بعد الحرب، تغيّر توازن الممالك — داثان، إيدوم، وينتر، وأشكيلون.
ارتقى البشر إلى القمة، وكثير منهم، وقد نسوا إرادة القائد الذي اتبعوه يومًا، سعوا للانتقام من الإيدوميين والداثانيين.
ومنذ يوم الحرب، انتظرت الأمم ظهور آشر مجددًا... لكنه لم يفعل.
كل ما يتذكره الناس أنه كان نصف ميت حين سقط في أحضان الجنية.
مرّت ثلاثة أشهر منذ ذلك اليوم، وخلال هذه المدة، بدأت المدن البشرية الصغيرة تأخذ العدالة بيدها، تصطاد الإيدوميين التائهين انتقامًا، بينما انقلب الداثانيون ضدهم.
وانتشرت الشائعات بأن زعيم الداثانيين — وأقرب مخلوق إلى هيئة العملاق في هذا العصر — قد ثار غضبًا لمقتل شقيقته، وأعلن الحرب على الإيدوميين.
وأخيرًا، انكشف الحق — زعيم الإيدوميين لم يكن سوى واجهة. القوة الحقيقية وراءهم كانت ألدرِتش.
---
خطوات متتابعة دوّت في أرجاء الممر العظيم.
امرأة مذهلة الجمال، يتدلّى شعرها الأسود تحت قلادتها، تمشي بخطى متزنة ووقار. ترتدي ثوب الكهنة المطرز بالذهب والجواهر، وأربع كاهنات بأجنحة مزدوجة يتبعنها من الخلف.
كانت الوحيدة بينهن التي تغطي رأسها بقلادة.
دخلت سافيرا إلى القاعة الداخلية لقصر أشكيلون. فتحت الحارسات الباب الخشبي الضخم، وانحنت رؤوس الفرسان الواقفين للحراسة.
اهتزت عيناها البنفسجيتان وهي تنظر إلى الرجل الممدد بلا حراك على السرير الملكي. شعره الأبيض الطويل ينساب على صدره، وجسده ساكن كالميت.
على الرغم من أن جراحه شُفيت بعد أيام من الحرب، إلا أنه لم يستفق بعد.
غيبوبته زلزلت المملكة، وأثارت اضطرابًا بين النبلاء، إذ باتوا قلقين بلا راحة.
الآن وقد انضم ملوك مورمون وأداموس إلى صفهم، بينما انتصب انتيس ووِيفرن ونوبِس ضدهم — لم يكن سقوط قائدهم خيارًا.
لا أحد يمكنه أن يحل مكانه!
التفتت سافيرا نحو نيرو الجالس بهدوء على كرسي خشبي، ويداه متشابكتان. في عينيه عمق جعلها ترى فيه رجلاً يبدو أكبر من عمره.
"أي علامات؟" سألت.
هزّ رأسه نافيًا. "لا شيء تغيّر."
قالت: "النبلاء والمسؤولون يزداد غضبهم. الفوضى تتفاقم، وهم يستعدون لإرسال جيوشهم لإعادة النظام."
اتسعت عينا نيرو ونهض فجأة. "هذا سيشعل حربًا! أولئك الناس لا يخضعون إلا للحاكم آشر!"
"وأنا أؤمن بذلك"، قالت سافيرا بهدوء وحزم. "لكن مجلس الحكم لا يتكوّن مني وحدي. وهم... ليسوا مخطئين. الفوضى التي تُعمّ البلاد تُهدد السلام الذي نزفنا لأجله الدم."
لينت نظرات نيرو. "هو من نزف لأجله."
قالت بخفوت: "إنهم جرحى يا نيرو... ينتقمون لأنهم يتألمون. ولا أحد غير سيدنا قادر على إنهاء ذلك."
تقدّم نيرو نحو السرير، محدقًا في الرجل الذي تغيّر كثيرًا في فترة قصيرة.
في بضعة أشهر فقط، تبدّل آشر تمامًا. صار يبدو كرجـلٍ في أوائل الثلاثين، ذو فكٍ حادٍ ووسيم، وشعرٍ أبيض طويل يمتد حتى ظهره.
هيئته أصبحت أعرض وأقوى، وعضلاته الصلبة المحفورة كأنها صيغت بيد نحّاتٍ سماوي. حتى دون أن يشد جسده، بدت عضلات بطنه الستة واضحة للعيان.
حاجباه الأبيضـان كانا حادين كالسيوف، يمنحانه مظهرًا مهيبًا.
قال نيرو: "نموه السريع توقّف منذ أسبوع. هل تظنين أنه سيستيقظ قريبًا؟"
همست سافيرا: "أتمنى ذلك..."
فجأة، تجعّدت جبهته، فشهقت سافيرا ونيرو في آنٍ واحد.
شووووو!
في اللحظة التالية، فُتحت عيناه.
بعد شهور من الظلام، تلألأت عيناه الذهبيتان بالحياة، ورأتا العالم مجددًا.
لكن ما رآه كان أمرًا لم يتوقعه.
[المكافأة: جسد الملك]
[تحذير: هذا التحول سيُعيد تشكيل عظامك وعضلاتك وأوتارك وأوعيتك، وربما يزيد من حجم أعضائك الداخلية.]
(أعضائي؟!)
[روحك تسكن الآن جسد الملك — وعاء يتجاوز حدود البشر. تمتلك قلبين لتزويد جسدك القوي بما يحتاجه من الأوكسجين، كما أن القلب الثاني قادر على إنقاذ حياتك إن فُقد الأول. دمك الملكي يُعدّ الآن مادة نادرة يمكن بواسطتها خلق جنودٍ من رتبة الكابوس. لكن العملية شديدة الخطورة.]
جنود من رتبة الكابوس؟!
أليست تلك أعلى درجات الجيوش الأسطورية؟!
"سيدي!"
ظهر أمامه وجهان مألوفان — نيرو وسافيرا.
أيقظ حضورهما ذكريات الحرب، فاعتدل آشر، يتفقد جسده.
بالمقارنة مع هيئته السابقة التي كان يفتخر بها، بدا جسده القديم تافهًا الآن. لم يكن ضخمًا فحسب، بل مصقولًا كتحفة.
أخيرًا... النظام أتمّ عمله عليه!
تدفّقت الطاقة في عروقه وعضلاته بقوة هائلة، حتى خشي أن يتحطم المكان لو تحرك بتهور.
الكمية المختزنة في جسده من المانا كانت لا تُصدق.
(باسم الحاكم الأعلى... ما هي رتبتي الآن؟)
تبادلت سافيرا ونيرو نظرات القلق بينما تتعاقب التعابير على وجه آشر، ثم ثبت نظره عليهما.
"نُحيّي سيدنا!"
ركعا على ركبتيهما، فنزل آشر من السرير، واقفًا بارتفاع مهيب — ستة أقدام وعشر بوصات.
قال: "انهضا."
أطاعا أمره، فابتسم لسافيرا بخفة، وتقدّم ليمسح دموعها المرتجفة بأطراف أصابعه.
ثم دون تردد، ضمها إلى صدره، قبل أن يلتفت نحو نيرو.
"ما الذي حدث؟"
قال نيرو: "كنت غائبًا ثلاثة أشهر يا سيدي. الأراضي التي فتحتها تعمّها الفوضى."
صرخت سافيرا: "نيرو!" لكنه تجاهلها.
"البشر يطاردون الإيدوميين والداثانيين، وهؤلاء بدورهم رفعوا السلاح ردًا عليهم."
قال آشر بهدوء: "أفهم. أين نحن الآن؟"
"في أشكيلون."
"حسنًا... ما اقتراحك؟" قالها وهو يرفع ذقن سافيرا لينظر في عينيها.
قالت: "يجب أن تظهر أمام الجميع وتعيد النظام. هناك قوى كبرى قد تستغل هذا الاضطراب."
رفع حاجبًا بابتسامة خفيفة. "السلام؟ وكيف نقيمه؟"
"مدينة واحدة... نوحّدهم تحت رايةٍ واحدة. ومن يرفض الطاعة، يُترك لمصيره."
ارتسمت على وجه آشر ابتسامة بطيئة. "نيرو... أين تحفة الحداد دان، التي عهدتُها إليك؟"
مدّ نيرو يده تحت عنقه وأخرج خاتمًا لولبيّ الشكل معلّقًا بخيط. لم يكن من ذهب، لكن ثقله لم يكن ماديًا... بل معنويًا.
لم يستطع آشر أن يمنح سافيرا “نشوة القتلة” حينها بسبب الظروف، لكن هذا الخاتم — رغم بساطته — كان أغلى ما في قلبه.
فقد صنعه الحداد دان بطلبٍ منه، بعد أن عاد من الأعماق وأدرك كم كان أحمقًا لإهمالها.
قال آشر بصوتٍ خافت:
"قد تكونين رحيمة، ضعفًا كما يسميه البعض... لكن هذا الضعف هو ما أريد أن أحميه. أنتِ الجانب الذي فقدته مني."
ارتجفت عينا سافيرا، والدموع تتلألأ فيهما.
أضاف آشر بابتسامة حزينة: "لم يكن هذا ما خططت له... لكن اللحظة فرضت نفسها."
أمسك خصلة من شعرها، ولفّها بين أصابعه، ثم علق الخاتم بها ليتدلّى منها.
وقال بصوتٍ منخفضٍ كالوعد:
"يداكي خُلقتا لشفاء المرضى والضعفاء — هما للعالم أجمع... لكن شعرك..." مرر أصابعه خلال خصلاته البيضاء.
"هو لي وحدي أن ألمسه."
ثم ابتسم، واقترب منها خطوة واحدة، ليلامس شعرها برفق.
وبعد لحظة، التفت نحو نيرو وقال بصوتٍ ثابتٍ يحمل الهيبة ذاتها التي فقدها العالم لثلاثة أشهر:
"أرسلوا الكلمة... لقد استيقظت."