بينما كان آشر يهم بسحب سيفه، دوّى في الأجواء صوت ثقيل ومتتابع، أشبه بنبضٍ عملاق يهزّ الهواء. رفع رأسه نحو السماء، وضيّق عينيه البيضاء المتوهجة. كانت هناك أجنحة ضخمة تخفق بقوة، جلدية وسوداء، تصدر عن مخلوق هائل خرج من بين الغيوم العاصفة.
لقد كان "وايفرن" عملاقًا، بحجم تنينٍ شاب، جناحاه يمتدان كأشرعة الموت. وخلفه جاءت المزيد... سرب كامل من الوحوش الطائرة، أكثر من اثني عشر، اندفعوا عبر السماء كطوفان من الغضب المتجسد.
السماء اسودّت أكثر مع اقترابهم، وانهالت النار كالمطر. سيل من اللهب صبّ فوق جيش آشر في الأسفل. كانت "السويفتوينغز" — تلك المخلوقات السريعة والصغيرة — تنقضّ بدقة قاتلة، تخطف الجنود من الأرض، وتمزّقهم في الهواء قبل أن تقذف أشلاءهم كقصاصاتٍ دامية في الريح.
عين آشر توهجت بحدة.
الآن قرابة عشرين وحشًا يتجهون نحوه في صفٍ واحد.
سحب سيفه من جسد غارين بحركةٍ واحدة، واستدار ليواجه العاصفة القادمة.
وفي اللحظة التي خرج فيها السيف من اللحم، أطلقت الوحوش زئيرًا موحّدًا، وتدفقت منها أنهار من اللهب الأزرق والبرتقالي، مزيج حارق من الغضب والطاقة.
انفجر الجحيم في السماء.
لكن آشر رفع يده واستدعى قبةً من الجليد الخالص، شفافة كالكريستال، تتوهج بنورٍ باردٍ غريب.
إلا أن النار كانت أعنف مما تخيل.
تشققت القبة.
بدأت تتآكل، تئنّ من الضغط والحرارة.
وفوقها، ازدادت الظلال في السماء. المزيد من الوحوش نزلت.
صار الفضاء كله خلية من الموت، ثلاثون وايفرن بالغًا، أجنحتهم تحرّك الغيوم كأنها بحرٌ يغلي، وأفواههم تنفث النار بجنون لا يهدأ. ثلاثون من هذه الكائنات قادرة على محو مدينة كاملة في ساعة.
في داخل القبة المتصدعة، اشتعلت عينا آشر بوميضٍ أقوى. لم تعد مجرد نور، بل كانت قوةً مجسدة.
ثم... اهتزّت السماء.
لكنها لم تهتز من المطر أو الريح... بل من الغضب.
صوت كالرعد الإلهي دوّى، ثم انهمرت الصواعق من الغيوم.
ضربات برق متتالية، كحراب من نورٍ سحيق، انحدرت من الأعالي، تمزّق الأرض وتُبخّر كل من تمسّه.
صرخات الجنود انقطعت قبل أن تبدأ.
الكونت ريمون شدّ على أسنانه وهو ينظر إلى الأفق. رائحة الأوزون ملأت أنفه، وشعر بذراعيه ينتصب من الكهرباء المنتشرة في الهواء.
ثم جاء البرق الأكبر —
شعاع واحد جمع عشرات الخطوط المشتعلة، نزل كقضاءٍ لا مهرب منه.
لم تملك الوحوش وقتًا للهرب.
أينما لمست الصاعقة، لم يبقَ سوى الرماد.
تفتتت الأجنحة، انفجرت الأجساد، وتحوّلت السماء إلى مقبرة من النار والضوء.
في الأعلى، كان "رُويل" يضحك بجنون وهو يمتطي مخلوقه السريع، يهاجم فرسان الحديد واحدًا تلو الآخر. لكن ضحكته انقطعت فجأة عندما رأى ضوءًا ساطعًا يشق الغيوم.
نظره تجمد.
كانت العاصفة تنقضّ على الأرض كحكمٍ من السماء، تمحو الوحوش وتحوّلها إلى رماد.
حينها نظر إلى الأسفل، فرأى آرون ممددًا على الأرض، عيناه مفتوحتان باتساع، كأنه شاهد نهاية العالم.
لا جرح، لا دم، لا حركة.
مجرد جثةٍ فارغة من الحياة.
رُويل شهق، وشعر لأول مرة برعبٍ حقيقي يزحف في صدره.
"يجب أن أهرب فورًا!"
شدّ لجام مخلوقه وارتفع مبتعدًا عن ساحة المعركة، يحاول الفرار من العاصفة المشتعلة.
لكن هناك... في نهاية الأفق، رأى امرأة.
امرأة تشبه الأساطير.
طويلة، شامخة، شعرها الفضي يتطاير في الريح كراية خراب. وقفت وسط الجحيم، ثابتة، ممسكة بقوسٍ عظيم، أكبر من أي سلاح عرفه بشر. كانت قد شدّت وتره إلى أقصاه، وسهمٌ هائل من الضوء والمانا يلمع كالشمس في قبضتها.
تلاقت أعينهما.
وتوقف الزمن.
تلاشى صوت الرعد، وصمتت الأجنحة، ولم يبقَ سوى نظراتهما.
ثم انطلق السهم.
في طرفة عين، اخترق صدره، ومزق درعه المسحور كأنه ورق مبتلّ.
انفجارٌ من الدم والضوء شقّ جسده، تاركًا فجوة واسعة يرى من خلالها السماء.
تطاير جسده من فوق المخلوق، يتقلب في الهواء كدميةٍ مكسورة، وعيناه ما زالتا متسعتين بعدم تصديق.
قبل أن يسقط، انحدرت صاعقتان أخريان —
إحداهما شقت جمجمة المخلوق، والأخرى اخترقت عنقه.
توقف المخلوق عن الصراخ وسقط ميتًا، محترقًا كنيزكٍ يسقط من السماء.
وسقط معه رُويل، يتهاوى في العاصفة، عيناه جامدتان في لحظة موته.
في الأسفل، كانت "نِفِس" على ظهر حصانها، تشاهد المشهد بعينين مذهولتين.
رأت حبيبها يسقط... أحلامها تتحطم، إمبراطورها الذي لم يولد بعد يذوب في السماء نارًا ورمادًا.
اختنق صدرها بغضبٍ وبكاءٍ مكتوم.
رفعت بصرها نحو آشر الطافي في الهواء، كأنه حاكم الغضب يعلو فوق العالم.
ضحكت ضحكةً مكسورة:
"تظن أنك ستعيش؟"
رفعت ذراعيها نحو السماء، صوتها بدأ همسًا ثم صار هدرًا يشق الريح. الكلمات خرجت من فمها بلغةٍ قديمة، غليظة، وكأنها لا تنتمي للبشر.
وانشقّت السماء.
المئات من النيازك اشتعلت وسقطت من الغيوم كأنها أنياب الجحيم، تمزق الأرض بنيرانٍ مقدسة لا تفرّق بين صديق وعدو.
اشتعلت الساحة كلها.
التراب صار رمادًا، والهواء امتلأ برائحة اللحم المحترق.
كانت "نِفِس" واقفة، ذراعاها مفتوحتان كمن تقود نهاية العالم، والبرق ينهال على جانبي الميدان، يطوقه من الأطراف كحائطٍ من النيران الزرقاء.
لكن كلما زادت قوتها، بدأ جسدها ينهار.
وجهها الشاب تجعد، وشعرها الأسود تحوّل رماديًا، وعروق الدم انفجرت في عينيها من الضغط.
ومن بين تلك العيون المحترقة، رأت آشر يقاتل — يتحدى الموت ذاته.
يشق النيازك بسيفه، ويمزق الوحوش التي فقدت عقولها، واقفًا كالطوفان البارد وسط الجحيم.
ثم دوّى صوت من خلفها، هادئ لكنه حاسم:
"السيدة نِفِس... أنتِ تقاتلين في الجهة الخطأ."
التفتت، لترى "يونا" ترفع راحتيها نحوها.
وانفجر اللهب.
اندفع موجٌ من نارٍ ذهبية-حمراء، اجتاح نِفِس وحصانها.
صرخت صرخةً اخترقت السماء، لحمها يتقشر، وجسدها يسقط محترقًا على الأرض.
نيران يونا لم تكن سريعة، بل كانت تعذّب.
تحرق ببطء، تجعل الألم يمتد إلى ما بعد الصراخ.
وقفت يونا ثابتة، عيناها تعكسان لهيبها المشتعل.
ثم التفتت إلى الجنود الذين أحاطوا بها، مئات السيوف مرفوعة نحوها، والرهبة تسكن وجوههم.
قالت بصوتٍ هادئ:
"تقدّموا... لقد انتهيت."