كانت الرياح تعصف بشدة في سكيكدة، وكأن البحر نفسه يصرخ على شاطئه، ممتزجًا بالأسرار التي يحملها. كانت الأمواج تضرب الصخور بوحشية، فيما كان هشام يراقب الأفق، يشعر بوجود غريب يلتف حوله كخيوط غير مرئية. منذ أن دخل في عالم الجن، تغير كل شيء. لم يعد البحر مجرد منظر طبيعي يبعث على الهدوء. أصبح بالنسبة له بوابة بين عالمين، مكانًا تختلط فيه القوى المظلمة بالأسرار العتيقة.

في تلك اللحظة، كان هشام يقف على الشاطئ الموحش، حيث لا يجرؤ معظم الناس على الاقتراب. المكان كان مهجورًا، ومع ذلك، كان يشعر بوجود حي. كان هناك شيء خفي في الهواء، شيء يعرفه لكنه لا يستطيع تفسيره بالكامل. شيء كان يلاحقه منذ أن التقى بالحية في الغرفة المظلمة.

"هذا هو المكان... مكان القوة الحقيقية"، تمتم هشام، وهو يحدق في البحر بأعينه القلقة. لكن صوته، كأصداء الحروب القديمة، كان ينغمس في الأفق المظلم. "هل سأتمكن من النجاة من هذه المواجهة؟"

لم يكن لديه جواب. ولكنه كان يعلم شيئًا واحدًا؛ لا مفر من المضي قدمًا. في اللحظة التي اختار فيها أن يسلك هذا الطريق، أصبح جزءًا من اللعبة، اللعبة التي يتلاعب فيها الجن والشياطين بأقدار البشر.

كانت العتمة تتسرب حوله، وكأن الليل قد قرر أن يعانقه في لحظة ضعف. ثم، فجأة، شعر بشيء يلمس جسده. كان الهواء نفسه يحمل طاقة غير مرئية، كما لو أن أيدٍ خفية كانت تقترب منه، تلتف حوله، وتقترب من ذهنه. وفجأة، شعر بوجوده داخل البحر، لا في جسده فقط، بل في نفسه، في قلبه.

كان الصوت الذي يسمعه الآن، ليس من داخل عقله فقط، بل من الأعماق. كان صوت الجن، الأصوات التي لا تُسمع إلا في اللحظات الحاسمة.

"نحن هنا، هشام"، قال الصوت، وهو مليء بالتهديد. "وإذا أردت أن تعرف الحقيقة، عليك أن تدفع الثمن."

هشام شعر بشيء ثقيل يثقل صدره، كأن العالم حوله يبدأ في التصدع. كانت الأمواج الآن أكثر عنفًا، وتصدح أصوات غير مرئية في الفضاء. ثم، ظهرت صورة غريبة فوق الماء؛ شكل طويل مشوه، كما لو كان مزيجًا بين البحر والظلام. كان الكائن يشعّ من جسده نور مظلم، وكانت أجنحته السوداء الممتدة تعكس ظلالًا تشوه كل شيء حوله.

"أنت تبحث عن القوة، أليس كذلك؟" قال الكائن، بنبرة هادئة وباردة. "لكن القوة التي ترغب فيها ليست كما تعتقد. نحن الجن، أقوى من أي سحر تظن أنك تمتلكه. والشياطين، التي قد تظنها خرافات، تحكم هذه البحار."

توقف هشام عن التنفس للحظة، بينما كان يراقب هذا الكائن الذي لا يمكن تصنيفه. كان واضحًا أن هذا المخلوق ليس من البشر، ولا حتى من الجن العاديين. كان له طابع آخر، طابع شيطاني، لا يمكن للبشر أن يفهموه دون أن يدفعوا الثمن.

"إنك في مكان خطر، هشام. البحر هو أرض الجن، والشياطين. مكاننا... وساحته. لا أحد يخرج حيًا من هنا دون أن يدفع شيئًا." قال المخلوق، مشيرًا إلى البحر الذي كان يزداد تقلبًا وتوحشًا. "لكن إذا كنت تريد أن تفهمنا، عليك أن تكشف نفسك. ضع ثقتك فينا. اسبح في بحر الجن."

بذل هشام جهدًا هائلًا ليظل ثابتًا، ليحافظ على تفكيره. كانت الأفكار تتنقل بسرعة في رأسه. كان يعلم أن هذا المخلوق أمامه كان أكثر من مجرد كائن شيطاني. كان يمثل الفوضى، الخوف، والمجهول. كان يود أن يهرب، ولكن هل هناك مهرب؟

"لكن ماذا عن السحر؟" سأل هشام، صوته متماوجًا بين الخوف والإصرار. "كيف أستخدم السحر لمواجهة هذه القوى؟"

ابتسم المخلوق، ابتسامة قاتمة، وكأن السحر نفسه كان في متناول يد هشام، لكنه لن يكون مجانًا. "السحر ليس مجرد طقوس، ليس مجرد كلمات منمقة. السحر هو قوة التحكم بالواقع. وعندما تتعامل مع الجن والشياطين، عليك أن تكون مستعدًا للثمن الذي ستدفعه."

"هل سأظل إنسانًا بعد ذلك؟" سأل هشام، مشدودًا بين التحدي والرعب. كان يعلم أنه على حافة الهاوية.

"إما أن تكون جزءًا منا، أو أن نأخذك بعيدًا." قال المخلوق، وهو يقترب أكثر من سطح البحر. "إما أن تصبح قائدًا، أو تكون ضحية. الأمر يعود إليك، هشام. لكن تذكر، ليس كل سحر يمكن أن يُسيطر عليه. الجن ليسوا مجرد كائنات ضعيفة يمكن لأحد أن يروضهم. نحن مخلوقات قديمة، وسحرنا أعمق مما تتصور."

كانت الأمواج تزداد عنفًا، وكأن البحر كان يشهد على المعركة الدائرة في داخله. كان هشام في نقطة تحول. إما أن يضع نفسه في يد الجن، ويغوص في بحرهم المظلم ليكتشف أسرارهم التي لا يمكن للبشر أن يفهموها، أو يرفض هذا العرض ويواجه مصيره المجهول.

كان يعلم أن قراره سيشكل مستقبله. كان البحر أمامه مليئًا بالأسرار، وكان الجن يراقبونه في الظلال، ينتظرون أن يتخذ قراره.

في تلك اللحظة، بدأ هشام يشعر بشيء غريب يتسرب من تحت جلده. لم يكن شعورًا عاديًا، بل كان وكأن الروح نفسها تتسلل منه. أحس بنوع من الارتباك في أعماقه، كأن البحر بدأ يغمر عقله بشيء مظلم ومجهول. كانت الأمواج تتلاطم حوله، تعكس أضواء القمر بشكل غريب، وكأنها تتنفس مع الهمسات التي بدأت تملأ رأسه.

"أنت لا تعرف ماذا يعني أن تكون هنا، هشام"، قال الكائن المشوه، صوته الآن أصبح أكثر قتامة. "هذا البحر هو بوابة، ليس مجرد ماء. إنك تدخل إلى عوالمنا المظلمة، حيث لا مكان للبشر. هنا حيث يسكن الجن، الشياطين، وكل ما هو قديم، وكل ما كان محظورًا لآلاف السنين. لا تعتقد أنك جاهز لهذه المواجهة."

هشام شعر بشيء أشبه بالصاعقة يضربه في قلبه. كان يعلم الآن أن البحر لم يكن مجرد مكان للجن، بل كان عرشه، كان موطنهم، وكان السحر فيه ينبض بالحياة. كانت هذه مياه مشبعة بالأسرار المظلمة التي جعلت الجن والشياطين أقوى مما يمكن لأي إنسان أن يواجهه. وكلما ازداد تقدمه في هذا البحر، كلما أصبح أكثر غرقًا في عالم لا يمكنه الرجوع منه.

"لكنني لن أكون خائفًا!" قال هشام، وقد تجلت في عينيه عزيمة لا تُغلب. "إذا كنت تقول أنني هنا لأتعلم، سأتعلم."

ابتسم الكائن مرة أخرى، ابتسامة مشبعة بالشر، وكأنما ينتظر لحظة ضعفه. "أنت لا تفهم... السحر الذي تطمح إليه ليس مجرد كلمات وأشباح، هشام. إنه مسألة حياة أو موت. سأعلمك بعضًا من سحرنا، لكن الثمن سيكون فادحًا. نحن لا نعلم البشر دون مقابل."

ثم انطلقت الأمواج، وكأنها تذوب في الهواء، تبتلع الماء الذي كان حولهم حتى تحول إلى ظلام. ولم يعد البحر يطفو عليه سوى ضباب كثيف وأصوات خفية. في تلك اللحظة، شعر هشام بشيء ثقيل يلتف حول قلبه، كما لو أن هناك يدًا خفية كانت تحاول سحب روحه بعيدًا عن جسده.

"تريد السحر الأسود؟" سأل الكائن بصوت منخفض، مشيرًا إلى الظلال المحيطة بهم. "لكنك لا تدرك تمامًا معنى هذه القوة. نحن الجن، إذا أردت أن تتعامل معنا، عليك أن تدفع ثمنًا من أعماق روحك. السحر الأسود هو أداة مدفوعة بالقوى التي لا يمكن تصورها، ولكنه يلتهم من يستخدمه. وكلما استخدمته أكثر، أصبح أعمق في قلبك، حتى لا تتمكن من التخلص منه."

وكانت تلك اللحظة هي التي شعر فيها هشام بشيء يتحرك في عقله، كأنما هناك شرارة قد بدأت تنطفئ. كانت تلك الشرارة هي بداية استسلامه إلى قوة البحر، إلى قوة الجن. كانت لحظة الخوف الأول الذي بدأ يتسرب إلى قلبه.

"أنت الآن في قبضة السحر الأسود، هشام. لا مفر." قال الكائن، وقد أخذت كلماته صدى غير طبيعي. "الآن ستشعر بالقوة الحقيقية، بالقوة التي يمكن أن تكسر أي حاجز بينك وبين الجن."

هشام كان يحاول السيطرة على نفسه. كان يتنفس بصعوبة. وداخل عقله، كانت تبدأ تظهر صور لطقوس قديمة، طقوس سحرية كانت تتم في أعماق المحيطات، في أعماق البحر. كان الجن يستخدمونها لفتح بوابات إلى العوالم المظلمة، إلى عالم الشياطين. كان يراهم في مخيلته، يتنقلون بين الظلال، يحملون السحر الأسود الذي لا يعرفه أحد.

أغشي عليه لفترة قصيرة، وعندما فتح عينيه، وجد نفسه في مكان آخر. لم يعد في الشاطئ الذي أتى منه. كان في قاعة مظلمة، تضاء فقط بخيوط خافتة من الضوء الأزرق الباهت. كان هناك أشكال غريبة تحيط به، وجوه مشوهة، كما لو كانت خليطًا بين البشر والوحوش، جميعهم ينظرون إليه بنظرات عميقة، كما لو أنهم يعرفون ما سيحدث له.

"الآن، دعني أريك السحر الحقيقي." قال أحدهم، وهو يرفع يده بحركة بطيئة، مما جعل الهواء من حوله يشتعل وكأنما جاء من عمق الجحيم.

بدأت تلتف حول هشام الظلال، وكانت تلك الظلال تأخذ شكلًا حيوانيًا، ولكن أكثر غموضًا. كان يعرف أن هذه ليست مجرد رؤى، بل هو السحر الذي كان يتعامل معه الجن والشياطين، سحر يستمد قوته من المجهول، من الأعماق المظلمة التي لا يعرفها البشر.

"هشام، لا تستسلم للظلال. إذا قمت بذلك، سيتحكمون بك إلى الأبد. السحر الأسود سيأخذك إلى مكان لا تخرج منه أبدًا." قال صوت آخر، جاء من مكان بعيد. كان صوتًا مألوفًا، صوت الحية التي كانت ترافقه.

أصبح هشام في حالة من الارتباك. كان يشعر بتورط أكبر في هذا العالم، وعقله بدأ يطفو فوق سطح الوعي. كانت تلك اللحظة التي بدأ فيها الجن يُشعرونه بقوة السحر التي لا تُقاوم، قوة لا يمكن للبشر أن يسيطروا عليها مهما كانت عزائمهم.

أغمض عينيه وأخذ نفسًا عميقًا، محاولًا تمالك نفسه. عندما فتح عينيه، كان البحر أمامه مجددًا، لكنه لم يعد كما كان. كان البحر الآن مكانًا من الظلام، وكانت الأمواج تتناثر كأنها تهتز من قوى مظلمة. وكان هناك في الأفق شكل آخر، عيون مظلمة تراقب، تنتظر لحظة ضعفه.

"هل تعتقد أنك هارب؟" سأل الكائن، وهو يبتسم ابتسامة شيطانية، ويقترب أكثر. "إنك في عالمنا الآن. لا يمكنك الهروب من هنا."

هشام كان يعلم أنه قد دخل في دوامة لا نهاية لها.

2024/12/21 · 13 مشاهدة · 1428 كلمة
Fosterbad
نادي الروايات - 2025