في تلك اللحظة، تجمّد العالم.
ليس مجازًا، ولا رهبةً من المشهد — بل تجمّد فعليًّا، تامًّا.
السماء التي كانت تضجّ بالرعد والصواعق هدأت فجأة في سكونٍ غير طبيعي. شرارات البرق بقيت معلّقة في الهواء، لا تتحرّك. توقّفت صرخات الدمار تمامًا، كما لو أنّ أوتار قيثارةٍ قُطعت فجأة.
وقف جيرالد كتمثال، مجمّدًا في وضع الغضب. حتى فراؤه لم يتحرّك.
رفع آشر رأسه. الهواء أصبح كثيفًا، مشبعًا بشيءٍ قديم — شيءٍ إلهي. عينيه الذهبيّتين مسحتا أرجاء “البارادايم”، فرأى الفوضى متوقّفة في كلّ مكان. أناس يصرخون وأفواههم مفتوحة، فرسان في منتصف العدوّ بأسلحتهم المرفوعة، مبانٍ منهارة متجمّدة في لحظة سقوطها — مشهد كامل عالق في سكونٍ قاسٍ ومثالي.
ثم جاء الصوت — عميق، هادئ، لا يمكن إنكاره:
«هذا عالمي.»
زيناس.
«أنا أعيد الزمن لنا فقط. لولا ذلك، لكان جسدك تحطّم في اللحظة التي أطلقتُ فيها هذا المجال.»
التفت آشر نحو جيرالد — الوحيد الذي ما زال يتحرّك. لكن حتى هذا التحرك بالكاد يُحسب. كان الفارس المرهوب سابقًا يجرّ قدمه إلى الأمام أبطأ من تساقط ندفة ثلج. نملة كان يمكنها أن تقطع عشرة أمتار في الوقت الذي يستغرقه ليتنفّس.
كان المشهد ليسخر منه المرء… لولا ثِقل ما هو قادم.
تمتم زيناس: «ليس لدي وقت طويل»، وضيّق عينيه نحو الفارس المتجمّد.
«هل أقتله… أم أنقذها؟»
ثم جاء صوت من الداخل:
«أنا بحاجة إليها.»
ضحك زيناس — لا فرحًا، بل إدراكًا.
وفي ذهن آشر، تقدّمت هيئة مألوفة — ذاته الحقيقية، الرجل ذو الشعر الأبيض الذي يقف وحيدًا في الظلام، وعيناه تلمعان بحزنٍ مكبوت.
زيناس عرف، إن ترك الأمر يستمر، فإن خليفته سيسقط في دوامةٍ ويصبح شيئًا لا يليق بلقب "اللورد".
وجب عليه أن يتصرّف.
الأرض تشقّقت. تصدّعت فِجواتٌ ضخمة تحت قدميه — لكن حتى تلك توقّفت في منتصف اندفاعها. الغبار تجمّد، والصدمات علقت في الهواء كالهالات. ثم حلق زيناس، صاعدًا نحو السماء كخيطٍ من الحكم الإلهي. شعره الأبيض تلاعب به الضوء النجميّ وهو يرتفع مئة مترٍ بسهولة.
ثم — ارتطام.
هبط فوق سطح السفينة، وعيناه البيضاء تفحصان ساحة المعركة. الجنيات متجمدات في منتصف اندفاعهنّ، والذئاب في منتصف العواء، وكل عدوٍّ وحليف صار تمثالًا في لحظةٍ أُخذت من الزمن.
«سيريوس.»
رأى آشر — بل أبصر حقًّا. بوضوحٍ اخترق الأنقاض والدمار لأميال. هناك، في أنقاض قصر اللورد، كان سيريوس ممددًا وسط الدماء والحجارة. وحشُه الوفي. ما زال يتنفّس.
بالكاد.
وبإرشاد زيناس، شقّ آشر طريقه عبر الممرات الضيقة للسفينة. خطواته سريعة، لكنها هادئة ومنضبطة. وجدها — سافيرا — في غرفةٍ مغلقة بإحكام. كانت فاقدة الوعي، لم تُصب بأذى. لم يتردّد.
انفجر بقوةٍ خارقة، ممزّقًا هيكل السفينة، وانطلق هابطًا من السماء كشهابٍ ساقط.
ثم —
عاد الزمن.
انفجرت الأصوات كأمواجٍ عاتية. اندفع جيرالد للأمام وهو يزأر، وسيفه يشقّ المكان الذي كان فيه آشر قبل لحظات.
لكن السيف لم يصب شيئًا.
تعثّر. تاهت نظراته المذعورة وهو يرى لوحًا زجاجيًا حادّ الحواف أمامه.
وفوقه، كان اللورد معلقًا في الهواء — بعينيه الذهبيّتين الهادئتين، العتيقتين، المملوءتين بالحزن.
قال آشر بصوتٍ كالنبوءة:
«حتى الآن، ما كنت لتنجو في سيرينيا… لذلك أزلتُ عنك عبئًا واحدًا.»
وقبل أن يفهم جيرالد كلماته، انشطر جسده نصفين.
قطعٌ كامل.
الـ“فارس الخامس ذو اللقب” — المختار من قِبل القدماء في تناريا، محطم اللوردات، الفارس المجهول — لم يعد موجودًا.
سقط بصمت، كطيفٍ من ماضيٍ منسيّ.
وحتى في موته، بقيت عيناه مفتوحتين، غير مصدّقتين أنه قد هُزم.
على أطراف القصر المدمّر، ظلّ نيرو واقفًا، لكنه لم يكن غير مبالٍ.
عباءته البيضاء رفرفت مع تغيّر الهواء. عيناه الرماديتان، كالفولاذ المصقول، ثبّتتا نظرهما على آشر الذي هبط بجوار جثة جيرالد، وعيناه البيضاء تخبو مع انحسار زيناس.
لم يتكلّم نيرو. لم يحتج إلى ذلك.
كان يعلم أن سيده قويّ.
لكن هذا؟ كان إلهيًا.
تحرّكت يده نحو مقبض سيفه — لا خوفًا، بل ولاءً — كتذكيرٍ لنفسه أنه ما يزال سيف آشر، حتى لو صار سيّده يسير كإله.
هبّت نسمة خفيفة حركت عباءته، وتقدّم خطوة للأمام، صوته منخفض كهمس الريح:
«مولاي.»
انهار آشر على ركبتيه، ما زال يحتضن سافيرا في ذراعيه بينما كل ذرة قوةٍ غادرت جسده، تاركة وراءها ألمًا نقيًّا، لاذعًا.
ومع ذلك… ابتسم.
رغم الخدر الزاحف في أطرافه، رغم الثقل الذي يضغط على عظامه كأيدي الموت نفسها — ابتسم.
وجهها لم يُمسّ.
عيناها مغلقتان في سباتٍ هادئ، بعيدة عن الدمار الذي أحاط بهما. في ملامحها سلامٌ نادرًا ما منحه له هذا العالم.
لم يعد يشعر بساقيه. وذراعاه تفقدان الإحساس أيضًا.
لكن قلبه… ما زال ينبض — ثابتًا، بطيئًا — كطبول حربٍ تنسحب بعيدًا.
الرياح دوّرت حول هيكل السفينة. أشرعتها اتّسعت والتقطت تيار الهواء فوق البارادايم، تقودهم بعيدًا عن سماء المعركة المحطّمة.
لم تجرؤ أيّ جنية على الهجوم مجددًا.
فبعد ما رأين، لم يجرؤن.
جيرالد — رغم شيخوخته وانحداره — كان جبلاً. وآشر حوّله إلى ذكرى.
خلفه، تردّد صدى الحديد.
خطوات ثقيلة. مدروسة. مدجّجة بالدروع.
لم يستطع أن يلتفت — جسده رفض — لكنه لم يحتج لذلك. انتظر، مائل الرأس قليلًا، حتى توقفت الخطوات… وملأت الهالة المكان أمامه.
عمر.
عشرة أقدامٍ من الغضب المدرّع، قائد فرسان المعبد القرمزي، يجثو الآن ويده تضرب الأرض بقبضته.
قال بصوتٍ يشبه الرعد البعيد:
«مولاي، لقد فرّت الجنيات. أسرنا عشرين — جميعهم فرسان مخضرمون.»
نظر إليه آشر بعينين باردتين، آمِرتين.
همس بصوتٍ بالكاد يُسمع:
«أعدِمهم حالًا. اقتلوا كلّ من يملك آذانًا مدببة وأجنحة خلف هذه الجدران.»
دَوِيَّ انفجارٍ أجاب أوامره — لا من السماء، بل من مئة فأسٍ لفرسان المعبد وهم يضربون الأرض في آنٍ واحد، الحديد بالأرض، نشيد ولاءٍ للحرب.
قال عمر وهو ينحني أعمق:
«كما تأمر، مولاي.»
اقتربت الذئاب القطبية، فروها الكثيف يرتجف مع النسيم، وعيونها الفضية تنظر إلى آشر بنظراتٍ لا تُسمّى خوفًا ولا شفقة. ولاء. قرابة. وربما حب.
نظر إليهم، وللحظةٍ، لانت قسوته.
ثم شعر به.
كالماء البارد ينسكب على عموده الفقري.
لم يعُد يشعر بخيوط المانا التي تلتئم جراحه.
لم يعد يحسّ بالذبذبات البطيئة للتجدد تحت جلده.
اختفت هبته.
لم يعُد قادرًا على الشفاء.
---
ملاحظة المؤلف:
هممم… أرى الكثير من التعليقات مؤخرًا. ما الذي يحدث؟
على أيّ حال — هذه هي نهاية المجلد الرابع: دوق الرماد!!
مبروك!!!
انتهى هذا المجلد!