كانت السماء مظلمة، تلفها غيوم ثقيلة حجبت النجوم، وحتى القمرين التوأمين اللذين اعتادا أن يسطعا بجرأة، اختبآ خلف سحب باهتة كالأشباح، ينثران على الأرض ضوءاً شاحباً مريضاً.
جلس آشر ممتطياً "فيلمورن" عند حافة مرتفع، على بعد كيلومترات من ساحة المعركة، ومع ذلك كان يسمع صخب الرجال، واصطدام الفولاذ، وارتجاف الأرض تحت وطأة الحرب.
كان يشعر بحرارة المعركة كما لو كانت مخلوقاً حياً يتنفس قرب جلده.
انعكست في عينيه الذهبيتين المتوهجتين جموعٌ هائلة — عشرات الآلاف — تتدافع كموجٍ هادر نحو أسوار قلعةٍ أنهكها القتال. كالرمال التي تندفع لتبتلع الشاطئ، اندفعوا بلا تردد.
الأبراج الحلزونية للقلعة، التي كانت يوماً فخمة شامخة، تهدمت تحت وطأة المقاليع الثقيلة. رايات "بيت نوبيس" كانت معلقة على الجدران العملاقة، ممزقة ومغطاة بالدماء، ومعظمها دماء المدافعين.
على الأسوار، وقف مئات من "قناصي السماء المظلمة"، أقواسهم الفضية طويلة تكاد تعادل طول الرجل. كانت أوتارها المزدوجة تهتز بعنف بينما تعصف السهام في الهواء. كان بإمكان كل رامٍ أن يطلق عشرات الأسهم في غمضة عين. مهارتهم لا مثيل لها، لكن حتى هم عانوا الآن — ثلاثة من التنانين المجنحة "الوايفرن" تحلق فوق جيش العدو، تصرخ وتشق الهواء، مسببة خسائر موجعة.
المشاعل أضاءت الجدار، فكشفت عن ندوبه — شقوق عميقة، دماء متيبسة، وبقايا معارك سابقة.
البوابة ما زالت صامدة، لكنها تئن تحت الضغط، ولن تصمد طويلاً.
كان المدافعون ينهارون.
أما "الجيش المتحد" فقد أثبت أنه بالفعل الكابوس الذي يتداول الناس قصصه. إسقاط قلعة "بلاك" — التي قيل إنها تصمد عاماً كاملاً تحت الحصار — خلال شهور فقط، كان أمراً مرعباً.
كل جندي من المهاجمين تقريباً كان يحمل درعاً، خطوة ذكية ضد قناصي السماء، لكن حتى الفولاذ لم ينجُ طويلاً. أما الدروع الخشبية فكانت تتحطم مع أول وابل.
اقتربت حوافر. التفت آشر قليلاً، فرأى من طرف عينه الكونت "أليك" يقترب ممتطياً مخلوقه الحربي "آركون" — نصف نسر ونصف دب، اختير خصيصاً له، مثلما اختيرت لكل قائد دابته الخاصة.
قال أليك بصوت ثابت لكنه حازم:
"سيدي، ما هي أوامرك؟"
أجاب آشر بهدوء:
"أبلغ حلفاءنا بوصولنا. حرّكوا وحدات الـ Titan X إلى الجبهة. لتبقى مقاليع الأورك خلفها — هم من سيفتح الهجوم. القائد لامبرت يقود الفرسان، ومعهم فرقة الذئاب. نحتاج خفة الحركة. أما المشاة... فسيحين دورهم لاحقاً."
أومأ أليك، وانطلق لتنفيذ الأوامر.
سرعان ما انتشرت التعليمات.
تحركت خمسون آلة Titan X ضخمة نحو الخطوط الأمامية. رفع "ليفي" قرن الحرب الأسود ونفخ فيه، فدوّى صوته في الأفق كالرعد. بدأت تلك الوحوش الخشبية الحديدية تتقدم ببطء، ثابتة كالجبل.
خلفها، تحركت مقاليع الأورك العملاقة، تجرها ذئاب سوداء ضخمة، أنفاسها بخار في الهواء البارد، وخطواتها تهز الأرض.
وبين صفوفها، انطلقت الذئاب البيضاء — سريعة، صامتة، فتاكة، تركض بانسجام تام، عيونها تلمع كنجومٍ في الظلام.
صاح القائد لامبرت بصوت مدوٍّ:
"الحراب!"
رفع رمحه الطويل نحو السماء، وارتفعت خلفه عشرة آلاف رمح كغابة من الفولاذ.
أطلق فرسان "كاسري النصال" زئيراً واحداً دوّى في الليل.
"اهجموا!"
اهتزت الأرض.
عشرة آلاف محارب، طول الواحد منهم يتجاوز المترين ونصف، أجسادهم كتلة من العضلات، يرتدون دروعاً تزن مئتي كيلوغرام، يركبون وحوشاً تفوق الطن وزناً، اندفعوا معاً كعاصفة من الحديد والنار. الأرض اهتزت تحت أقدامهم، وكأن السماء أنزلت جبابرتها.
وتقدمت آلات Titan X، تطلق دفعة واحدة — مئة سهم من كل آلة، خمسة آلاف سهم في آنٍ واحد.
السماء امتلأت بصافرات الموت، قبل أن تمطرهم سهاماً كالنيازك.
انهارت الصفوف. تحطمت الدروع. تصاعدت الصرخات.
ثم تبعتها المقاليع — خمسون صخرة مشتعلة.
بووم! بووم!
الانفجارات مزّقت الميدان. ارتفعت ألسنة النار، تناثرت الأجساد، وتحولت الوحدات إلى فوضى دامية. مئات ماتوا في ثوانٍ. لا درع ولا جدار صمد أمام ذلك الجحيم.
صرخ أحد الجنود من "بيت وايفرن" مرتجفاً:
"ماذا... ماذا تكون تلك؟!"
نظر بدهشة إلى تلك الآلات العملاقة المتقدمة بثبات، لا تُوقفها نيران ولا سهام.
ثم جاء وابل آخر — خمسة آلاف سهم جديدة.
رأى رفاقه يسقطون — أولئك الذين قاتلوا وضحكوا وسرقوا معه.
تحول الحزن إلى غضب.
"آآآآه!" صرخ وهو يندفع، وتبعه آخرون. مئات كسروا الصفوف بدافع الغضب الأعمى.
لكن من أبراج Titan X، صوب "الباحثون" سهامهم ببرود قاتل.
عشرات سقطوا قبل أن يقتربوا. من نجح بالوصول، واجهه الذئاب البيضاء.
رفع أحد الجنود سيفه وجرح ذئباً في عنقه فأسقطه. ابتسم للحظة...
لكن ذئبين آخرين قفزا عليه.
أحدهما غرز أنيابه في حلقه، والآخر مزّق درعه بمخالبه، فاتحاً صدره كالورق.
تحولت صيحات الحرب إلى عويل.
الذئاب البيضاء مزّقت صفوفهم كما تمزق الرياح القش. رجال "بيت وايفرن" الذين ساروا بفخرٍ بالأمس، صاروا الآن يصرخون، تُقطع حناجرهم وأجسادهم تمزقها المخالب.
فوقهم، كانت التنانين المجنحة تحوم. قائدها، رجل ضخم ذو ندبة عريضة على فكه، صرخ:
"أحرقوا تلك الآلات!"
انحرفت التنانين بحدة، أجنحتها ترفرف كالعواصف، متجهة نحو جيش آشر.
توهجت النيران في حناجرها.
لكن قبل أن يطلق أولهم، دوّى صرير معدني.
انطلقت قذيفة ضخمة — سهم معدني يلمع بالموت — اخترق حنجرة التنين.
صرخ الوحش وسقط يتخبط، ثم أصابته ضربة أخرى في بطنه، ثم ثالثة، قبل أن تصدمه صخرة نارية من مقلاع الأورك، فاشتعل كالشمس وسقط متفجراً بالأرض.
نظر قائد التنانين، مذهولاً، إلى مصدر النيران.
رأى تلك الوحوش الميكانيكية البعيدة — آلاتٌ كمنجنيقاتٍ ضخمة تصوب نحوه.
واحدة منها أعادت توجيه سلاحها نحوه مباشرة.
"انعطف!" صرخ بجنون، لكن أحد رفاقه لم ينجُ.
اخترق سهمٌ آخر جناح تنينه، فقطع الدعم، فسقط في دوامة موتٍ محتم.
الطيار تشبث بلجامه، وصرخ...
حتى رأى الرامي فوق البرج — فارساً يرتدي درعاً داكناً بقرنين، يجهّز سهماً أخيراً.
التقت أعينهما.
"لاااا—"
فشش!
اخترق السهم خوذته، فتناثر الدم كضبابٍ أحمر، وسقط مع تنينه محترقاً.
أما القائد الأخير فهرب، وجهه خليط من الغضب والعار.
وفي قلب معسكر "الجيش المتحد"، جلس "الكونت وايفرن" داخل خيمته المذهبة، محاطاً بمصابيح الزيت وامرأتين أسرهما من مدن "نوبيس".
جلسَت إحداهن على ركبتيه، والأخرى إلى جانبه.
كان يبتسم بتلذذٍ وهو يقول:
"اجلسي."
لكن اللحظة لم تكتمل.
اندفع أحد قادته داخل الخيمة، وجهه مغطى بالرماد، درعه مخدوش، وصوته مرتجف:
"سيدي... لقد رأيتهم... رايات بيت آشبورن!"
تلاشت ابتسامته فوراً، كأن دلو ماءٍ بارد سكب على جمرٍ مشتعل.