جلس آشر في مقعده المخصص، نزع خوذته ووضعها على الطاولة.
قال بصوت هادئ:
"الزعيم عيسو، أعتذر عن الإزعاج... سنغادر مع بزوغ الفجر."
أجاب عيسو وهو يهز رأسه:
"لم تزعجني أبدًا. بعد أن استلمت رسالتك عبر الصقر، تأكدت من أن يكون لك ولجنودك مكان مريح وطعام وفير."
صفق مرتين، فاندفع الخدم إلى القاعة حاملين أوعية ضخمة من الحساء الساخن المتصاعد بالبخار.
وحين رأى نيرو ذلك الحساء، ضاقت عيناه — حتى هو، أقرب الرجال إلى سيده، نادرًا ما يرى حساءً بهذه الكمية من اللحم.
العطر الغني تسلل إلى أنفه فأثار شهيته رغماً عنه.
تناول آشر الملعقة، أخذ جرعة من الحساء مع قطعة لحم وبعض الخضار، ثم تذوقها ببطء.
قال بعد لحظة:
"هذا لذيذ."
وبمجرد أن بدأ بالأكل، تبعه نيرو وسائر الفرسان.
قال عيسو مبتسمًا:
"إنه لحم الغزال ذي القرون الأربعة، أحد أفضل مواشينا. طعمه يفوق لحم الأوفوك."
ضحك آشر بخفة، فأكمل عيسو بنبرة جادة:
"ذكرتَ في رسالتك أنك متجه إلى جبل سعير. أولئك الدوثانيون يغيرون على المدينة باستمرار، ومعظم شعبي قد هاجر إلى جنتك، فلم يبق لدي من الرجال ما يكفي للدفاع."
أنزل آشر الملعقة وقال بهدوء:
"ولماذا لا تأتي أنت أيضًا إلى الجنة؟ أمنحك هكتارين من الأرض باسمك، لا بيت نبيل سيفرض عليك ضرائب، ولن تنحني لأحد... سوى لي."
تجمدت ملامح كاثرين روس، ووجوه السحرة حولها أظلمت، فشعر آشر بغضبهم.
كيف يجرؤ أن يطلب من زعيمهم أن يخضع له؟
قال عيسو بصوت بارد:
"مدينتي تمتد على مئات الهكتارات، فلماذا أقبل بأقل؟"
أجاب آشر بثقة هادئة:
"بعد أسبوعين سيحلّ الشتاء، وسحرتك قادرون على الشعور بالقوة الوحشية في الهواء... جيش من مخلوقات الهاوية سيظهر.
من بوابات مدينتك إلى هنا لا يرافقني سوى مئة رجل. ومع أنك تملك عشرات من فرسان الرماد، فلن يكون هذا كافيًا."
كانت كلماته كحدّ السيف، لكنها صدقت الواقع.
لقد عرف آشر قوة أولئك الفرسان الرماديين — طوال الحرب لم يُقتل منهم أحد، ولم يستسلموا إلا بعد مقتل قائدهم ألدريتش.
إنهم قوة رهيبة... وكان يرغب في ضمّهم.
ابتسم عيسو بخفة وقال:
"هذا حديث نؤجله ليوم آخر، حين تعود من رحلتك."
أومأ آشر موافقًا.
---
بعد فترة قصيرة، انسحب إلى خيمته بين خيام جنوده.
أصوات أحاديثهم وفرقعة النيران ملأت الليل بينما جلس متربعًا داخلها.
أغلق عينيه وبدأ بتنظيم أنفاسه، فغرق في حالة تأمل عميقة، غاص خلالها في عالمٍ ساكنٍ غامض، حتى بدأ يرى أضواءً خافتة تتراقص رغم أنه مغمض العينين.
كاد فضوله أن يشتته، لكنه تمالك نفسه وغاص أعمق.
وكلما تعمّق أكثر، اتضحت الرؤية من حوله حتى رأى كل ما في الخيمة — بل ورأى نفسه!
رؤية كاملة بزاوية ثلاثمئة وستين درجة!
شعر وكأنه اخترق عتبة جديدة من الإدراك، فخفق قلبه بقوة.
ورغم خيبته الطفيفة لأن أسلافه — حتى أتيكوس — لم يظهروا له، إلا أن هذا الاكتشاف ملأه بالرضا.
فتح عينيه.
لكن أصوات الحديث والنيران اختفت.
ساد صمت ثقيل كالمقبرة.
تمتم:
"هل مرّ كل هذا الوقت؟"
نظر إلى ساعة الرمل فوجدها تشير إلى مرور ثلاث ساعات، مع أنه شعر وكأنها دقائق.
ثم سمع خطوات تقترب.
انكمشت عيناه.
"نيرو."
ناداه، لكن لم يأتِ رد.
مد يده نحو سيفه "إيوديوس"، وقد شعر أن شيئًا ليس على ما يرام.
لا يمكن أن يكون نيرو نائمًا. إنه ينتظر دائمًا حتى ينتهي سيده من التأمل.
استمرت الخطوات.
"نيرو!"
صمت تام.
بعبوسٍ ثقيل اقترب من ستارة الخيمة، فتح شقًا صغيرًا منها وتطلّع للخارج.
تسعت عيناه — رأى رجلين بعباءات سوداء يقف خلفهما غولان ضخمان.
(عبدة الهاوية!)
والأسوأ، أن الفرسان الذين كان من المفترض أن يحرسوا المكان… كانوا جميعًا نائمين!
خرج آشر من الخيمة، ونظر إلى نيرو الملقى أرضًا غارقًا في النوم.
قال أحد الغرباء بصوت متهكم:
"تأكدنا أن لا أحد — حتى فارس من مرتبة السامي — يمكنه مقاومة جرعة النوم في الحساء، ومع ذلك ها أنت واقف. لست من المستيقظين بعد، فكيف؟"
أجابهم آشر بصوتٍ كالصقيع وهو يشهر سيفه:
"إذًا... هذا هو الطريق الذي اختاره الزعيم عيسو."
زمجر أحد الغيلان:
"اصمت أيها البشري!"
لكن صوت آشر دوّى كالرعد:
"أيها الفرسان!"
وانفجرت نيران الظلال من جسده، شعره اشتعل وتحول إلى لهبٍ يطفو حوله، وعيناه أضاءتا بضوءٍ جهنمي.
في لحظة، صار كالجمرة الحية.
صرخته اخترقت المعسكر كعواء ذئب ملكي، فزلزلت أرواح الفرسان وكسرت مفعول المخدر.
قاموا دفعة واحدة، والسحرة الأعداء أطلقوا نيرانهم، لكن آشر كان قد وصلهم.
ضربة نارية أفقية مزّقت الليل، وحرارتها وحدها جعلت الساحر يرتجف.
لكن أحد الغيلان تصدى للهجمة واندفع نحوه.
في اللحظة التي اقترب فيها... فتح آشر فمه.
واندلع اللهب الأسود من جوفه، فالتهم الغول كاملًا!
صرخ الغول، رمى رمحه وبدأ يتلوى وسط النيران التي لا تُطفأ.
ثم اخترق رمح جليدي بطنه وأسقطه أرضًا ميتًا.
أما الساحران فقد شقّا معصميهما ودمجَا قوتهما مع الغول الثاني!
ارتفع أمامهم كائن هائل — عملاق أسود الجلد، تغطيه صفائح عظمية، بطول عشرة أمتار!
زمجر بصوتٍ هزّ الأرض:
"أيها الحشرات البشرية! ستركعون أمام القوة العليا... أمام الهاوية!"
صوته كان موجة صادمة أيقظت سكان المدينة النائمين.
صرخ نيرو:
"تراجعوا!"
لكن العملاق مدّ يده الضخمة فقبض على ثلاثة فرسان دفعة واحدة!
قفز آشر في الهواء.
انفجرت ضربة نارية هائلة من سيفه، شقت السماء وأصابت صدر العملاق فصرخ متألمًا وأفلت الفرسان.
ومع هديرٍ غاضب، أطلق العملاق طاقة مظلمة ضربت الفرسان بالجنون.
واصل آشر القتال، يتحرك كوميضٍ بين اللهب، يطلق ضربة بعد أخرى، حتى أضاءت نيرانه الليل كنهارٍ أحمر.
حرارته كانت تفوق الاحتمال — الخيام اشتعلت، والهواء نفسه احترق، لكن الغريب أن تلك النيران كانت باردة... تحرق من شدّة برودتها!
ضربة عمودية أخرى أطلقت كمًّا هائلًا من المانا. حاول العملاق تفاديها، لكن مفاجأة أخرى بانت — قمم من الجليد اخترقت فخذيه من الخلف!
رفع آشر سيفه نحو السماء، فانفجر عمود ناري هائل، ارتفع حتى اخترق السحب وأضاء المدينة كأنها نهار.
تسارعت النيران في كل اتجاه، تحرق المباني وتذيب الحجارة.
قال أحد سحرة عائلة روس بفزع:
"هذه القوة... تجاوزت حدود السحرة جميعًا! إنه مستيقظ!"
وبينما تشتّت حواجزهم السحرية، تحولت أجسادهم إلى رماد تحت الموجة الحرارية التي تفوقت على الصوت ذاته.
هبط آشر من السماء، نظر إلى بقايا العملاق المتفحمة، وإلى المدينة التي تحولت إلى رماد.
قال بصوتٍ خافتٍ وهو يحدق في ألسنة النار:
"لم أرتكب هذه المجزرة لإرضاء الحاكم... بل لم أرتكبها أصلًا."
ثم التفت إلى فرسانه المحاطين بالنيران.
كانت النار حولهم، لكنها لم تؤذِهم، بل أحسّوا بدفئها فقط.
رفع نظره نحو سكان المدينة من الجرذان الذين ساروا عبر اللهب دون أن يمسّهم أذى، فابتسم وقال:
"من يحمل الشر ضدي... سيحترق.
ومن لا يحمل..."
أغلق عينيه، والنيران تهمد ببطء.
"... فسيحيا."
---