كانت هناك أربع مراتب سامية في عالم المستيقظين، وكل مرتبة تمثل خطوة نحو القمة، وابتعادًا أكبر عن حدود البشر.

المرتبة الأولى كانت الأسطورية. في هذا المستوى، تصبح إرادة الفرد، وهوسه، أو رغبته اللامحدودة قوة تشكّل عالمًا داخل ذاته — عالماً داخليًا قوياً لدرجة أنه يبدأ بالتأثير في قوانين الواقع نفسه. يمكن للنار أن تشتعل بلا وقود، وللفولاذ أن ينحني أمام الإرادة. إنهم أناس تتشوه الحقيقة أمام حقيقتهم الداخلية.

لكن المرتبة الثانية كانت أكثر غرابة — المرتبة الخرافية.

فيها لا يؤثر العالم الداخلي على الواقع فحسب، بل يتداخل معه.

عالمهم يتسرب إلى الوجود، يحوّل ساحة المعركة إلى تجلٍّ لروحهم ذاتها. الأرض، السماء، الجاذبية — كل شيء ينحني تحت ثقل أرواحهم.

ثم تأتي الثالثة: المرتبة الأثيرية.

في هذا المستوى يصبح الزمان والمكان مرنين، ولا يمكن لأي إنسان عادي أن يضاهيهم. تتحرك أجسادهم خارج حدود المنطق، وتأتي ضرباتهم من أماكن لا يمكن التنبؤ بها. إنهم يسيرون خارج العالم رغم أنهم يقفون بداخله.

أما المرتبة الأخيرة، والأكثر غموضًا — فهي القمة.

لم يصل إليها أحد قط. لا سجلات، لا دليل، لا رواية من ناجٍ. مجرد همس يتوارثه الأجيال، أسطورة منسوجة على أطراف الأحلام.

ما شكل تلك القمة التي لا يُطالها أحد؟

بالنسبة لآرون، كانت مجرد خرافة — قصة تُروى للأطفال ولأصحاب الأحلام حتى يظلوا يسعون وراء قمة لا وجود لها.

لكن الآن...

كان يقف أمام مستيقظ في المرتبة الخرافية، لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره. رجل يحتوي عالمه الداخلي على مجالين من العناصر: الثلج والجاذبية. وهذا أمر لا يُعقل.

ارتجفت حدقتا آرون.

ما أخافه لم يكن آشر الحاضر — بل آشر الغد. ذاك القادم الحتمي، المستقبل الذي سيفترسهم جميعًا إن تُرك حرًا.

ربما لم تكن القمة حقيقية...

لكن هذا الرجل قد يجعلها كذلك.

عليه أن يموت — الآن.

تصلب ذهن آرون.

انفجرت قوته فجأة، ملوثة الهواء حوله بضغط وحرارة خانقة. اشتعلت عينه اليمنى — لا بلهيب أحمر أو أزرق، بل بسواد باهت، لون الفراغ والدمار، تحيط بها خيوط بيضاء من الدخان تتلوى كالأشباح.

فوقه، تأوهت السماء — ثم انشقّت لتكشف عن عين عملاقة حمراء، كجرح في السماء، تحدق إلى الأرض ككائن قديم استيقظ من نومه.

تسلّط بصرها على كل شيء، غامرة الأرض بضوء قرمزي كثيف امتد في دائرة هائلة. تبخّر الثلج تحت قدمي آرون، وتفتتت الصخور العائمة التي رفعها مجال جاذبية آشر.

اصطدم العالمان الداخليان — الثلج والجاذبية ضد الخوف والفساد.

اهتزت ساحة المعركة، محصورة بين سلطتين لا ينبغي أن تجتمعا.

تحرك آشر أولاً.

صرخة وحشية انطلقت من صدره وهو يندفع للأمام. انغرست قدماه في الثلج، ونفَسُه تحول إلى بخار. عيونه مقفلة على خصميه الراكبين نحوه.

اصطدم الفولاذ بصوت معدني مدوٍ.

انحنى آشر فجأة، سحب نفسه إلى الأرض، وانزلق على ركبته، لتفوته السيوف التي مرت فوقه بشبر واحد فقط. وفي حركة واحدة، أطلق ضربة أفقية حادة.

صرخت الخيول وسقطت، مقطوعة الأرجل، وانهار فارساها وسط انفجار من الثلج.

لكن آشر لم يتوقف.

حتى أثناء سقوط الأجساد، تفجرت من الأرض خلفه رماح جليدية ضخمة انطلقت نحو الرجلين.

أحدها أصاب هدفه — اخترق جسد آرون مباشرة.

أما روييل فنجا بأعجوبة، إذ انحرف جسده قليلًا، فجرحته الرمح الجليدية في جانبه فقط.

لم يصرخ آرون — بل ضحك.

تحطم الجليد داخله، وجسده اهتز بطاقة غريبة. أُغلق الجرح بسرعة غير طبيعية، كأنه لم يكن موجودًا أصلًا.

غلفت جسده طبقة قرمزية من النقوش المتوهجة، شعره الذهبي ازداد طولًا، ووجهه صار حادًا كالنصل، ونظراته أكثر برودة من الموت. لم ينسكب منه دم، كأنه لا يملك دمًا أصلًا.

وقف بهدوء مريب وقال بابتسامة مجنونة:

"ستنتهي الليلة يا آشر."

قبل أن يتحرك آشر، اجتاحه شعور قاتل بالخطر.

رفع درعه خلفه بسرعة غريزية —

طـنـان!

اندفعت الشرر من الاصطدام. كان روييل خلفه، هاجم بصمت، وضربته كانت قوية بما يكفي لشق درع آشر تقريبًا.

رفع آشر عينيه — يرى الشرخ العميق في درعه، علامة على قوة غير بشرية.

ومن الأعلى —

نزل آرون.

ومن الأمام — عاد روييل، يندفع كطيف يقطع الزمان.

في لحظة واحدة، سيصلان إليه.

تحركت غريزة آشر بسرعة تفوق التفكير.

اندفع جانبًا، والثلج يتطاير حوله كألسنة لهب بيضاء، وبينما يتحرك، أطلق قوسًا هائلًا من طاقة النصل خلفه، قطع الهواء كسيف عاصف.

أصابت الموجة روييل مباشرة، فقذفته للخلف مئات الأمتار، تاركة خلفه أخدودين عميقين في الثلج.

أما آرون فلم يتحرك.

لكنه نُصِف إلى قسمين تقريبًا.

جرح هائل شقّ بطنه — لكنه لم ينزف.

الجرح أُغلق، كأنه لم يحدث قط.

عاد صوت المعركة إلى آذان آشر —

صليل السيوف، صرخات الرجال، حوافر الخيول، والثلج الملطخ بالدماء.

لكن كل ذلك بدا بعيدًا...

وصوت آرون تسلل إلى سمعه كسمّ بارد:

"كيف تشعر الآن، أيها اللورد آشر؟ لا مكان تهرب إليه، لا جيش، لا عون."

لكن قبل أن يُكمل، كان آشر أمامه، بسرعة البرق، وضرباته تندمج بالريح.

اصطدمت السيوف، وانفجرت موجة هائلة من القوة، فارتفع الثلج كعاصفة. اقترب آشر أكثر، وسدد ضربة كوع مباشرة إلى وجه آرون، تزامنت مع ضربة أخرى من تجليّ "كيروس"، تجسده القتالي.

تحطم وجه آرون — لكنه لم يسقط.

قبض على معطف آشر بكلتا يديه، ورفع جسده الهائل ثم رماه بقوة جعلته يطير عبر الثلج، محطمًا الأشجار والصخور حتى اصطدم بجدار مدينة "وايتوود" فاهتزت الأرض.

قفز آرون خلفه، قدماه تتوهجان باللونين الأحمر والأسود، وحين هبط —

بوووم!

انفجرت الأرض في دائرة قطرها مئات الأمتار، وتشققت التربة كما لو أن قوة سماوية سحقتها.

لكن قبل أن يلتقط أنفاسه، اصطدم وجهه بدرع معدني مدوٍ، صفعه بقوة هائلة.

ترنح آرون للخلف —

ومن بين الضباب خرج آشر، عينيه تتوهجان كجمرتين ذهبيتين، وصوته مبحوح بالعزم والدم.

التقت سيوفهما مرة أخرى، وهذه المرة ظهر روييل، ابتسامة باردة على وجهه.

قال بهدوء سامّ:

"هل نسيت وجودي؟"

كانت عيناه تتوهجان بجمال غريب — جمال سامّ يشبه زهرة قاتلة تتفتح.

ابتسم بثقة، ظانًا أن قدرته الخاصة قد بدأت تعمل، لتقيد وعي آشر وتشلّ حركته.

لكن شيئًا ما كان خطأ.

بدلًا من أن يرى نظرة ضبابية في عيني آشر — وجد كفه تمسك وجهه بقوة رهيبة.

ولم يسمع سوى زئير بدائي قبل أن يُسحق رأسه في الأرض.

الأرض اهتزت، وتناثرت الثلوج حولهما كالعاصفة.

لم تمضِ لحظة حتى كان آرون فوقهما، سيفه يشق الهواء، فقطع ذراع آشر وغرس النصل في بطنه.

رفع جسده المثخن بالجراح في الهواء، والدم يتساقط على الثلج.

لكن فجأة، تغير كل شيء.

انبعثت قوة الجاذبية من جسد آشر، سحبته إلى الأرض، والسيف لا يزال مغروسًا فيه — ومع ذلك، وقف.

رفع رأسه ببطء، عيناه اشتعلتا بالضوء الأبيض، لا ذهبيًا بعد الآن، بل نقيًا كالبرق، خالٍ من البشرية.

أنفاسه خرجت عميقة، ثقيلة، كزئير ذئب جريح يرفض الموت.

في أعالي الأشجار، اختبأت مجموعة من السحرة يراقبون بصمت. كانت نِفِس بينهم، تحدق ببرود إلى المشهد، وعيناها تتابعان الرجل الملطخ بالدماء الذي لا يريد أن يسقط.

قالت بصوت بارد:

"ذئب على آخر أنفاسه."

2025/10/23 · 21 مشاهدة · 1039 كلمة
Rose
نادي الروايات - 2025