صوت آرون اخترق سكون الليل كصدى جرسٍ بعيد، هادئًا لكنه يحمل خلف طبقاته سخرية خفية:
"اللورد آشر… يا لها من متعة أن ألتقي بك أخيرًا، رغم أن الظروف ليست مثالية تمامًا."
أوقف حصانه الأبيض على حافة الغابة، أنفاس الفرس تتجمد في الهواء البارد. خلفه، وقفت صفوف فرسانه كتماثيل من الفولاذ، دروعهم تلتقط وهج النيران القادمة من المشاعل البعيدة.
الهواء بين الجيشين كان ثقيلاً… مشحونًا بما يمكن أن ينفجر في أي لحظة.
تفحص آرون المستوطنة أمامه، فارتجفت حاجباه قليلاً.
جدار.
لكن ليس أي جدار.
تسعة أمتار ارتفاعًا، مصنوع من جذوع متشابكة سميكة كالأشجار، مدعّمة بالحديد، تتوّجها منصات دفاعية. سطحه يحمل آثار البناء الحديث، لكنه بدا كهيكل صمد لعقود. متين. شامخ. متحدٍّ.
والبوابة—مزدوجة المفصلات، مشدودة بالحديد ومثبتة بعوارض عملاقة—كانت كافية لصد دكاك الحصار.
تأمل آرون بدهشة خفية.
كيف؟
المستوطنة لم يمضِ على تأسيسها سوى أيام. كان يفترض أن تكون مجرد بيوت متناثرة وجدران واهنة وعدد محدود من الرجال.
لكن ما أمامه الآن حصن متكامل التنظيم.
قلعة نابضة بالاستعداد والانضباط.
لم يكن لذلك تفسير منطقي.
إلا إذا كانت الشائعات صحيحة.
لأسابيع، كان يسخر من تلك القصص.
آشر البنّاء، كما يسمونه. قالوا إنه يبني المدن كما يتنفس الآخرون. وأن قلاعًا تطفو في السماء، وطرقات تمتد لأميال، وحصونًا تظهر بين ليلة وضحاها. هراء، ظنه.
لكن بعد أن رأى هذا بعينيه…
هل كان هذا مجرد براعة هندسية؟ خدعة بصرية؟ أم شيئًا يتجاوز حدود البشر؟
رفع نظره نحو الرجل ذي الشعر الأبيض على الجدار—عينيه جليد، وهيئته صخر.
قال آرون بصوت يحمل الاحترام رغم كبريائه:
"سمعت قصصًا عنك، يا لورد آشر. يقولون إنك تبني المدن كما يتنفس الآخرون… أن القلاع تزدهر حيث تمر يداك."
ضحك بخفة، دون ابتسامة حقيقية، مشيرًا بسيفه الذهبي نحو السماء:
"والآن أتساءل… هل تلك الجزيرة العائمة دائمًا كانت هناك؟ أم أنها أيضًا من صنعك؟"
لم يرد آشر.
وجهه كان جامدًا كالحجر، لا يُقرأ فيه شيء. ضوء المشاعل يرسم ظلالًا حادة على قسماته.
رأى بعينيه كيف قطع آرون رأس أحد المراقبين بلا تردد. والآخر؟ لا شك أنه لقي المصير نفسه.
رجال شرفاء… ذُبحوا بلا شرف.
تصلب فك آشر، والغضب يتصاعد خلف عينيه كعاصفة على وشك الانفجار.
قال ريول، الذي تقدم بجانبه، بصوت حاد كالنصل:
"سمعت أنك لم تخسر معركة قط. مجرد دوق مجنون… ذبح الملايين بدم بارد."
نظرة آشر نحوه كانت باردة كالجليد:
"أهكذا يقولون؟"
وفجأة، تلألأت عينا ريول بضوء غريب… قزحي، زاحف كالثعبان. وانقلب العالم.
لم يعد آشر واقفًا على الجدار.
بل غارقًا في بحيرة سوداء بلا قاع.
الظلام ابتلعه.
رئتاه تحترقان. فقاعات الهواء تتصاعد من فمه، تلمع كأشباح فضية… لكنه يغوص أعمق. أسرع.
ركل. قاوم.
لكن أطرافه اختفت.
ذراعاه… رحلتا.
جسده يطفو كجثة ميتة في جليد أبدي.
الصمت يصرخ حوله، أعلى من أي حرب.
لا هواء. لا مخرج.
إنه يحتضر.
ضربة!
في الواقع، سقط آشر على ركبته، يلهث دون أن يجد هواء. وجهه احمرّ، عروقه تنتفخ، ويده تمسك صدره بألم.
صرخ نيرو: "مولاي!" واندفع نحوه، ممسكًا به قبل أن يسقط.
"تمسك بي، مولاي!"
لكن عيني آشر كانتا شاردتين… غائبتين.
ابتسم ريول، ناظراً نحوه كصياد يراقب فريسته.
"هل أقتله؟" سأل بهدوء.
ضحك آرون: "افعلها."
اشتدت إضاءة عيني ريول، تومضان كشمسين صغيرتين.
وتبدل المشهد من جديد.
الآن كان آشر على منصة حجرية عالية، فوق هاوية من الصراخ الصامت.
يداه مقيدتان بسلاسل دامية تتنفس كالعروق، ومسامير حديدية تخترق ركبتيه وكتفيه وعموده، معلقة جسده كذبيحة على الصليب.
شعره مبلل بالدماء، وجهه غارق في العذاب.
نظر للأسفل…
ورأى ولديه.
بشرتهم باهتة. باردة.
ثقوب دامية في صدورهم الصغيرة، قلوبهم ممزقة.
وبجانبهم… سافيرا.
جسد متفحم، أصابعها ممدودة نحو الطفلين حتى بعد موتها. شفتيها متجمدتان على صرخة لم تكتمل.
قلب آشر انكسر.
روحه صرخت.
لكن صوته خُنق في حلقه.
دمعة سقطت من عينه اليمنى.
خلفه، رفع الجلاد فأسًا ضخمة تلمع بلون الدم.
انشق الهواء مع نزولها.
لكن—
ضوء!
اشتعلت عينا آشر.
شعلتان ذهبيتان انطلقتا من داخله، كأن النار اشتعلت خلف جفونه.
وبقوة لا تُصدق، سحب ذراعه.
تَحَطَّمَت السلاسل!
تصدع الحديد كأنه زجاج.
وانطلقت قبضته لتضرب فأس الجلاد، فحطمتها بضربة واحدة.
قبل أن يلتقط الجلاد أنفاسه، قبض آشر على عنقه بيده العارية، كملقط حديدي يحمل المعدن المنصهر.
رفعه بيد واحدة، ثم صرخ غضبًا كملكٍ منتقم—وسحقه في الأرض.
انفجر الحجر. تطاير الدم. تفتت العظم.
لم يبقَ من الرجل إلا كتلة من اللحم والعظام المطحونة.
وقف آشر، ظهره مستقيم كوترٍ مشدود.
رأسه التفت بحدة.
وعيناه… كانتا الحكم.
تجمد وجه ريول، الغرور تلاشى، والخوف احتل مكانه.
خطوة… خطوتان…
آشر ركض.
مع كل خطوة، انهارت الوهم.
الأسير اختفى.
والسيد عاد.
درع رمادي براق، درع ليفياثان، سيفه الطويل يهدر بطاقة لا تهدأ، درعه الأيسر كالقلعة، ووجهه… كالغضب المتجسد.
ريول تراجع مرتعشًا، يده تبحث عن سلاحٍ لم يعد يملك الشجاعة لرفعه.
فات الأوان.
قفز آشر.
وهبط كالصاعقة.
وغرس سيفه في عين ريول اليمنى.
"آآآآآه!"
انهار الوهم.
عادوا إلى العالم الحقيقي.
تحت ضوء المشاعل، كان ريول يصرخ، يضغط على عينه النازفة، الدم يلوث الأرض تحته.
آشر واقف، صدره يعلو ويهبط.
حيّ.
مستيقظ.
متحوِّل.
قال بصوت أجش، غاضب كالرعد:
"أيها الملك المجنون… سأنتزع رأسك. أقسم أني سأفعل!"
بووووم!
هبط آشر من فوق الجدار، الأرض تهتز تحت قدميه. الهواء نفسه تموج.
انفتحت البوابات.
وخلفها رجاله.
سيوفهم مسلولة.
نظراتهم حادة.
لا كلمات. لا تردد.
كلهم مستعدون للموت والدم.
ارتعد حصان آرون، شهق بخوفٍ غريزي.
ليس من الصوت… بل من الهيبة.
من آشر.
غضبه فاض كجرح مفتوح في العالم.
انخفضت الحرارة.
ثم… تساقط الثلج.
لكن آرون عرف.
لم يكن هذا ثلج السماء.
بل ثلج الأرض.
الأرض ذاتها تجمدت من غضبه.
ارتفعت الصخور من التربة، بعضها يحوم في الهواء كأطيافٍ صامتة.
همس آرون، وصوته يرتجف بالخوف:
"هو… هو تَخَطّى الحدود…"
لقد كسر السقف.
لقد دخل مستوى آخر.
آشر… استيقظ حقًا.