كانت السماء قد تحولت إلى لوحة داكنة، مع بريق خفيف لأضواء المدينة التي كانت تُعكس على الأسطح المبللة إثر المطر. كان هشام يسير ببطء في زقاق ضيق بين المباني القديمة، حيث لا يكاد يمر أحد، إلا أن هناك شعورًا غريبًا بدأ يراوده؛ شيء ما في الهواء، في تلك اللحظة، جعل قلبه ينبض بسرعة غير طبيعية. كان يعلم أن هناك شيئًا يراقبه.

منذ أن عرف هشام عن "الملك الأحمر" وعالم الجن الغامض، بدأت أشياء غريبة تحدث حوله. فالشخص الذي كان يظنه مجرد خرافة أو أسطورة أصبح واقعًا يلاحقه، وزارته بعض الرؤى التي لا يستطيع أن يفسرها. لكنه لم يكن يتوقع أبداً أن يلتقي بشيء بهذا القدر من القوة.

وهو يسير في الزقاق الضيق، شعر فجأة بأن الأرض تحت قدميه بدأت تتحرك. لم يكن الأمر مجرد شعور بالخوف، بل كان شيئًا أكبر من ذلك. كان شيئًا حيًا، مفعمًا بطاقة هائلة، يقف وراءه شيء مظلم وواسع. وقبل أن يدرك ما يحدث، شعر بشيء يلمس قدمه، كان كائنًا غريبًا تمامًا، متقلبًا في الظلال. كان ذلك الزقاق هو بوابة لعالم آخر، وبوابة لشيء لا يمكن أن يراه أو يفهمه إن لم يكن مستعدًا.

فجأة، ظهرت أمامه حية ضخمة، لها جسد طويل مغطى باللون الرمادي كأن الحديد صبغها ، وعينان متوهجتان، وعرفها على الفور. "أنتِ من الجن!" قال بصوت متحشرج.

الحية كانت تنظر إليه بعينين كاشفتين، وكأنها تعلم كل شيء عن ماضيه وحاضره. "نعم... وأنت أيضًا، هشام، تعرف الآن أكثر مما ينبغي. نحن لا نعيش كما يظن البشر. نحن نُسير بين عالمكم وبين عالمنا. نحن أقوى مما تتخيل، ولدينا تأثير على كل شيء، حتى أدمغة البشر، لأننا الأسياد في هذا الوجود، حتى لو لم تدرك ذلك." قالت الحية بصوت عميق ومهتز، كأنها تهمس في أعماق روحه.

لم يكن بإمكان هشام أن يتحرك أو يهرب. كان كل شيء وكأن الزمن توقف. كان يعلم أن هذه الحية ليست مجرد وحش خرافي، بل هي كائن من عالم الجن. كان يرى القوة الهائلة التي تحيط بها، وهو يدرك الآن أن مواجهتها قد تكون البداية أو النهاية له.

"هل تعرف من أنا؟" سألته الحية بصوت منخفض، ثم ابتسمت ابتسامة شقية، كأنها تسخر منه. "أنا حية من الجن، من أولئك الذين يملكون القدرة على تغيير الواقع والمكان. نحن نملك القوة لنعبث بعقول البشر، لنبث الفوضى في حياتهم، ولنبني لهم عوالم من الظلال."

هشام شعر بأن جسده يغرق في بحر من الذهول، وكأن الحقيقة أصبحت أكثر رعبًا مما كان يظن. كان يعاني من دوار شديد، وأصابته تلك الهمسات المسموعة في ذهنه بشعور وكأن أحدًا يعبث بمخيلته. كانت الحية تتنقل أمامه وكأنها تخرج من الجدران، وأصبح الزقاق يتقلص حوله، أبعاده تنكسر، وكل شيء بدا له وكأنه يتحول إلى ظلال قاتمة.

"لماذا؟ لماذا تظهر لي الآن؟" قال هشام بصوت متهدج، يحاول أن يستجمع شجاعته.

"لأنك دخلت في هذا العالم عندما قررت السعي وراء الحقيقة، وعندما بدأت تبحث عن أسرار كانت مغلقة لعصور طويلة. هل ظننت أنك ستظل في عالمك الآمن؟" أجابت الحية، لحنها مشبع بالتهكم.

فجأة، ظهر شيء في أعماق ذاكرته. كانت تلك اللحظة التي التقى فيها مع الملك الأحمر لأول مرة، حيث ذكر له أن الجن يتلاعبون بالأقدار، وأنهم قادرون على التحكم في أحداث العالم. وأنه الآن، بما أنه اقترب من الحقيقة، فإنه سيجد نفسه في قلب هذه اللعبة المظلمة.

لكن الحية كانت تقول شيئًا أكثر دموية.

"أنت الآن في طريقك لتصبح أحدنا، هشام. لا يوجد مفر. الفوضى التي تلاحقك ليست عبثًا. ستكتشف قريبًا أن حبل النجاة الوحيد هو أن تصبح جزءًا مننا."

صمت هشام لحظة، وتخيل ما تعنيه كلمات الحية. هل كان هذا هو مصيره؟ هل سيصبح أحدهم؟ وهل سيكون قادرًا على العودة إلى حياته الطبيعية؟ أم أن هذه اللحظة ستكون بداية لشيء أكبر من أي شيء يمكنه فهمه؟

لكن فجأة، بدأت الحية تختفي في الظلال، وكأنها ذابت في الهواء. أصبح الزقاق خاليًا تمامًا، وكأن شيئًا لم يكن. كان هشام يقف في منتصفه، يرتجف من الداخل، وهو يحاول استيعاب ما حدث لتوه.

لكن كان هناك شيء في قلبه، شعور بوجود أشياء لم تكتمل بعد. كان يدرك أن لقاءه مع هذه الحية لم يكن سوى البداية. كان عليه الآن أن يختار بين أن يصبح جزءًا من عالم الجن، أو أن يقاوم القوة التي بدأت تدفعه إلى مسار مظلم للغاية.

بدأت خطواته تتسارع وهو يسير في الطريق العائد إلى منزله، بينما كان عقله يغلي بأفكار لم تكن موجودة قبل لحظات. كان يعلم أن شيئًا خطيرًا على وشك أن يحدث... وأنه قد لا يستطيع الوقوف في وجهه بعد الآن.

كانت أولى إشاراته قد ظهرت.

كان هشام يسرع خطواته في الزقاق المظلم، وهو يحاول أن يجمع أفكاره المبعثرة. قلبه كان ينبض بعنف، يردد في رأسه كلمات الحية بشكل متسارع، وكأنها تلاحقه في كل مكان. لا يمكنه أن يصدق ما حدث لتوه، لكن ما كان يقوله كان منطقيًا بشكل غير مريح. كان الجن يتلاعب بالعالم، وعليه أن يواجه هذه الحقيقة الآن، بقوة أكبر من أي وقت مضى.

وصل إلى منزله، أغلق الباب وراءه بسرعة، وأخذ نفسًا عميقًا، يحاول استعادة قدرته على التفكير بشكل هادئ. لكن ذهنه كان غارقًا في الصور التي ظهرت أمامه، والهمسات التي تراكمت في عقله. شعر وكأن جنبه قد أًصبح تحت سيطرة تلك الكائنات التي لا يفهمها تمامًا.

رغم أن الظلام في الداخل كان يريح نظره، إلا أن كل زاوية من زوايا المنزل كانت تبدو مشبعة بشيء غريب. وكأن تلك الكائنات كانت تراقب كل تحركاته، تنتظر اللحظة التي يظهر فيها هشام بشكل كامل في هذا العالم المظلم. لا يستطيع إيقاف تلك الأفكار، ولا حتى الهروب منها.

بالرغم من الخوف الذي كان يشده إلى الداخل، لم يكن هشام قادرًا على نكران ما شعر به. شيء في أعماقه بدأ يشتعل، مثل شرارة أضاءت شيئًا عميقًا في نفسه، شيء يتعلق بعالم الجن. كان هذا الجذب لا يمكن مقاومته، وكأنهم يعرفون عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. هل كان من الممكن أن يكون قد ولد ليكون جزءًا من هذه اللعبة المظلمة؟

بدأ هشام يشعر بنوع من اليقين المزعج. ربما لا يمكنه الهروب من هذا العالم، بل ربما هو قد سقط في فخ وضعه له الجن منذ البداية. وبينما كان يتجول في غرفته، شعر بشيء يلمس كتفه برفق. انتفض، وعيناه تبحثان بسرعة في المكان، لكن لا شيء كان هناك. مجرد صمت.

ثم تذكر كلمات الحية: "ستكتشف قريبًا أن حبل النجاة الوحيد هو أن تصبح جزءًا مننا." وكان الأمر وكأن الحية كانت تعلم ما يدور في ذهنه، وكان هذا النوع من السلطة التي كان الجن يمتلكها أقوى مما يستطيع تحمله.

ركع هشام على ركبتيه، عينيه مغلقتين بشدة وهو يحاول مسح كل هذه الصور من عقله. لكن كلما فعل ذلك، كانت الصور تعود بشكل أكثر وضوحًا، أشكال الجن، قوى الظلال، والهمسات التي تتسرب إلى عقله كما لو أنها أصبحت جزءًا من كيانه. كان يشك الآن في كل ما كان يعتقده حقيقيًا.

لكن فجأة، شعر بشيء آخر. هواء بارد اجتاح الغرفة، وفتح عينيه ليجد نفسه في وسط دائرة من الظلال. لم يكن يستطيع أن يراهم بشكل واضح، لكنهم كانوا هناك. كائنات مظلمة كانت تتجمع حوله، تراقب حركاته، تنتظر أن يتخذ قراره. كان الجواب الذي قدمته له الحية الآن حاضرًا في ذهنه: إما أن يصبح جزءًا من عالمهم، أو أن يظل عالقًا بين العوالم بلا هدف.

"هل ستكون مستعدًا؟" سمع صوتًا آخر، غير صوت الحية، صوتًا آخر يملأ الأرجاء. كان الصوت مشبعًا بالقوة، يهمس في أذنه. "هذه هي اللحظة التي ستغير كل شيء. اختر مسارك الآن، يا هشام."

شعر بشيء يتغير في الهواء حوله، كان هناك شعور غريب بأن أحدًا ما قد وصل إلى هنا. كان يراهم، بأشكال غير واضحة، يقتربون منه أكثر وأكثر. شعر بعينين ترصدان كل حركة في جسده. كان يعلم الآن أن هذا كان اختبارًا آخر، اختبارًا لا يمكنه الهروب منه.

قال لنفسه في لحظة ما، وهو ينظر إلى الظلال: "هل سأخضع لهذه القوى؟ أم هل سأجد طريقة للمقاومة؟"

كانت اللحظة الحاسمة قد جاءت. كل شيء كان يضغط عليه، عقله، جسده، حتى قلبه. هل يستطيع الوقوف في وجه هذا العالم المظلم؟ أم أن إرادة الجن ستكون أقوى منه؟

استجمع هشام قواه وهو يواجه الظلال المتراقصة حوله. كانت الكائنات المظلمة تقترب منه شيئًا فشيئًا، تهمس في آذنه كلمات غير مفهومة، كما لو كانت تحاول أن تشوش على عقله، لكن قلبه بدأ ينبض بإيقاع ثابت، متمسكًا بشيء ما داخل نفسه. كان يدرك أن هذه اللحظة ستكون الفاصل بين كونه مجرد ضحية، وبين أن يصبح صاحب القرار في مصيره.

"لا يمكنني أن أستسلم الآن..." همس هشام لنفسه، وهو يشعر بشيء غريب ينبثق من أعماقه. كان الألم الذي يشعر به في عقله يتزايد، وكأن قوى الجن تحاول سحب روحه إلى عالمهم، لكن شيئًا داخله كان يرفض ذلك بشدة. كان يعلم أنه إذا استسلم، سيكون مجرد خيط ضعيف في شبكة عالمهم المظلم، لكن إذا قاوم، قد يكشف له أسرارًا أكبر مما كان يعتقد.

كأنما تأكدت الحيرة في داخله، وبدأت الظلال تتكاثف حوله بشكل أكبر، لدرجة أنه لم يعد يستطيع رؤية أي شيء بوضوح. كانت عيناه تغلق شيئًا فشيئًا، وكأن الظلال تحاول أن تعزله عن العالم، لكن شيئًا ما في قلبه كان يصرخ ضد هذا.

"أنت لا تستطيع الهروب من قدر لا يمكنك فهمه، هشام..." جاء الصوت مرة أخرى، أقرب من أي وقت مضى، وكان يشبه همسات الرياح الباردة التي تتسرب من بين شقوق الأبواب والنوافذ. "لقد بدأت في هذه الرحلة من دون أن تعلم عواقبها."

"لا!" صاح هشام، وهو يفتح عينيه فجأة، محاولًا أن يظل ثابتًا في مكانه. "أنا من أختار مصيري، وليس أنتم."

وفي تلك اللحظة، شعر بشيء غريب يتغير في الأجواء من حوله. كانت الظلال تتراجع تدريجيًا، وكأنها تنتظر منه رد فعل أو قرار نهائي. لكنه كان يعلم أن الجن ليسوا من يتراجعون بسهولة، وهذا قد يكون مجرد اختبار آخر.

"إذا كنت تظن أن بإمكانك مقاومة هذا، فأنت مخطئ. لكننا سنعطيك خيارًا، خيارًا عظيمًا... هل ستصبح مثلنا؟" جاء الصوت أخيرًا، وهو مزيج من التهديد والإغراء. "سنمنحك القوة التي لا يمكن للبشر حتى تصورها، ولكن مقابل ثمن باهظ."

هشام شعر بشعور مفاجئ بالحرية، كما لو أن ذلك الخيار الذي قدموه له كان إشارة إلى قدرته على اتخاذ قراره بنفسه. كان يعلم أن العودة إلى عالم البشر قد تكون مستحيلة الآن، لكنه لا يريد أن يكون مجرد أداة في يد هذه القوى الغامضة.

"لا!" صرخ مرة أخرى، محاولًا أن يثبت لنفسه وللعالم من حوله أنه لا يمكنه أن يُسلب إرادته. "لن أكون مثلهم."

وفي لحظة، عاد الزقاق إلى طبيعته، ولكن هشام كان يشعر بشيء مختلف. الكائنات التي كانت تحيط به اختفت، والظلال التي كانت تحاصره أصبحت هادئة، وكأنها أخذت قرارًا بأنها ستتركه الآن. لكن قلبه كان لا يزال ينبض بشدة، وكأن العالم من حوله قد تغير إلى الأبد.

2024/12/20 · 7 مشاهدة · 1642 كلمة
Fosterbad
نادي الروايات - 2025