اقترب حارس نيفيس الشخصي، رجل ضخم يرتدي درعًا مصقولًا من التيتانيوم، من "يونا" بخطوات ثقيلة كأن الأرض تهتز تحت قدميه. كان مجرد وجوده كافيًا ليخمد الفوضى من حوله. صرير صفائح درعه الحديدية رافق كل خطوة، وخوذته المصممة على شكل جمجمة نسر منحته مظهرًا يشبه جلادًا من عصورٍ غابرة.
كانت يونا لا تزال متألمة من الانفجار الناري السابق، لكنها لم ترتجف. بل ضحكت بخفوت، بضعفٍ لا يخلو من سخرية، فيما كان العملاق يقترب منها. مد يده المغطاة بالقفاز المعدني وسحب سيفه الطويل من غمده، فصدر صوت حاد أشبه بهمسٍ باردٍ في العاصفة.
تألّق النصل العريض ذو الحافة الفضية تحت السماء الرمادية كأنه هلال من الأحكام الإلهية المجازية، يُعلن نهاية من أمامه.
دون مقاومة، سقطت يونا على ركبتيها، ورفعت وجهها نحو السماء، كأنها تبحث عن إجابةٍ هناك. وقف الحارس فوقها، سيفه مرفوع كأنه قاضٍ يستعد لإصدار الحكم الأخير.
ثم انشقّت السماء.
برقٌ خاطف مزّق الغيوم بضوءٍ أعمى وصوتٍ يصمّ الآذان، وانهمر المطر بعدها كأن العالم كله يبكي. لم يكن مطرًا عاديًا، بل سيلاً يفيض من صدر الأرض والسماء معًا.
لكن ما تبع المطر كان أشدّ رعبًا. اهتزّت الأرض. في البداية بخفة، كارتجافة خافتة تحت الركب، ثم أقوى، أعمق، كأن شيئًا هائلًا يستيقظ من سباته في جوف الأرض. ارتجفت الأرض بخفقاتٍ متتابعة، كنبض قلبٍ غاضب.
تردد الحارس، والتفت الجنود من حوله واحدًا تلو الآخر، بوجوهٍ شاحبة... ثم رأوا ذلك.
من بين ضباب المطر والعاصفة، ظهرت كتيبة الفرسان الثقيلة — "كاسري النصال". فرسان شامخون يرتدون دروعًا داكنة كليلٍ لا قمر فيه، يمتطون ذئابًا بيضاء عملاقة تعوي بوحشية ونارٍ في أعينها. كانت الذئاب ضخمة كالأحصنة، مكسوّة بالدروع، وأنفاسها الساخنة تتصاعد كالدخان في البرد القارس.
وفي مقدمتهم فارس يرتدي درعًا أسود حالكًا، قاتمًا كفراغٍ لا نجوم فيه. كتفاه مزيّنتان بزخارف تشبه رؤوس الذئاب، وريشة حمراء تشتعل فوق خوذته كلسان نارٍ يعانق السماء. امتطى أعظم الذئاب، وحشًا قادرًا على تحطيم أبراج الحصار باندفاعٍ واحد.
وفوقهم، ترفرف رايات كاسري النصال السوداء، تتحدى رياح العاصفة. كل راية تحمل شعار الذئب ذي الأنياب البيضاء، مرفوعة على رماحٍ حادة تلوّح كفؤوس الإعدام.
شهق الحارس، أدرك الرمز. أدرك القصص التي كانت تُروى عن "كاسري نصال آشرون" — لكنه الآن يرى الحقيقة بعينيه، وقد فات الأوان.
اندفع كاسرو النصال إلى صفوف "تحالف الشمال الموحّد" بقوةٍ مدمّرة، كفيضانٍ من الحديد والمخالب. خفّضوا رماحهم، صفوفهم متراصّة، وعيونهم خالية من الرحمة.
لم يكن للمقاومة معنى.
من قاوم، مات صارخًا.
ومن فرّ، مات متوسّلًا.
سُحقت الخيام، تحطمت الدفاعات، تحوّلت أبواق الإنذار إلى شظايا قبل أن تُنفخ. طار الرجال كدمىٍ خشبية، وتكسرت الدروع كأغصانٍ ضعيفة. لم يصمد صفٌّ واحد. لا أحد.
أغمضت يونا عينيها بينما كانت العاصفة تعوي، وصوت أقدام الذئاب يهدر كطبول حربٍ جهنمية. شعرت بالارتجاج في صدرها، وبالهواء الحار الذي خلفته الوحوش وهي تندفع بجانبها.
ثم... ساد الصمت.
وحين فتحت عينيها، لم تصدّق ما رأت.
كاسرو النصال انقسموا حولها، كأن النهر شق طريقه حول صخرةٍ في المنتصف. تجاوزوها عمدًا، دون أن يلمسوها، كأنها نارٌ لا تُمس.
جلست في الوحل المبتلّ بالمطر، قلبها يخفق بجنون.
ثم توقّفت خطوة.
فارسٌ واحد بقي.
جلس منتصبًا فوق ذئبه العملاق، رمحه مرفوع كراية، والمطر ينحدر على درعه في خطوطٍ لامعة.
قال بصوتٍ أجشّ من خلال خوذته:
"السيدة يونا مورمونت... أحمل رسالة لكِ."
مد يده المغطاة بالقفاز، يحمل رسالة مختومة. أخذتها بأصابع مرتجفة، ثم استدار الفارس وانطلق عائدًا وسط جحافل إخوته.
حدّقت بالرسالة — ختمها يحمل شعار الذئب العاوي.
مزّقت الختم، وبمجرد أن رأت الخط، تجمّد أنفاسها.
عرفت الكتابة فورًا — منحنية، أنيقة، مألوفة كصوتٍ اشتاقت إليه.
دفءٌ خافتٌ في عالمٍ صار باردًا.
"ماري..." همست يونا، وصوتها يتشقق مع الدموع التي غسلت رموشها، مطمسة الكلمات التي انتظرتها طويلًا.
بينما غرقت يونا في لحظتها تلك، كانت الحرب تشتعل أعنف من أي وقتٍ مضى.
الفرسان الذين كانوا يومًا أعلامًا للنصر، سقطت راياتهم في الوحل.
الجنرالات الذين بقوا، بين من يبكي ومن يتعطّش للثأر، أعادوا ترتيب صفوفهم بقلوبٍ مثقلة.
فرقة "الفأس الذهبية"، التي كانت رمز القوة، بدأت تتهاوى.
دروعهم اللامعة غطاها الدم والرماد والطين. تكسرت صفوفهم، وتحولت صيحاتهم إلى أنين.
تساقط رجالهم واحدًا تلو الآخر.
من السماء نزلت ظلال الموت.
التنانين الصغرى (الويفرنز) انقضّت تصرخ بأجنحةٍ كالظلال، تمطر النار على البشر والوحوش معًا. احترق رجال الأسد والثيران معًا في دواماتٍ من اللهب. أما "الأجنحة السريعة" فانقضت كالصواعق، تمزّق اللحم والحديد على حدٍ سواء.
لكن الفوضى كانت أعظم من أن تُسيطر.
خمسة رجال يهجمون على مخلوقٍ واحدٍ متعب، يطعنونه بجنون حتى يسقط، وصراخه يختفي في طينٍ أحمر من الدم.
تفوح رائحة الحديد واللحم المحترق من الميدان.
نصف جيش العدو سقط على يد "الفأس الذهبية"، لكنهم بدورهم كانوا ينهارون.
حتى القادة المستيقظون، الذين يفوقون البشر قوة، أصيبوا وجُرحت دروعهم.
ما بقي حولهم سوى آلاف الجثث.
الدروع التي كانت رمز عظمتهم أصبحت عبئًا.
أطرافهم ترتجف، أنفاسهم متقطعة، وأسلحتهم لم تعد ترتفع كما كانت.
السهام الحديدية مزّقت الهواء المشبع بالدخان، تصيب أجنحة التنانين وتخترق جمجمة الأجنحة السريعة، لكن حتى رماة المنجنيق ارتجفوا، أيديهم المتورّمة بالكاد تمسك بالمقابض.
المعركة باتت على حافة الجنون.
ثم... تغيّر كل شيء.
من مؤخرة جيش تحالف الشمال، جاء هديرٌ جديد — ليس هدير انسحاب، بل انتقام.
كاسرو النصال، لا يزالون في ذروة غضبهم وقوتهم، اندفعوا كطوفانٍ من الحديد والمخالب من الجناحين، يضربون مؤخرة جيش العدو بقوةٍ مدمّرة.
دروعهم السوداء تلتمع في المطر، رماحهم منخفضة، وذئابهم البيضاء تزأر وهي تفتك بكل ما أمامها.
لم يتوقفوا.
لم يتراجعوا.
اجتاحوا صفوف الشماليين كعقابٍ نازل من قوى القدر نفسها.
صرخ الرجال.
اختفى القادة في رمشة عين.
تطايرت الأجساد، وانفجرت الدماء كينابيعٍ في الوحل.
اهتزت الأرض تحت أقدام الذئاب العملاقة، سقطت الخيام، وتمزقت رايات القيادة.
ما تبقى من "تحالف الشمال الموحّد" لم يكن سوى فوضى وذبح.
المدّ انقلب.
وكان بلا رحمة.