم سوى المنتجات الأفضل]

عبس رافي وشعر بأنه يقف أمام مسوّق محترف، سأل مرة أخرى

"أين هو مقر شركتكم؟"

سمع

[لدينا حاليا 7258 فرع منتشرة في جميع القارات السبع، ومقرنا الرئيسي موجود في البلد العائم بالقرب من مقر تحالف ***** الدولي]

تجمد رافي وشعر بأنه يعيش في عالم مختلف، القارات السبع والبلد العائم؟

أليس لدينا ثلاث قارات فقط؟

بعد تفكير.. سأل

"في أي تاريخ تم إنتاجك؟"

سمع

[تم إنتاجي في عام 784 من الحقبة الصفراء، لكن شركتنا تمتد لما قبل الحقبة الصفراء بأكثر من خمسمائة عام]

الحقبة الصفراء؟

أليست هذه هي الحقبة التي تسبق حقبة اللمسة المظلمة؟

شعر رافي بالصدمة لأن الحقبة الصفراء كانت كالسراب في كتب التاريخ، وكأن المؤرخين كانوا يشعرون بالعار أو الحسد وهو يذكرونها، أو ربما فقط لأن المصادر كانت شحيحة ولم تذكر الكثير عنها، هل هذا يعني بأن قوة العناصر السبعة لها تاريخ طويل يمتد حتى الحقبة الصفراء؟

استمر رافي في طرح الأسئلة لوقت طويل حتى بدأ يفهم بعض الأمور، كانت الحقبة الصفراء مليئة بـ "السعادة" حيث عاش البشر مع بعضهم البعض في سلام، لكن هذا كان فقط بسبب الحقبة التي تسبقها والتي تُعرف بـ حقبة الهلاك، حيث تسببت اختراعات البشر بهلاك العالم تقريبا ولم ينجُ إلا عدد قليل من البشر والمخلوقات الأخرى، وفي الحقبة الصفراء تم إنشاء تحالف عالمي قوي يحرم القتل والاستعباد وتم إنقاذ عدد هائل من المخلوقات ومساعدتها عبر الأبحاث العلمية للنجاة من آثار الدمار السابقة، كما تم تهجين عدد هائل من المخلوقات ومنحها فرصة للاستمرار في العيش.

الحقبة الصفراء هي فخر البشر، لكن للأسف لم يجد رافي أي شيء حول نهاية هذه الحقبة أو أسباب ظهور مرض اللمسة المظلمة، ونفس الشيء حول قوة العناصر أو هذا المكان الضبابي الغريب، حيث لا يبدو بأن الحقبة الصفراء كانت تعتمد على قوة العناصر، لذلك قرر السؤال عن شيء مختلف

"من هو ذلك الشخص الذي ناداني أخي قبل قليل؟"

[هو مالكي السابق، تركني هنا ريثما يأتي شخص آخر لاستخدامي، لذلك اندمجت مع وعيك دون الحاجة إلى كلمة مرور، وقد برمجني مالكي السابق حتى أكون مساعدا شخصيا له، ولك أيضا، لكن هذا يتطلب إذنك أولا]

"مساعد شخصي؟" استغرب رافي ثم سمع

[الذاكرة الحية تجيب فقط بعد سماع سؤالك، لكن تمت برمجتي لأراقب معك كل ما تراه وتسمعه أو ما يحيط بك، وبناء على ذلك قد أقدم لك بعض الملاحظات تلقائيا، لكن يجب أن أحصل على إذنك أولا]

صمت رافي لبعض الوقت يفكر في هذا ثم سأل بضعة أسئلة أخرى لضمان سلامته الشخصية قبل أن يسمح للذاكرة الحية بمساعدته، وفجأة.. بدأت رؤيته تتغير بشكل مخيف، صار وعيه يستطيع إدراك الكثير من الأشياء حتى لو لم ينتبه إليها، ولم يعد الضباب فارغا كما كان، بل بدأ رافي يحس بأن هناك عددا هائلا من الأشياء المخبئة في مناطق مختلفة من الضباب، صدمه هذا وبدأ يسأل عن ماهية تلك الأشياء فسمِع

[حسب ذاكرة المالك السابق فإن هذا الفضاء هو أحد اختراعات منظمة عسكرية مستقلة تابعة للتحالف العالمي في أواخر الحقبة الصفراء، وكانوا حينها يعملوا على سبعة مشاريع مماثلة ستمنح البشر قدرات جديدة، لكن هذا المشروع قد تعثر في منتصفه ولا يعرف مالكي السابق ما الذي حدث بعد ذلك]

عبس رافي طويلا لأن هذه المعلومة كانت قيمة جدا، هل كان البشر يبحثون عن طريقة لزيادة القوة وانتهى بهم الأمر بتدمير البشرية مرة أخرى؟

نعم، الحقبة الصفراء ليست لامعة جدا في كتب التاريخ، إذا لم يكن بسبب قلة المصادر فقد يكون بسبب إخفائها عمدا، هل هناك من يريد إخفاء التاريخ حتى لا يتحمل وطأة تدمير العالم وتخريب الأمم وجعل البشر عبيدا للبشر؟

هل لهذا الأمر علاقة باللمسة المظلمة ؟

بعد هذه التساؤلات.. قال

"أريد الاطلاع على جميع ذكريات المالك السابق"

...

بعد بضعة أشهر أخرى أمضاها رافي في دراسة ذكريات المالك السابق للذاكرة الحية، فهِم رافي عددا هائلا من المعلومات حول التاريخ القديم، وأدرك أسرارا قد تهز العالم لو عرفها البشر وباقي الأجناس، والأكثر أهمية هو أنه فهِم أسرار هذا المشروع العملاق كون مساعدِه أحد العلماء الذين أنشأوه.

هذا الفضاء الشاسع هو مشروع عسكري كان الغرض الوحيد منه هو "طي الفضاء" والذي سيُتيح لهم الانتقال عن بُعد، ولِفعل ذلك تم إرسال آليات ضخمة إلى الفضاء، لكن.. وقبل الانتهاء منه، تعرض التحالف للخيانة من بعض أجنحته بغرض الاستيلاء على هذا المشروع، حيث شعرت الجهات التي تعمل على المشاريع الستة الأخرى بأن نجاح هذا المشروع سيكون ورقة رابحة ضدهم، وبهذا قاموا بتخريب بعض آليات المشروع قبل السيطرة عليه، لكن هذا العمل التخريبي تسبب بحرب أهلية بين القارات السبع وانتهى بكارثة معينة قد تكون السبب في فناء الحقبة الصفراء.

المالك السابق للذاكرة الحية لا يعرف ما حدث في النهاية، ببساطة لأنه كان من بين مستخدمي عنصر الفراغ في الوقت الذي تم تخريبه، لذلك بقي عالقا وتحول هو وعشرات من العلماء إلى ما يعرف اليوم بالحمالين، لكنه وبطريقة ما استطاع الدخول إلى الفراغ كما فعل رافي، لكنه لم يعِش طويلا لأنه تضرر بسبب الضباب الذي غزا جسده.

تلك الأشهر التي قضاها المالك السابق للذاكرة الحية في الفراغ الضبابي استغلها للاستكشاف، اكتشف حينها الكثير من الأشياء الغريبة، حيث يبدو بأن الأعداء قد سيطروا على المشروع بدأوا بتنميته، بدأت تظهر مساحات مفصولة الواحدة تلو الأخرى وتمتلئ بالأغراض، فهِم حينها بأن مشروع الانتقال الآني قد تم تحويله إلى مخزن عملاق، وبطريقة ما.. وصل الأعداء إلى الآليات التي لم تتضرر وعبثوا بها لمنح الحمالين بعض الحصانة، بعدها صار الضباب لا يضر جسد الحمال، بل صار يحميه أيضا من الحوادث التي قد يتعرض لها، لكنهم لم ينجحوا في إرجاع قدرته على التفكير لأنه ببساطة يعيش في منطقة زمكانية مضطربة.

لا يعرف رافي لماذا يوقظ المنحوسون عنصر الفراغ بما أن نظام الفراغ قد تم تخريبه، لكنه فكر بأن الأمر ربما تكون لديه علاقة بأنانية صناع الأنظمة الستة الأخرى، لابد أنهم لم يهتموا بحياة البشر ما داموا سيحصلون على خزائن فراغية متحركة، لكن رافي لم يهتم بهذا الآن، ما اهتم به أكثر هو دراسة نظريات وأفكار المالك السابق للذاكرة الحية، والذي كان اسمه غريبا عن اللغات الحالية، لكن رافي قام باختصاره إلى كارب، ولأن الذاكرة الحية كانت تتحدث معه فقد أعطاها رافي اسم كارب أيضا.

في هذه اللحظة.. كان رافي قد شكّل مدينة كاملة في مساحة فارغة أثناء محاولاته للسيطرة على الفراغ الضبابي، وشكل جسده بطريقة مشابهة للجسد الحقيقي، كان يمشي نحو اتجاه معين وهو يقول

"كارب، حسب ما فهمته من تجاربك فأنا أستطيع الوصول إلى جميع الخزائن لكني لا أستطيع العبث بمحتوياتها، أليس كذلك"

رد عليه كارب بصوت إنساني يشبه طفلا صغيرا

[نعم، هذا ما وصلت إليه خلال مئات التجارب]

تتم برمجة الذاكرة الحية عبر أوامر مالكها، لذلك صارت تتحدث بضمير مالكها السابق، وحتى المعلومات التي كانت تملكها من الشركة المصنعة صارت الآن تنسبها إلى كارب، ابتسم رافي بخبث ثم قال

"وإذا خرجت من هنا، هل أستطيع الوصول إليها؟"

قال كارب

[بما أني من مخترعي هذا المشروع فأستطيع مساعدتك لزيادة التحكم في المشروع، لكنه يبقى مجرد تحكم جزئي، ومع ذلك ستكون بمثابة مشرف وتستطيع دخول الخزائن بما أنها جزء من المشروع، لكن هذا يعتمد على ما إذا كان لا يزال هناك في الخارج من يتحكم بالآليات التي يعمل بها المشروع، حينها سيكون بإمكانهم مسح بصمتك بسهولة]

صمت رافي طويلا قبل أن يقول

"بمعنى آخر، أستطيع سرقة محتويات الخزائن لكن لا يجب علي جعل الآخرين يعرفون ذلك، يا له من إزعاج"

فكر قليلا ثم ابتسم وقال

"حسنا، هذا لا يزال بعيدا، دعنا نفتش الخزائن ونرى ما الذي يقومون بتخزينه"

2021/01/11 · 368 مشاهدة · 1722 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024