التفت الجميع نحو كاترينا، حابسين أنفاسهم. ساد صمتها طويلاً، كسيفٍ مرفوع ينتظر أن يهوي.
ماذا رأت؟
مالوا إلى الأمام بفضولٍ واضح على وجوههم، فالرؤيا التي تحملها كاترينا قد تحدد مصير المقاطعة بأكملها.
ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم قالت بصوتٍ مرتجف ينوء بثقل ما كشفته:
"غضب."
سقطت الكلمة كصخرةٍ في بحيرةٍ ساكنة.
"لقد اجتاحه غضبٌ عظيم… وألمٌ لا يُحتمل… ساق جيوشاً بأكملها نحو المدن وأحرقها عن بكرة أبيها. لم يعد للرحمة وجود. والعالم… العالم لقّبه بـ ملك الدماء."
حدّقت فيهم بعينين متسعتين، تكادان ترتجفان خوفاً. "قد يكون هذا… هو البداية! نحن—"
ارتسمت في ذهن أليك صورة مجزرة فيلميرا. شدّ على أسنانه، وتجعد جبينه بعمق. لم يحتج إلى مزيد من شرح كاترينا.
كانوا جميعاً رجالاً. تخيّلوا أنفسهم مكان آشر. ومع امرأة مثل سافيرا؟
لم تكن هناك من هي أفضل منها. أقرب إلى الكمال، وذلك جعل الألم أشد وطأة.
تابعت كاترينا: "ألا يجب أن ننتظر؟ ننتظر حتى يخرج؟ حتى يتكلم بنفسه؟"
لكن الغضب كان قد بدأ بالفعل بالغليان في القاعة. الرجال مثل أليك وفين لم يكونوا غاضبين فحسب، بل جرحى. لم يكن الأمر خيانة فقط، بل مسألة كرامة وإرثٍ وشرف.
قال كلود مقاطعاً: "ينبغي على الأقل احتجازها. الناس يراقبون. إن لم نفعل شيئاً، سيظنون أننا نسمح لمعبد القرمزي بأن يحكمنا. ولم يُمنح مثل هذا الحق حتى لمعبد الذهب في الجنة."
نظرت أكيلا إليه بعينين هادئتين متفحّصتين: "معبد الذهب له غاية مختلفة. فهو يحتضن أولئك الذين يسيرون بين الحياة والموت—العرافين، كهنة الروح، القضاة المختارين. لكنه معبدٌ فارغ، لأن السيد الأعلى لم يختر أحداً بعد."
ثم شبكت ذراعيها. "أما المعبد القرمزي فقد أُنشئ لخدمة الناس. يقدّم الشفاء… لا الحُكم."
ضاقت عينا كلود: "وماذا لو منعت السيدة سافيرا كهانها يوماً من مغادرة المعبد؟ ألن يعاني المرضى والمحتضرون بسبب إرادتها؟"
ردّت أكيلا بحدة: "لم تفعل ذلك قط. حتى حين كان لها الحق الكامل في ذلك. شهرتها بالرحمة معروفة في جميع أرجاء المملكة."
قال أليك ببرود: "يجب استدعاؤها على أي حال."
أومأ آدم موافقاً.
رفع كيلفن نظارته الأحادية وتنهد: "ثم ماذا بعد؟"
صرخ فين: "لتُفسّر لنا ما فعلته!"
لكن ما إن نطق كلماته—
صرير.
انفتحت الأبواب الضخمة من خشب البلوط، وعمّ الصمت المكان.
اتجهت الأنظار كلها نحو الداخل.
دخلت سافيرا—كضوء القمر يلفه الظلال. ساحرة، بشعرٍ أسود، حافية القدمين، تلامس قدماها البيضاء الأرض بخفةٍ كأنها نسمة. خيّم الخفوت على القاعة من حولها، وبدت الأنفاس أبطأ، كأن الهواء نفسه انحنى لحضورها.
على جانبيها، وقفت كاهنات المعبد القرمزي، بثيابٍ من حريرٍ متدرج بين القرمزي والعاج، وأجنحة شفافة تلمع كأجنحة اليعاسيب تحت وهجٍ روحي خافت.
وخلفها، تبعت كاهنتان تحملان طفلين ملفوفين بقطع قماش بيضاء، لا يظهر منهما سوى رأسيهما الصغيرين.
بصمتٍ مهيب، تقدّمت سافيرا نحو العرش الأصغر المجاور لعرش اللورد، وجلسَت بخفةٍ تكاد لا تُصدق، متصالبة الساقين، رافعةً ذقنها بثقةٍ ساكنة.
تبدّل الجو—أصبح أكثر رقة، لكنه أثقل حضوراً.
قالت بصوتٍ هادئٍ لا يقبل الجدل: "أتسعون إلى مساءلتي؟"
صرخ كلود: "أتجرئين على إحضار تلك… النجسة—!"
"احذر لسانك يا الفيكونت كلود… وانزل بنظرك، أيها الكونت فين." كان صوتها كالسوط يصفع الهواء.
ثم—
أمام أعينهم المذهولة، تغيّر شكلها.
تحوّل شعرها الأسود إلى شلالٍ من الزمرد، يتلألأ وهو ينساب حتى يكاد يلامس أرض الرخام. جسدها تمدّد، وارتفعت قامتُها حتى بلغت تسع أقدام. لم تعد امرأة، بل كياناً سامياً، مكللاً بهالةٍ بيضاء ناعمة تشع من بشرتها.
"لا تتجرؤوا على إهانة دمي بلسانكم، وإلا قطعت رؤوسكم في أماكنكم."
تجمّد الهواء في القاعة.
هل هذا اندفاع أمّ؟ أم غضب تيناريا نفسها؟
لم يعلم أحد. لكن ما كان واضحاً أن من تقف أمامهم ليست امرأةً عادية.
بل كيانٌ مقدّس يمشي بينهم.
لم يقدر أحد من النبلاء على الحركة. حتى أصحاب الإرادة الفولاذية شعروا بقلوبهم تخفق بقوة. لم تكن مجرد جمالٍ يُرى، بل سطوة. كل ذرةٍ فيها تشع بالهيبة.
لم يعد جمالها شيئاً يمكن وصفه بشرياً؛ كان هو الكمال ذاته—ما يتوق إليه الرجال، وما تحلم النساء أن يصبحن عليه. لم يكن شكلاً فقط، بل جوهراً، هالةً من الكمال المطلق.
طَخ!
جثا كلود على ركبتيه، عيناه متسعتان ذهولاً وخشوعاً.
ثم تبعه فين، وبعده أليك—يقاوم، يصرّ بأسنانه—ثم ركع في النهاية، مستسلماً لغريزة الطاعة والانبهار.
لم يكن ذلك سحراً، ولا وهماً.
كانت هي فقط.
رعب سافيرا الحقيقي لم يكن في قوتها، بل في جمال وجودها نفسه. جمالٌ كاملٌ لدرجةٍ تسحق كبرياء أكثر الرجال عزةً.
ساد الصمت. لم يجرؤ أحد على الوقوف.
وسؤالٌ واحد دوّى في عقولهم جميعاً:
من تكون حقاً؟
تقدّمت كاهنة صامتة بخطواتٍ متواضعة، منحنية الرأس، تحمل في يديها حجاباً شفافاً من خيوطٍ تلمع كالضباب في ضوء القمر.
برفقٍ معتاد، رفعت الحجاب وغطّت به وجه سافيرا.
عندها فقط انحسر الضغط الخانق في الجو.
تنفّس النبلاء بارتياح، واعتدلوا ببطء. لم يكن ذلك تحدّياً، بل محاولةً لاستعادة ما تبقّى من تماسكهم.
كان أليك أول من تكلم، بصوتٍ ناعمٍ كمن استيقظ من حلمٍ عميق:
"إذن… ورث شعره منكِ."
رفع بصره نحو الطفل ذي الشعر الأخضر، ثم عاد إلى سافيرا الموشحة بالحجاب. الغضب الذي كان يملأه قبل قليل تلاشى، ولم يبقَ سوى الدهشة.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها. من دون كلام، مدّت ذراعيها. فتقدّمت الكاهنة عن يمينها وقدّمت لها الطفل ذو الشعر الأخضر برفق.
احتضنته سافيرا بحنان الأم، ثم مدّت يدها لتأخذ الطفل الثاني من الكاهنة الأخرى.
نظرت إليهما، وصوتها يدفئ المكان كوهج الموقد:
"هو يشبه والده." قالت وهي تتأمل الطفل في ذراعها اليسرى—صبيٌّ بشعرٍ أبيض كالثلج وعيونٍ ذهبية متقدة.
ثم نظرت نحو الرضيع ذي الشعر الأخضر في يدها اليمنى:
"وهذا يشبهني."
كان صوتها الآن همساً حنوناً، أقرب إلى أغنية مهدٍ. لم يكن موجهاً للنبلاء، ولا لإظهار سلطةٍ أو هيبة.
بل موجهاً لهما—لطفليها. لابنيها.
وفي تلك اللحظة، وسط قاعةٍ يملؤها الحكم والخوف والسياسة، لم تكن التي تجلس على العرش كائناً سماوياً، ولا تيناريا الخالدة، ولا الكاهنة العظمى للمعبد القرمزي…
بل كانت أمّاً.
وأشد القلوب برودةً بين الحاضرين لم تستطع إنكار ذلك.