كان نَفَس الشتاء ثقيلاً فوق بحر كريوس، تتناثر فيه جبال الجليد كحُراسٍ مسنَّنين يشقّون طريقهم في صمت، تُشكّل حواجز طبيعية تجعل الإبحار مغامرة مميتة. معظم السفن التجارية توقفت منذ زمن، مفضلة انتظار تياراتٍ أهدأ. وحدهم الحمقى… أو الشجعان… تجرأوا على المضيّ قُدمًا.
ومع ذلك، عبر المتاهة البيضاء الزاحفة، كانت سفينتان عملاقتان تشقان طريقهما بلا عائق.
إنهما سفينتا المقاطعة، قلعتان عائمتان بطول عدّة كيلومترات. تحطّم الجبال الجليدية التي تعيق السفن الصغيرة تحت أجسامهما المعدنية كما لو كانت زجاجًا هشًا، تتشقق الكتل الجليدية، وتتراجع الأمواج في استسلام، ومع ذلك استمرت التوأمتان في التقدّم بعزمٍ كئيب.
ورافقتهما مئة سفينةٍ أصغر، مصنوعة من خشبٍ أسود متين مدعّمٍ بمسامير معدنية مسحورة.
لم يكن لتلك السفن أشرعة، بل دَفَّاتٌ خشبية منحوتة على هيئة رأس دبٍّ بارز من المؤخرة. وعندما تدور، كانت تحرّك المياه خلفها بقوةٍ هائلة، دافعة السفينة إلى الأمام كما لو أن وحشًا مائيًا يسبح بجنون. هذه هي سفن الخدم، المكلّفة بنقل الجنود إلى اليابسة.
كانت مربوطة بسلاسل حديدية ضخمة إلى سفينتي المقاطعة، تتأرجح برفقٍ على جوانبهما كذئابٍ وفية تتبع سيدها الجبّار.
كان الفجر بالكاد قد بزغ.
لفّ الضباب البحر بالكامل، ابتلع الضوء وأخمد الأصوات. ومع ذلك، في أعماق هذا السكون، سُمِع وقع خطواتٍ منتظمة—ناعمة، رتيبة، لا تنقطع.
وكان آشر يسمعها بوضوح.
عشرة من فرسان العاصفة المدرعين درعًا فولاذيًا ساروا في أزواجٍ فوق السطح الأعلى. ورغم انضباطهم، إلا أن أعينهم كانت تنجذب رغماً عنهم نحو ذلك الرجل الواقف أمامهم.
هناك، وحيدًا وسط الضباب الصباحي، وقف آشر—شَعرُه الأبيض يتدلّى على جبهته، صدره العاري يقطر عرقًا يتبخر في الهواء البارد.
كان ما يزال يتدرّب.
لمدة شهرين كاملين، رأوه كل يومٍ في المكان ذاته، يلوّح بسيفه بلا توقف. نفس الإيقاع: ضربة عمودية، أفقية، ثم مائلة. مرارًا وتكرارًا، ليلًا ونهارًا.
لم يأخذ سوى أسبوعٍ واحدٍ من الراحة منذ بدء الرحلة.
ومع ذلك، لم يستطع أحدهم أن يصرف بصره عنه.
فهو سيدهم—لا تُقيّده رتبة، ولا يفرض عليه أحد أمرًا. لا قانون يُلزمه، ولا قائد يُملي عليه أوامره، ومع ذلك استمرّ.
تساءلوا بصمت: ما الذي يحاول قطعه؟
الضربات متشابهة، لكنهم شعروا أن شيئًا ما يتغيّر في كل مرة—ميلانٌ أدقّ، ثقلٌ أعمق، صدى أقوى في الريح.
ثم فجأةً… انكسر السكون.
دوى بوقٌ طويلٌ عميق من أعلى السفينة، صوته يتردد عبر البحر كصرخة مخلوقٍ قديم. تجمّد الجنود، لكن قبل أن ينطق أحدهم، دوّى بوقٌ آخر من الضباب المقابل.
إشارة.
من عدو؟
توقف سيف آشر في منتصف الحركة. خفّضه ببطء، وحدّق في الضباب بعينين حادتين. خرج نَفَسه هادئًا، يتكثف كضبابٍ أمام وجهه. انعكس ضوءٌ باهت على نصله.
حدّق آشر أكثر.
في تلك اللحظة، اخترق بصره الضباب كما يخترق السيف الحرير، فرأى خمس سفنٍ تخرج من العتمة الرمادية. أشرعتها سوداء، تتوسطها جمجمة بيضاء باهتة—راية مملكة القراصنة "إيفرارد".
تحرّك الجنود على متنها بسرعة، أقواسٌ تُسحب، وأسهمٌ تشتعل أطرافها بالنار استعدادًا لوابلٍ من اللهب.
تمتم آشر بصوتٍ باردٍ رزين:
"مملكةٌ من القراصنة… بدت فكرةً سخيفة، ومع ذلك ها هي أمامنا."
خلفه، دوّى وقع خطواتٍ ثقيلة. كان إيغون يتقدّم ببطءٍ، محاطًا بعشرات فرسان العاصفة في دروعٍ فضية. كان درعه الذهبي يتلألأ وسط الضباب كفجرٍ ثانٍ، وخطواته تحمل صلابة الحديد.
توقف على بعد مترين من آشر وانحنى باحترام:
"سيدي—!"
لكن قبل أن يُكمل، انطلقت سهمٌ ناري من الضباب.
مدّ آشر يده والتقطه في منتصف الهواء. خمد اللهيب بين أصابعه، ولم يرمِ حتى نظرةً نحوه.
قال بهدوءٍ مميت:
"أغرقوهم."
انحنى إيغون أعمق، واستدار بخطوةٍ حازمة:
"جهّزوا منجنيقات رؤوس التنانين!"
تحرك فرسان العاصفة بانضباطٍ مطلق، تترسوا بدروعهم فوق رؤوسهم بينما تساقط أول وابلٍ من الأسهم النارية بلا جدوى.
في أعلى السفينة، دارت العجلات الثقيلة مع أنينٍ معدنيٍّ مهيب، لتُسحب منجنيقات رؤوس التنانين إلى المقدمة. كل واحدةٍ منها سلاح حصارٍ عملاق، تحمل مقذوفاتٍ بطول مترين، رؤوسها منقوشة برموزٍ متوهجة بالحرارة القاتلة.
رؤوس المقذوفات كانت على شكل أفواه تنانينٍ غاضبة، تُطلق ألسنة اللهب عند الارتطام.
صرخ إيغون:
"استعدوا للإطلاق!"
على الجانب الآخر، وقف سيدريك قائد أسطول القراصنة، يلوّح معطفه الأحمر بفعل الرياح، ندبةٌ غائرة تمتد من حاجبه حتى ذقنه. صدره العاري مغطى بندوبٍ لا تُحصى—كل واحدةٍ منها حكاية نجاة.
لكن القلق تسرّب إلى قلبه.
"لماذا لم تُشعل الأسهم نيرانها؟ ما الذي نواجهه بالضبط؟"
قبل أن يتلقى إجابة، اهتزت السفينة إلى جانبه بعنفٍ مروّع.
كراك—بوووم!
أربعة مقذوفاتٍ ضخمة اخترقت جسد السفينة، فتمزقت ألواحها كما لو كانت ورقًا. في اللحظة التالية، انفجرت الرموز على رؤوس المقذوفات بوميضٍ جهنميٍّ هائل.
بوووم!
التهمت النيران السطح، وانفجرت السفينة في كرةٍ من اللهب والدخان، تتناثر الأشلاء والناس في البحر المتجمد وهم يصرخون. ارتجّت السفن المجاورة، وسرى الذعر بين صفوف القراصنة كالنار في الهشيم.
اتسعت عينا سيدريك، صوته يختنق بين صدمةٍ ورعب:
"ما هذا بحق السماء—"
لكن لم يُتح له إكمال جملته، إذ اخترقت المزيد من المقذوفات الضباب، مدمّرة السفن الواحدة تلو الأخرى. تحوّل الأسطول الذي كان فخر "إيفرارد" إلى رمادٍ وحطامٍ عائمٍ في غضون لحظات.
لم يبقَ سوى سفينةٍ واحدة.
سفينة سيدريك.
حبس أنفاسه وهو يشاهد السفينة الأخيرة إلى جواره تنفجر، تتطاير شظاياها وتحترق أعمدتها. اجتاحه اللهيب والحرارة، فترنّح مع طاقمه المرتجف بين رغبةٍ في القتال والهروب.
ارتعشت حدقتاه.
ثم انشقّ الضباب.
لا—بل تُمزّق بفعل الظلّ القادم.
خرج الوحش العملاق من بين الجليد والحطام، هيكلٌ خشبيٌّ ومعدنيٌّ هائل، أشبه بكائنٍ أسطوريٍّ يجرّ مملكةً فوق ظهره.
رفع سيدريك رأسه… ثم أكثر… حتى اصطدمت عيناه بمستوى السطح الأعلى.
وهناك رآهم.
عشرات من منجنيقات رؤوس التنانين مصطفّة بصمتٍ مهيب، أفواهها المتوهجة موجهة نحوه مباشرة. كل واحدةٍ منها تحمل مقذوفًا أعرض من جسد رجلٍ كامل، تتوهج رموزه بحرارةٍ تحرق الهواء البارد.
خرج نفسٌ مرتجف من بين شفتيه.
"…وحوش."
لم يكونوا قراصنة، ولا سادة أرض.
لقد كانوا شيئًا آخر تمامًا.
وفي تلك اللحظة، ومع هبوب الرياح وخرس البحر، تذوّق سيدريك ما لم يعرفه قادة "إيفرارد" من قبل—
الرعب.