متخفّيَين تحت عباءتين بسيطتين كالفلاحين، كان رجلان يسيران بهدوء في شوارع مدينة أنتيوخ.
منذ أن عبر بوابتها، أدرك آشر الحقيقة—لم تكن هذه مدينة منقسمة بين الأغنياء والفقراء… بل بين الأحرار والعبيد.
لم يكن هناك فقير أو ثريّ بحق، بل مظلوم وسَيِّد.
رجال ونساء وحتى أطفال يسيرون كالقطعان، بعضهم بثيابٍ ممزقة، وبعضهم بملابس نظيفة على نحوٍ غريب، لكن جميعهم يتشاركون شيئًا واحدًا: أطواقٌ حديدية حول أعناقهم، تصدر رنينًا في كل خطوة. بعضهم يُقاد بالحبال، وبعضهم يمشي مطأطئ الرأس خلف أسياده. لم يكونوا مواطنين… بل ممتلكات.
كان آشر قد سمع الحكايات من قبل. سمع الهمسات التي تصف "إيفرارد" بأنها أرض المجد والثراء—لامعة من الخارج، متعفّنة في الداخل. لكن لا شيء من تلك القصص كان كافيًا ليُعدّه لما يراه الآن. الحقيقة كانت أبشع بكثير.
ومع ذلك ظلّت عيناه باردتين، خاليتين من أي تعبير، وواصل السير دون أن يتوقف.
حتى اخترق صراخٌ قاسٍ ضجيج الشوارع.
التفت آشر، وتقدّم بهدوء نحو حشدٍ تجمع في زاوية زقاقٍ مرصوفٍ بالحجر.
"أيتها القذرة الحقيرة! كان عليكِ أن تخدمي اللورد فولكان!" صرخ أحد الرجال وهو يُهوِي بسوطه في الهواء. ارتفع صراخ فتاةٍ صغيرة بينما شقّ الجلد اللحم، وجسدها يرتعش راكعًا على الحجارة.
ثيابها كانت ممزقة، وجسدها مغطى بالكدمات والجروح—عقابٌ واضح المعالم.
حاولت الزحف بعيدًا، لكن رجلين أمسكا بها أرضًا كأنها حيوانٌ بري.
توقف آشر عن السير. ضاقت حدقتاه، وتجمّد نَفَسه.
كانت هي.
ابنة البارون جوزيف.
الفتاة الوديعة التي انحنت بخجلٍ حين عاد من أراضي عائلة "إل". فتاة نبيلة… من أشبورن.
قال أحد الرجال ساخرًا: "سمعت أنها كانت نبيلة من مكانٍ يُدعى أشبورن."
ضحك آخر وهو يرمقها بعينٍ قذرة: "أشبورن؟ لم أسمع به قط."
ارتجف نيرو الذي كان خلف آشر من شدّة الغضب، قبضتاه تشدّان على بعضهما حتى ابيضّت مفاصله، وأسنانُه تصطكّ حتى شعر بطعم الدم.
أما آشر؟ فقد استدار ومشى بعيدًا.
بصمتٍ تام، وببرودٍ قاسٍ، وكأنه لم يتوقف أصلًا.
قادته خطواته إلى جدار الأسماء العظيم—نُصبٍ حجريٍّ كُتبت عليه أسماء الآلاف الذين ماتوا مصلوبين. كانت الأسماء كثيرة إلى درجةٍ لم تعد المساحة تكفيها. عبيد. أرواح منسية.
وهناك، وقعت عيناه على رجلٍ صُلب بينهم.
جوزيف.
بارون. سيد أرض. رجلٌ لم يمت في معركةٍ ولا دفاعًا عن شرفه، بل مصلوبًا كعبرةٍ للآخرين.
أغلق آشر عينيه للحظة.
"سيدي، اسمح لي—!" تمتم نيرو، صوته يرتجف من الغضب المكبوت.
لكن آشر قال بهدوءٍ صارمٍ لا يقبل النقاش:
"لا."
اخترقت الكلمة الهواء كالسيف، قاطعةً كل احتجاج.
من حولهما، واصلَت المدينة نبضها المشوّه—صرخات، بكاء، ضحكاتٍ مريضة. عبيد يُباعون كالسلع، بعضهم يُغتصَب علنًا، وآخرون محبوسون في أقفاصٍ حديدية كالحيوانات.
نساءٌ بسلاسل تُعرض أجسادهن في المزادات لإشباع شهوات الرجال.
رجالٌ يُجردون من ثيابهم ويُوسمون بالنار ليُباعوا كمقاتلين في حلبات الدم أو عُمّال حتى الموت.
رفع آشر بصره إلى السماء.
وسط هذا القذر والعفن والفساد، أخذ نفسًا عميقًا وقال:
"حين اعتليتُ عرش أشبورن، أقسمتُ قَسَمًا. أقسمتُ أن لا يُقيَّد أحدٌ تحت رايتي بسلاسل. أقسمتُ أن أحميهم."
أخفض رأسه، واشتعلت عيناه الذهبيتان تحت الظلال بوهجٍ باردٍ حادٍّ كالنصل.
"لقد خذلتهم."
ثم دار بخطواتٍ ثابتة، لا تراجع فيها.
"لكننا…"
صوته ازداد عمقًا وهو يمشي، ونيرو يتبعه في صمت، مدركًا ما تعنيه كلماته التالية.
"…لن نخفق في الانتقام لهم."
….
بعد وقتٍ قصير، كان براكسِن يسترخي في قاعةٍ فخمة يملأها البخور وضحكاتٌ زائفة.
انعكست أشعة الشمس على كأسه الذهبية بينما تتحرك الجواري بين الضيوف، وابتساماتهن المزيّفة مرسومة بإتقان—فإن لم تُبدِ إحداهن سعادةً مصطنعة، عوقِبَت بشراسة.
رفع براكسِن كأسه وهو يضحك بصوتٍ أجش:
"نخبٌ أيها السادة!" قال بصوتٍ زيتيٍّ متملق. "إلى ستة آلاف رجل اشتريتموهم! لِيمنحكم الإله الأعمى النصر في حربكم ضد مملكتي نايتفاير وسيلفرمون!"
توقف لحظة، وعيناه تلمعان بالطمع:
"ولا تنسوا اتفاقنا—بعوا لي أسراكم. فرسان الموت لا يُهزمون، لكن دائمًا هناك نبلاء ينجون. وسعرهم مرتفع جدًا. نقسّم الذهب مناصفة، ما رأيكم؟"
لكن قبل أن يُجيب أحد، دوّى بوقٌ عميق عبر القاعة—منخفضٌ، ثقيل، ومقلق. اهتزّ الأرض من تحته اهتزازًا خفيفًا لكنه لا يُخطئ.
تجمّد الضيوف.
اختفت ابتسامة براكسِن، وعاد الصوت ثانية—هذه المرة أقرب.
نهض بسرعة، واتجه إلى الشرفة يتبعه ضيوفه وقد تسلّل القلق إلى ملامحهم. لم يكتفِ بذلك، بل هرع إلى جدار المدينة نفسه.
وحين وصل، شحب وجهه.
فوق الأفق، ظهرت صفوفٌ من الفرسان المدرعين بدروعٍ فضية تلمع كالمرآة تحت الشمس، ترفرف فوقهم عباءات بيضاء. إنهم فرسان العاصفة.
صفوفٌ بعد صفوف من الجنود يسيرون بخطى ثابتة، بانتظامٍ رهيبٍ يُرعب القلب. لم يكن في سيرهم عجلة… بل يقين.
ضاقت عينا براكسِن، محاولًا تقدير عددهم لكنه فشل، كل ما رآه هو نظامٌ عسكريٌّ محكم لا يصدر إلا من جيوشٍ نخبوية. بدأ قلبه ينبض بسرعة.
"لا… من يجرؤ…" تمتم بصوتٍ واهن.
لم تكن هذه عرض قوة.
بل كانت إعلان حرب.
صرخ مذعورًا:
"من هؤلاء؟!"
في مقدمة الجيش، وقف ستة أشخاص يرتدون أردية طويلة. سكونٌ تام. ثم، كجسدٍ واحد، رفعوا عصيّهم السحرية وبدؤوا بالترتيل.
تدفّقت الطاقة عبر الميدان كموجةٍ متصاعدة، ثم—بوووم!
تحوّل جزءٌ من جدار المدينة إلى كتلةٍ حمراء متوهجة قبل أن يذوب ويسقط كشمعةٍ منصهرة.
تراجع الضيوف مذعورين.
واتسعت عينا براكسِن حتى كادتا تخرجان من محجريهما:
"سحرة من الرتبة المقدّسة؟! الستة جميعًا؟!" نادرًا ما تمتلك مملكة مثل "إيفرارد" قوة كهذه.
لكن الخوف الحقيقي لم يبدأ بعد.
فقد خرجت من بوابات المدينة الداخلية كلاب الحرب—جنود إيفرارد النخبة، عبيدٌ صُنِعوا من الدم والحديد. كان كل واحدٍ منهم على الأقل في الرتبة الماسية، وبعضهم أعلى من ذلك. تألقت سيوفهم المقوسة تحت الشمس بينما اصطفّوا في الشارع الرئيسي.
خلفهم دُفعت المقاليع إلى مواقعها قرب الجدار المنصهر، وبدأ الطاقم في تجهيزها على عجل.
ثم جاء الصوت.
مضخّمٌ بالسحر، باردٌ وواضح.
"يا أهل أنتيوخ!"
"كل من يحمل قيدًا حول عنقه—ابقَ مكانك تُعفَ عنك. تحرّك… وستُقتل."
دوّت الكلمات في كل زقاقٍ، وكل سوقٍ، وكل حيّ فقير. تبعتها صمتٌ ثقيل سحق حتى الهواء نفسه.
ثم—
تحرّك فرسان العاصفة. دروعٌ مرفوعة. أسلحةٌ مسلولة.
اهتزّت الأرض تحت أقدامهم.
ارتجفت يدا براكسِن وهو يتشبث بسور المدينة صارخًا بجنون:
"اقتلوا هؤلاء المجانين! أطلقوا النار!"
انطلقت السهام، وصاحت المقاليع، لكن فرسان العاصفة ظلّوا يتقدّمون ببطءٍ لا يُقهر، دروعهم متشابكة فوق رؤوسهم كجدارٍ من الفولاذ الفضيّ.