عندما وضع آشر الخوذة على رأسه، اندفع نبض غريب في جسده، كأنه تغيّر في نَفَس العالم نفسه، وتحوّلت الطبيعة حوله كما لو أن الواقع أعاد تشكيل ذاته.
في اللحظة التي استقر فيها التاج على رأسه، التوت الحقيقة.
أصبحت الأجواء أثقل، وانجلى الضباب الذي كان يغلف قمة التلّ بهبّة ريح غير طبيعية — ريح لا تعوي، بل تهمس كأنها أنفاس كيانٍ قديمٍ يراقب من وراء الزمن.
السماء فوقه أظلمت، كأن النهار خُنق بيد الليل.
ثم حدث الانفجار —
تَصَدّعَت السماء.
تحطّمت كمرآةٍ ضُربت بمطرقة، لكنّ الشظايا لم تسقط… بل ارتفعت، تصعد إلى الأعلى كما لو أن الجاذبية انقلبت رأسًا على عقب.
ومن خلف تلك السماء الممزقة، ظهر كيان هائل — مرعب — مقلوب.
بركان مقلوب.
كان يعلّق في الفراغ فوقهم، أنهاره الحمراء تصعد نحو العدم. النور القرمزي غمر الأفق، يرسم ظلالًا طويلة على الأرض أدناه.
كل شيء بدا… غريبًا، كأنه مشهد من عالمٍ آخر.
ثم بدأ الاهتزاز.
طَخ... طَخ...
اهتزت الأرض تحت قدمي آشر، وخرجوا من الجهات الأربع.
عمالقة — لكن ليسوا كأي عمالقة رآهم من قبل.
طول الواحد منهم تجاوز الاثني عشر مترًا، خطواتهم وحدها كافية لجعل الجبال ترتعد.
بشرتهم زرقاء داكنة كالياقوت المتجمد، يلبسون دروعًا من الجلد والسلاسل، منقوشة برموز لغةٍ طُمست منذ العصور الأولى.
يحمل اثنان منهم فؤوسًا ضخمة بأطراف مزدوجة وتروسًا كافية لحماية قصرٍ كامل، بينما الآخران يمسكان بسيفين منحنيين هائلين يتوهجان بضوءٍ باردٍ غامض.
وجوههم بلا مشاعر، وعيونهم المتلألئة بالأزرق الباهت مثبتة على آشر كأنهم قضاة من أساطير الخلق.
كانوا من “جوتن”، لكنهم لم يكونوا جنودًا — بل أبناء الأصل، حراس الملك الأعظم للعتمة، وسفراء قوةٍ أقدم من الممالك، أقدم من التاريخ نفسه.
أحاطوا بآشر من الجهات الأربع، كما لو أنه يقف في محكمةٍ يحاكمه فيها الآلهة.
صرخ أحدهم بصوتٍ هزّ الهواء:
"أيها الفاني!"
لم يكن صوته مجرد صوت، بل ضغطٌ يجثم على صدره كجبلٍ ينهار.
وقال الثاني:
"أنت أمام ملك الهاوية!"
وأضاف الثالث:
"أقسم بولائك لسيدك الحقيقي!"
وأطلق الرابع من خلفه صوتًا كالرعد:
"اركع!"
اقتربوا جميعًا بخطوةٍ واحدةٍ فقط، ومعها انغلق الدائرة. أسلحتهم الهائلة مرفوعة، وظلّهم وحده كاد يخنق الضوء.
كان آشر أمامهم لا يُرى سوى كذرةٍ صغيرة تحت عاصفةٍ من الجبال.
ضربةٌ واحدة، وكانت لتسحقه كرماد.
لكنّه لم يتحرّك.
بل مال برأسه قليلًا، وعيناه الذهبيتان تتوهجان بتحدٍّ هادئ، وابتسامةٌ خفيفة ترتسم على شفتيه.
قال ببساطة:
"أنا الملك."
كانت الكلمات هادئة… لكنها وقعت في الهواء كضربة سيفٍ على صخر.
صلبة. قاطعة. لا تقبل الجدل.
تقلّصت أعين العمالقة، ورفعوا أسلحتهم معًا.
الفضاء نفسه بدا وكأنه يتشقق تحت ثقل قوتهم، لكن آشر لم يتحرك.
في داخله، حاول الشك أن يتسلل — لكنه خنقه بالإرادة.
الألم صقله، الحرب صقلته، والموت نفسه علّمه كيف يُولَد من جديد.
لم يأتِ ليُذِل رأسه.
لقد جاء ليحكم.
فما حاجته لاختيارٍ سماوي؟
هو سيصنع تاجه بنفسه.
هو السيف، وهو العرش.
هو الملك.
وسيتعلم العالم بأسره هذه الحقيقة.
رفع بصره إلى العمالقة، وصوته يجلجل عبر السهول والجبال:
"أنا آشِر آشْبورن… ملك هذا العالم.
باسم القوة العليا، وباسم ذاتي… آمركم: اركعوا!"
وانفجرت الجاذبية من حوله كعاصفةٍ من طاقةٍ لا تُرى.
ارتطم الضغط بالعمالقة الأربعة دفعة واحدة، فانهارت ركبهم في الأرض، وارتجّ الجليد تحتهم.
لكن آشر لم يكتفِ.
ازدادت القوة — مركّزة، هائلة، لا ترحم.
ثم انحنت رؤوسهم أيضًا، اصطدمت بالجليد كمن يُجبر على السجود أمام سيدٍ لا يُقاوَم.
وقف آشر وسط العاصفة، عروقه تنتفخ، أنفاسه حارّة وثقيلة، ونظر إلى الأربعة الذين جثوا أمامه.
لقد نطق الحكم، والعالم أطاع.
وفي لحظةٍ تالية، وجد نفسه حيث بدأ — على قمة التلّ.
لكن المشهد تغيّر.
كانت سارييل راكعة أمامه، عيناها الزرقاوان واسعتان بدهشةٍ وخوفٍ وإجلالٍ لا إرادي.
أدرك آشر السبب — لم يعد يلمس الأرض.
كان يطفو.
بضع بوصات فقط، لكن ذلك وحده كافٍ ليُشعر كل شيء حوله أنه لم يعد بشريًا.
ثم بدأ يرتفع أكثر، مترًا بعد متر، والثلج يدور حوله كدوامةٍ مقدسة، والريح تخفُت كأنها تُنصت.
ومن السماء، بدأت الشعلات تهبط.
ألواحٌ من المعدن المتوهج، حمراء كالجمر، تنزل بخطوطٍ من النور، تضرب جسده واحدةً تلو الأخرى — لا بقوةٍ قاتلة، بل بعنايةٍ كمن يضع تاجًا على ملكٍ منتظر.
بدأ الدرع يتشكّل.
أسود لامع، عاكس، كأنه يبتلع الضوء من حوله.
ألواحه منقوشة بنقوشٍ تشبه قشور تنّينٍ قديم، تتوهّج عند الحواف بوميضٍ خافت.
ومن كتفيه انسدلت عباءةٌ بيضاء أطرافها تتبخّر كالدخان، تتحرّك كما لو كانت حيّة.
أما الخوذة، فقد ألقت ظلًّا عميقًا على وجهه، تتدلّى خصلات شعره الأبيض من تحتها كسيلٍ من فضةٍ سائلة.
وفي سكون الريح، بدا كأنه لم يعد إنسانًا…
ولا ملكًا فحسب.
بل أسطورة وُلِدت من جديد.
اشتعلت عيناه بالذهب، نقيّة كالشمس، حادة كالقضاء.
رفع رأسه، وصوته دوّى في الفضاء المجمّد كالرعد:
"هل ستنحنين؟"
ارتجف جسد سارييل، وعيناها امتلأتا برعبٍ يشبه العبادة.