أظلم وجه كلود أثناء قراءته للرسالة، وتلبدت ملامحه بالقلق. لاحظ نيكولاس التغيّر وتدخّل بصوتٍ مشوبٍ بالخشية.
"سيدي، هل كل شيء على ما يرام؟ تبدو مضطربًا."
كان صوت كلود جادًا، وكلماته موزونة.
"سيدنا ساخط للغاية على قراراتنا. لقد سحب الفيالق من كلا الجبهتين، وجعل المسؤولية تقع بالكامل عليّ وعلى البارونة كاتارينا."
بدأ العرق يتصبّب من جبينه وهو ينطق بتلك الكلمات الأخيرة.
اتّسعت عينا نيكولاس من الصدمة.
"ماذا؟! سحب جيشٍ بهذا الحجم سيجلب انتباهًا غير مرغوبٍ فيه! لكن لماذا يوجّههم نحو نينوى؟"
هزّ كلود رأسه.
"رسالة الوصي لم توضّح السبب بدقّة، لكنها أكّدت على سخط الدوق. هذه أول مرة أراه يُظهر فيها هذا القدر من الاستياء، وهو موجّه إلى جميع اللوردات في الإقطاعية."
تجهّم نيكولاس، وقد بدا عليه الحيرة. فبصفته مرتزقًا سابقًا أصبح فارسًا، لم يستطع استيعاب الموقف.
متى يجرؤ لورد على إظهار استيائه لجميع تابعيه؟ ألا يخاف من إشعال ثورة ضده؟ إن إعطاءهم سببًا للاتحاد ضده يُعد حماقة.
لم يكن أي حاكم ليتصرّف بهذه المتهوّرة؛ إذ يفضّل الجميع التحرك في الخفاء.
"ألا يخاف من التمرّد؟" سأل نيكولاس، وتراوحت نبرته بين الخوف والدهشة.
كانت إجابة كلود غير متوقعة — إذ انفجر ضاحكًا، يهتزّ جسده من شدّة الضحك، ثم عاد فجأة إلى الجديّة، وقد رفع حاجبًا واحدًا وهو يخاطب نيكولاس.
"تمرّد؟ اللورد آشر حاكم عادل، لكنه أيضًا ماكر. مصدر ثروة إقطاعية آشبورن، نِمرِم، تسيطر عليه المرأة التي تشاركه فراشه — أجمل امرأة رأتها عيناي، إن جاز لي القول. علاوةً على ذلك، فهو يقود ثمانية آلاف فارس عظيم، رجال من سلالة أرقى من البشر، بقدرات تفوقهم، ومعه مئتا «فارس مُكرَّس»، كل واحدٍ منهم قوّة لا تضاهى في الإمبراطورية. فهل يبدو لك هذا رجلاً قد يتمرّد عليه أحد؟"
قال نيكولاس ببطء: "لم أفكر بالأمر من هذه الزاوية."
"بالضبط." أجابه كلود. "لن تدرك الصورة الكاملة إلا إذا نظرت بعمق."
ثم أضاف بصوتٍ هادئ: "دعنا ننتظر ونرى السبب الذي استدعى من أجله الرجال."
---
اهتزّ الهواء تحت وقع خطواتٍ ثقيلة، بينما كانت عشرات من الجنود الذين يبلغ طول الواحد منهم سبعة أقدام يسيرون بانسجامٍ تام، مرتدين دروعًا مذهلة من الفضة والذهب.
كان شعار النسر الذهبي يزيّن صدورهم، بينما رُسم رأس الذئب على أكتافهم.
برزت ثلاث شوكات من دروع أذرعهم، لكن ما أثار الرهبة الحقيقية هو ضخامتهم وعددهم الهائل.
كانوا عمالقةً بين الرجال، ودروعهم الثقيلة تضاعف من مهابتهم.
هؤلاء المحاربون المهيبون شكّلوا الدرع الحصين لإقطاعية آشبورن.
تحت قيادة قادتهم، كانوا يسيرون خلف الجدار العظيم الفاصل، في تدريبٍ يوميٍّ للتأقلم مع ثقل دروعهم.
وخلفهم، كانت مدينة شامخة تمتد فوق تلة، على بُعد عدّة كيلومترات.
حلّق صقر ذو ذيلٍ أحمر في السماء، يحدّق في الأفق بعينيه الحادتين، عابرًا المستوطنات الصغيرة والبلدات حتى بلغ أطراف مدينة تيبرياس، ثاني أكبر مدن الإقطاعية.
بأكثر من مئةٍ وخمسين ألف نسمة داخل أسوارها، كانت تيبرياس تعجّ بالحياة، ومعمارها المهيب شاهدٌ على ازدهار الدوقية.
دوّى صوت ارتطام الخشب بالخشب في أرجاء الساحة، مما جذب انتباه قادة «الدرع الأعظم».
كانوا يشاهدون بشغفٍ جنرالهم القائد، أليك ليون، وهو عاري الصدر، يتبارز بعصاٍ خشبية مع بول.
اعتاد القادة على رؤية الجوهرة الزرقاء النابضة في صدر أليك، لكنها لم تصرف تركيز بول الذي ظلّ موجهًا نحو العملاق الذي يبلغ طوله مترين و18 سنتيمترًا.
في لحظة، تقلّصت المسافة بينهما، والعصيان الخشبيان يشقان الهواء في أقواسٍ قوية.
اصطدم الخشب بقوةٍ هائلة، مُحدثًا تموّجاتٍ غير مرئية في الجو.
تراجع بول للخلف، بينما سدّد أليك ضربةً صاعدة بكل قوته.
اتسعت عينا بول، ومع خفةٍ مذهلة، دار بجسده في الهواء، وسدّد ضربةً نحو أليك قبل أن تلامس قدماه الأرض.
التقت العصا بالعصا بصوتٍ مدوٍّ، ثم دار أليك بعصاه وضرب بسرعةٍ مبهمةٍ جعلت الحضور يحدقون بدهشة.
تصدّى بول للضربة بمهارةٍ عالية، وردّ بضربةٍ أفقيةٍ أصابت بطن أليك، لكن العصا تحطّمت عند الارتطام.
ردّ أليك بحركةٍ سريعة، وأوقف عصاه على بعد بوصاتٍ من وجه بول الأيمن.
هبت الريح الناتجة عن الحركة على وجه بول، فأطلق تنهيدة ارتياح — لو تابع أليك الضربة، لما ظلّ واقفًا.
قال أليك بصوتٍ منخفضٍ وجاد:
"السرعة جيّدة، لكن المتانة أهم."
ابتسم بول بمكر:
"تلك العبارة تفقد معناها عندما أستخدم قوسي."
وقبل أن يرد أليك، اقترب رجل يرتدي معطفًا أسود من التجمع.
رفع أليك نظره نحوه وتعرّف عليه كأحد رسل الوصي.
قال الرسول وهو يمدّ رسالة مختومة:
"رسالة من الوصي، سيدي."
فتح أليك الرسالة فورًا، وبدت ملامحه جادّة.
"كل جندي في الفيلق مدعو إلى نينوى من أجل مأدبة؟"
لم يكن الأمر منطقيًا — لماذا يُستدعى عشرات الآلاف من الجنود من مواقعهم من أجل وليمة؟!
أما عن استياء آشر من قرارات اللوردات، فلم يُفاجأ أليك.
بل كان ينتظر عودة آشر ليُظهر لهم أن قرارهم كان انتحارًا سياسيًا.
'عليّ أن أُرسل إلى البارون كلود ليُرسل بعض حراس المدينة إلى الأسوار. مع حراس تيبرياس، يمكنهم الحفاظ على الخط حتى نعود.'
---
جالسًا على جواده المهيب "سيريوس"، نظر آشر إلى الأسوار الجليدية الشاهقة لقلعة سيلفرليف، محاطًا بعشرة من فرسان «الطليعة المقدّسة».
خلال العامين الماضيين، شهدت القلعة ازدهارًا مذهلاً، إذ نمت من مستوطنة صغيرة تضم 600 نسمة إلى مجتمعٍ مزدهر يضم 12,000 شخص، معظمهم من الحدادين وعمال المناجم وعائلاتهم.
كانت هذه المستوطنة المحصنة المركز الرئيسي لصناعة المقاليع والمنجنيقات والدروع والأسلحة.