ـــــ
تك... طق...
ارتدّ صوت حوافر الخيول بإيقاعٍ ثابتٍ عبر الطريق المفتوح، ممزوجاً بأزيز عجلات العربة الزيتية وهي تدور ببطء. كان الصوت كأغنيةٍ هادئة ترافق أفكار آشر بينما استرخى على أريكةٍ مبطّنة بالمخمل داخل عربته الفاخرة.
جدران العربة تنطق بالثراء والسلطة الممزوجة بالحرب. ألواح من خشب الماهوغاني الداكن تتلألأ عليها نقوش سحرية للحماية والصمت، بينما يمتدّ على أطرافها خيطٌ من الذهب الملتف كأغصان اللبلاب. وعلى السقف، بخيوطٍ فضية دقيقة، نُسج شعار بيت آشبرن: ذئبٌ أبيض يعوي نحو السماء.
لم يكن مجرد زينة... بل قصة.
لقد جابت هذه العربة القلاع والقصور وقاعات الدبلوماسيين. كانت يوماً ما مخصصة للنبلاء العظام الذين لم يكن آشر، قبل أعوام، ليتجرأ على النظر إليهم.
ومع ذلك، ها هو الآن... دوق.
> من بارونٍ منسي إلى الذئب الأبيض للشمال.
ابتسم بخفة لهذه الفكرة، ثم نظر إلى يديه المغلّفتين بالقفازات.
ثقل الألقاب والأراضي والرجال كان أثقل من أي درعٍ لبسه يوماً،
واليوم كان هذا الثقل مصدره رجاله أنفسهم...
أولئك الذين رفعهم بيده، ووثق بهم، ثم بدأ الشك يتسلّل منهم إليه.
> لماذا الآن؟
نظر من النافذة، تاركاً الشكوك تهدأ في ذهنه، حتى عادت البساطة لتتسلّل إلى تفكيره.
في الخارج، كان نيرو يمتطي حصانه الضخم بيزِرك، مكسوّاً بدرعٍ أسود لامع. خرجت أنفاس الحيوان كدخانٍ ثقيل، وكل خطوةٍ منه تهزّ الأرض.
حولهم سار حرس النخبة — دروعهم تلمع، ورماحهم ثابتة، وأعينهم يقظة.
وخارج صفوفهم، على جانبي الطريق، كان الشعب.
الفلاحون والرعاة والتجار، اصطفّوا كالحجّاج يشهدون موكباً مقدساً.
تركوا أعمالهم، ورفعوا رؤوسهم ليروه يمرّ.
كانت في أعينهم رهبة، لكن بلا خوف؛ احترام، بلا يأس.
بعضهم ابتسم، وبعضهم انحنى، والأطفال تمسكوا بثياب أمهاتهم هامسين:
"أهو... هو؟"
ولأول مرة منذ زمن، شعر آشر بدفءٍ حقيقي يتسرّب إلى صدره.
> إنهم أحياء... متغذّون... أقوياء.
رأى الوجوه المستديرة، والأيدي المتشققة، والضحكات التي حلت محل البكاء.
هؤلاء كانوا يوماً برابرة جبليين محطمين...
أما الآن، فهم جزء من مملكته الصاعدة.
> وفي غيابها... من سيكمل الطريق؟ أكويلا؟ أم آدم؟
فكرة رحيل سافيرا خيّم عليها ظلّ الحزن، إذ كان يعلم أن رحيلها سيترك فراغاً لا يُسدّ. القيادة لا تحتمل الفراغ.
لكن تيار أفكاره انقطع حين توقفت العربة.
فتح نيرو الباب بانضباط، ومدّ يده بعادةٍ قديمة.
نزل آشر، وحذاؤه يطأ الأرض الممزوجة بالعشب والرماد.
استقبله عبير الحديد المنصهر والفحم... رائحةٌ خالدة لا تخطئها أنفه.
لقد وصل إلى حدادة سيلفرليف.
ـــــ
امتدّ أمامه مجمّعٌ واسع، تغطي أرضه أعشابٌ داكنة داستها عجلات العربات وأقدام المتدرّبين.
تتوهّج الأفران على مساحاتٍ متفرقة كنجومٍ من نارٍ برتقالية،
والدخان يرتفع نحو سماءٍ رمادية تحت ظلّ الجبال البعيدة.
الجبال نفسها — جبال الرماد — بدت كعمالقةٍ رمادية يلفّها الضباب، مستلقية في الأفق كوحشٍ أسطوري نائم.
وجودها أضفى قداسة على المكان، كأن كل ضربة مطرقة هنا تصدح في عظام الأرض ذاتها.
تقدّم رجلان للقائه — أحدهما عريض المنكبين، مغطّى بالرماد والعرق، والآخر أنحفَ جسداً وأكثر حدةً في الملامح.
انحنى الأول — الحدّاد دان — بانحناءةٍ عميقة، بينما تبعه آرك وايت بانضباطٍ عسكريّ.
قال دان بصوتٍ أجش:
"سيدي، مرحباً بكم في سيلفرليف."
أومأ آشر ببطء، عيناه تتفحّصان المكان.
"همم..."
رفرف رداؤه الأبيض المطرّز بالفضة، وعليه نقوش الذئب التي تلمع في ضوء الصباح.
قال أخيراً:
"تلقيت رسالتكما. أخبراني... هل انتهيتم من صنع درع الفوج المشتعل؟"
حلّ صمتٌ ثقيل، لم يقطعه سوى صفير البخار ودويّ المطارق في البعيد.
ثم، ومع خشخشة الأبواب المعدنية، انفتح باب الفرن المركزي... كاشفاً عن شيءٍ يتلألأ كلهيب الفجر وسط الظلال.
أخرجوه ببطء.
درعٌ أسود، شامخ، كأنما نُحت من الظلام نفسه.
حوافّه مسنّنة كالأسنان، وألواحه حادة كزعنفة وحشٍ جهنمي.
البرونز المحروق يتخلّل جسده بخطوطٍ دقيقة تتوهّج كجمرةٍ تحت رماد.
أما الخوذة — فكانت مرعبة: قرنان مقوّسان، وفتحة وجهٍ كفمٍ مغلقٍ على أسرارٍ سوداء.
من خاصرته يتدلّى نصف عباءةٍ ممزقة، يتأرجح طرفها المحفور بنصف هلال.
قفازاه ينتهيان بمخالب معدنية، وساقاه مصممتان لسحق الصخر.
كان هذا الدرع لا يُلبس... بل يُطلق.
درعٌ لا لفارسٍ... بل للحرب نفسها.
قال آرك بفخرٍ مقيّد:
"نسميه درع المدّ الأسود."
رغم أنه بدا متوسط الوزن، إلا أن تركيبه فاق التصوّر: صفائح متداخلة من فولاذٍ داكنٍ غير لامع، متناسقة في فوضى قاتلة، تشبه مفترساً في لحظة انقضاض.
تابع آرك:
"يزن أكثر من مئتي كيلوغرام، لكن بالنسبة لفرسان الرتبة الذهبية فهو كظلّ أجسادهم. دفاعه يعادل ضعف درع ’الدرع العظيم‘، ومع ذلك هو أخفّ من درع الخطوط الأمامية — ويوفّر حماية أكبر بكثير."
أمال آشر رأسه بإعجابٍ صامت.
قادهم آرك إلى ساحةٍ مستوية قرب الحدادين.
هناك، نُصبت ثلاثة دروع: درع المدّ الأسود، والدرع العظيم، والدرع الأمامي الأنيق.
وقف ثلاثة رماة على بعد مئة متر، يشدّون أقواسهم الثقيلة المزوّدة بسِهام خارقة للدروع.
رفع آرك يده... فأطلقوا.
تتابعت السهام كالعاصفة — صفيرٌ في الريح، وارتطاماتٌ عنيفة على المعدن.
وحين انتهى الاختبار، تقدّم آشر ليرى النتائج.
الدرع الأمامي كان مثقوباً بست فتحاتٍ واسعة.
الدرع العظيم صمد أكثر — ثلاث ثقوب فقط، وبقية الأثر خدوشٌ بيضاء.
أما درع المدّ الأسود... فبقي كما هو. بلا خدشٍ واحد.
مدّ آشر يده، مرّر أصابعه على المعدن البارد وقال:
"أليس هذا أفضل من فولاذ الأقزام الخام؟"
ابتسم آرك بخفة:
"بالفعل. هذا الدرع مُكوّن من طبقاتٍ متداخلة من سبائك الأقزام، مدعّمة بفراءٍ من وحوشٍ ماصّةٍ للصدمات لتخفيف أثر الضربات الكتلية. وليس هذا كل شيء—"
قاطعَه دان، رافعاً مطرقته الضخمة.
صرخ بصوتٍ أجش وضرب الدرع على صدره ضربةً هزّت الأرض.
ارتطم الحديد بالحديد، وتصاعد الغبار.
وحين رفعوه مجدداً... لم يكن هناك أثر. لا凹 ولا كسر.
قال آشر بإعجابٍ خافت:
"مدهش."
أومأ آرك:
"أعددنا دروعاً مصاحبة وسيوفاً خفيفة. الدرع صلب، نعم، لكن الضربة تظلّ ضربة. من يظن أنه لا يموت وراءه فهو أحمق. نعلّم الجنود أن لا يندفعوا بلا عقل."
قال آشر:
"القوة لا تحمي وحدها. لكنها تصنع السلاح من أي شيء."
ابتسم آرك وقال:
"بالضبط. وهذا الدرع... لن تجد مثله في أي مكان. لا أحد يملك خامات الأقزام التي نملكها. ولا الحرفيين الذين نملكهم."
سأل آشر:
"قلت إنه يناسب كل الفرسان؟ من المتدربين حتى الفرسان العظام؟"
"نعم،" أجاب الاثنان معاً.
"وكم صنعتم منه؟"
"عشرة آلاف جاهزة للتوزيع، وخمسون ألفاً ستكون مكتملة خلال شهر."
ارتسمت على وجه آشر ابتسامةٌ نادرة — تلك التي تسبق الغزو.
"جيد... أمامكم شهر."
استدار، ومعطفه الأبيض يرفرف خلفه كرايةٍ منتصرة، وعيناه تشعّان توقاً للمعركة القادمة.
لكن صوتهما تبعه من الخلف — صوت دان الأجش يهدر:
"سيدي... ألا تريد أن ترى درع الفرسان المقدّسين؟ ودرعك أنت؟"
تجمّد آشر في مكانه.
في منتصف الخطوة.
ـــــ