على الرغم من أنّه كان قريبًا من البوابة، إلا أنّ اللحظة التي التفت فيها القائد، اتسعت عيناه بدهشة لا تصدق.
من ظلّ الأشجار، اندفع المئات من الجبابرة، وحوش عملاقة مدرّعة بالدروع السوداء الكلسية وعباءات بيضاء متدفقة، كحراس غضب صاغتهم أيادٍ إلهية منسية. عيونهم توهّجت خلف الخوذ، وحجمهم الهائل جعل الأشجار العملاقة تبدو صغيرة مقارنة بهم.
أطلق بعضهم فؤوسًا ودرعًا ضخمة بقوة رهيبة، حتى أنّ الهواء صرخ وانقسم. عندما اصطدمت تلك الأسلحة، لم يسقط الجنود فحسب، بل انفجروا إلى ضبابٍ أحمر، أطرافهم تتطاير كدمىٍ محطمة.
الوزن الساحق لحضورهم وحده ضغط على صدر القائد كصخرة ثقيلة. سمع عن العمالقة من قبل، حكايات تُهمس عند نار المخيم، لكن لا شيء في تلك القصص كان يعدّه لهذا. لم يكونوا مجرد عمالقة. كانوا أكثر من ذلك بكثير.
صرخ:
"افتحوا البوابات!"، صوته متصدع، والدموع تحرق عينيه بينما كانت البوابة تصدر صريرًا نصف مغلقة.
خلفه، اندفع الجبابرة، والأرض ترتجف تحت أقدامهم. أطلقت المنجنيات أسهمها بيأس، صائحًا في السماء، بعضها أصاب أهدافه. ومع ذلك، حتى عند اختراقهم، لم يتباطأ الجبابرة. بعضهم حطم الأسهم في الهواء، والبعض الآخر استمر في التقدّم، غير قابل للتوقف، كأن الألم أقل من أن يشعروا به.
أخيرًا، اقتحم جواده إلى ساحة القلعة. نزل وهو يترنح، كاد يسقط عندما اصطدمت حذاؤه بالحجر، صدره يرتفع ويهبط مع كل نفس.
هرع الجنود إلى جانبه، أحدهم قدم حقيبة جلدية مملوءة بالماء. شرب بعمق، نصفه يتساقط على ذقنه.
مسح فمه، ثم التفت sharply إلى أحد الرجال:
"أين الكونت؟ عليه إبلاغ الملك فورًا. القلعة لن تصمد أمام ذلك. إنها ببساطة لا تستطيع!"
جاءه صوت هادئ وحازم من الخلف:
"اهدأ."
توقف القائد، ثم التفت لمواجهة الرجل الذي تكلم. كان طويل القامة، مدرعًا بدرع سميك يلمع، يضع يده المكسوة بالقفاز على مقبض سيفه الطويل بطريقة غير مبالية.
وجهه يحمل ابتسامة هادئة، شبه مستهزئة، تعبير واثق جعل دم القائد يغلي. أراد أن يمسحها بخنجر.
أضاف الرجل بهدوء:
"لدينا أكثر من خمسين منجنيقة، وثلاثون قاذفة، وعدد قليل من الكهنة. سنقاومهم لأيام قليلة."
قبض القائد على قبضتيه:
"جنرالي، أحد المتجليين قاد خمسة آلاف رجل إلى تلك الغابة، ولم يخرج. هذا يعني أنّه مات. لم يكونوا مجرد عمالقة، بل شيء آخر تمامًا! أعد الكهنة فورًا وأرسل الخبر للملك—"
قاطعه الجنرال فجأة، صوته أصبح باردًا، حادًا كالحديد:
"أنت لا تعطي الأوامر هنا."
كان القائد من إنتيس، نشأ على الانضباط والفخر، قائد القلعة. أما الرجل أمامه، فكان ضابطًا من عامة الناس تحت بيت نيثانيل. كانوا حلفاء، نعم، لكن الحلفاء لا يصرخون بالأوامر.
قبل أن يرد القائد، تفرقع الجو.
صدر صوت انفجار مدوٍ هز جدران القلعة. سهم، لا، مقذوف بحجم رمح، أطول من حصان حرب، اخترق الجدار الخارجي بعنف رهيب.
رأسه الضخم المثلث اخترق وظهر على الجانب الداخلي، على بعد أقدام قليلة من حيث وقفوا.
تجمد الزمن.
تساقط الرمل وشظايا الحجر على وجوههم، وطعم الغبار يملأ أفواههم. جميع العيون ثبتت على رأس السهم المروع، لا يزال يهتز من الاصطدام، مغروسًا عميقًا في القلعة كتحذيرٍ من الموت نفسه.
تبع الصمت.
استدار قائد إنتيس إلى جنوده، القلق واضح على كل سطر في وجهه:
"دقوا الجرس! استدعوا الكهنة! يجب أن يجتمع كل جندي هنا فورًا! ومن سيذهب لإبلاغ الكونت—فقط هو يستطيع الكتابة للملك. تحركوا!"
القلعة انفجرت بالحركة. دوي خطوات الجنود الثقيلة ملأت الساحات، كإيقاع قاتم للفوضى في الخارج. ومع ذلك، في أعمق القلعة، كان كل شيء بعيدًا عن الخطر.
في القاعات الداخلية، كان هناك قاعة فسيحة مفتوحة، مزينة بأعلام حريرية وفوانيس مصقولة. كان الاحتفال في أوجه.
اجتمع مئات التجار الأغنياء، النبلاء الصغار، السفراء الزائرون، مستلقين على وسائد مخملية وكراسي مطلية بالبرونز. يتحرك الخدم كالأشباح بين الحشود، يصبّون الخمر ويحملون صواني اللحم المشوي. الضحك يتردد تحت الأقواس الحجرية.
في قلب ذلك، تدور معركة تمثيلية على المسرح. متسابقان يتبادلان السيوف، يرتديان دروعًا مبالغًا فيها مع ريشة على الخوذات. أحدهما شعره ذهبي طويل، والآخر أبيض. هتف الجمهور وصفّق حين ركل الذهبي "ملك الدم" ذو الشعر الأبيض أرضًا.
الكونت وزوجته يجلسان على طاولة رسمية مرتفعة، من بين المسؤولين والخدم.
ضحك الكونت، كأس الخمر في يده:
"كم هو مسلٍ، أن أعظم مبارزٍ في الشمال لم يصمد سوى لبضع جولات أمام الأمير آرون."
لكن قبل أن تصل اللحظة، دقّ جرس القلعة لأول مرة. صوت عميق ومزعج يصدح في الجدران الحجرية، كصرخة تحذير.
توقف الضحك.
تجمد الجميع.
دقّ الجرس خمس مرات، ثم بدأت الهزات.
الأرض ارتجفت، الأكواب تصطدم، الطاولات تتأرجح، زمجرة عميقة تتحرك تحت الأقدام كأن شيئًا قديمًا يستيقظ.
دخل الذعر في القلوب. امرأة تلهث، خادمة أسقطت زجاجة خمر.
عندما خرج الكونت، كان العالم قد انقلب إلى فوضى.
صراخ يتردد في القلعة، الجنود يركضون في كل الاتجاهات. حطام النار يتطاير في الساحات، والدخان يتصاعد.
لكن ما شاهده خلف البوابة الداخلية جمد أنفاسه:
جدار خارجي قد تم اختراقه، الحجر متحطم، الحديد ممزق. ومن خلال الفتحة، خطى عملاق. ضخم، مدرّع، يتحرك بسهولة مرعبة، كل خطوة تهز الأرض.
آخرون على الجوانب يطرقون الجدران بقبضاتهم الضخمة، والجدران تتأوه من وطأتهم، لا يمكن للصخور مقاومتهم.
"يا إلهي..." همس الكونت، عينه تتجه للأعلى.
فوق ساحة المعركة، فوق الفوضى، النار، وحطام الجدار المتساقط، كان هناك شخص واحد.
يحلق كما لو أن قوانين الطبيعة تنحني له. عباءة بيضاء تلف كتفيه، تتلوى في الريح كراية حكم. درعه الأسود يلمع كالدرع التنيني. وعيناه... تحرق بالذهب، ليس بالغضب، بل بالهدف. باردة، حادة.
شعره الأبيض الطويل يتدفق على كتفيه وظهره، يلمع في أشعة الشمس كخيوط من الفضة.
ركباه الكونت ارتجفا، روحه، المأخوذة بالخمر والسخرية لسنوات، غرقت الآن بالرعب.
"إنه هو..." تمتم، صوته بالكاد يخرج من شفتيه.
يده المرتجفة أمسكت بذراع حارسه، سحبه بقوة.
"إنه هو!" صرخ، وجهه شاحب كالموت. "المجنون! اللورد المهووس الذي ذبح إيفيرارد! سيقتل الجميع! أخرجوني من هنا!"
في رعبه، نسي المراسم، نسي الكبرياء، نسي زوجته. حاول الحراس المحيطون به تكوين حلقة دفاعية، لكنه دفعهم جانبًا كالأثاث، مجرّدًا حارسه الأقرب نحو السلم.
وراءه، بقيت زوجته متجمدة. التفتت ببطء نحو السماء، عيناها تتسعان، فمها مفتوح.
"ألم تقل..." همست، صوتها يتصدع، "ألم تقل... أنه لم يصمد حتى جولة واحدة...؟"
يداها ترتجفان على جانبيها، تبحث عن زوجها عن أي بصيص من الطمأنينة، القيادة، القوة.
لم يأتِ أي جواب.
لم يكن هناك جواب، سوى دوي الجبابرة، تكسير الحجر، والحقيقة الباردة تستقر:
كل رجل لنفسه.