في كهفٍ عميق، أو ما كان يومًا كهفًا طبيعيًا، تحول الآن إلى مزارٍ تحت الأرض، كانت أعمدة من حجرٍ أسود تحمل سقفه المتسع، وقد نُقشت عليها رموز حادة تومض بضوءٍ أحمر خافت. صفوف من المشاعل والمباخر تملأ أطراف القاعة، تنثر ظلالًا مرتجفة على الجدران الرطبة، وتكشف عن عشرات الرجال والنساء المتلفعين بعباءاتٍ قرمزية، واقفين في صمتٍ رهيب.
الهواء هناك كان باردًا، لكنه محموم بنارٍ خفية — نار الإيمان والانتظار المهووس. مئاتٌ منهم احتشدوا، وجوههم غائبة تحت ظلال أغطية رؤوسهم، وأنفاسهم محبوسة كأنهم ينتظرون حدثًا مقدسًا.
وعند الطرف البعيد، على منصة حجرية مرتفعة، وقف رجل طويل القامة يرتدي رداءً احتفاليًا فضفاضًا، تتدلى أكمامه الواسعة حتى ركبتيه كأكفانٍ متحركة. ظلّ غطاء الرأس يحجب معظم ملامحه، لكن وهج النار من جانبي المنصة أضاء أسفل وجهه — ذقنٌ حاد، وابتسامة ماكرة، وشفاه انفرجت لتطلق كلماتٍ بهدوءٍ مرعب.
قال بصوتٍ عميق رنان:
"لقد تمّ الأمر. كما تنبأت الرؤى، قد تحرك أب الحرب. لوردات الشمال سقطوا، راياتهم تمزقت، ومواهبهم العظمى دفنت تحت الرماد. الأرض انكسرت... وصارت ضعيفة. الساعة اقتربت."
رفع ذراعيه نحو السقف الحجري.
"لقد حان الوقت... المجد لملك الهاوية!"
وعندها، كما لو أن الرعد ضرب القاعة، سقط الجميع على ركبهم في حركةٍ واحدةٍ منسقة. ارتفعت الأصوات في آنٍ واحد — لا فوضى، بل طقوس جماعية، مهيبة ومخيفة في إيمانها. ترددت الهتافات بين الجدران كأن الحجر نفسه يرتجف منها:
"المجد لمن سيطهّر العالم من ضعفه!
المجد لمن سيعيد خلقنا في لهيب القوة العليا!
المجد لملك الهاوية!"
لم تضعف أصواتهم. لم تتردد قناعاتهم.
في ذلك الرحم المظلم تحت الأرض، كانت ولادة جديدة تُحضّر — ولادةٍ للعتمة، بينما العالم في الأعلى لم يكن يعلم ما ينتظره.
...
ومن أعالي الغيوم الملبدة بالضباب، انبثق بصرٌ يراقب الأرض بنظرةٍ ليست بشرية ولا هادئة.
تحتها، كانت الأرض تغلي بالحرب — جيوش تمتد حتى الأفق، رجال شجعان في الدروع يسيرون كالفيضانات، كأنهم جيش من الآلهة الساقطة.
بعضهم كان يرتدي دروعًا نحاسية اللون تلمع تحت شمسٍ باهتة، وأردية بيضاء ترفرف مع كل خطوة، وكتفان مجنحتان يبعثان رهبة من كائناتٍ سماوية نزلت لتقاتل.
آخرون اصطفّوا بدروعٍ فضية براقة، تجر خلفهم أردية زرقاء ملكية، وراياتهم ترفرف بشعاراتٍ متلألئة.
أما الفريق الثالث، فكان أظلمهم — يسيرون تحت رايات الظل، دروعهم سوداء كفراغٍ لا نجوم فيه، وكلما خطوا، ذبل العشب وتراجع الهواء عنهم. على أكتافهم كانت منقوشة رموز الحصون التي دمّروها، عهدهم القاتم محفور في الحديد.
لكن حتى هذه الجيوش الثلاثة العظيمة، بدت باهتة أمام لمعان الجيش الرابع — فيالق لا تُعدّ من المقاتلين، يرتدون دروعًا بيضاء ناصعة منقوشة برموزٍ مقدسة، وكل منهم يحمل سلاحًا تتوهج في قبضته جوهرة ذهبية تنبض بطاقةٍ طاهرة.
وهج أسلحتهم وحده بدّد ظلال الهاوية من حولهم، كفجرٍ يشق ظلمة أبدية.
كانت عباءاتهم السوداء تتطاير في الريح، تحمل فوقها راياتٍ مخيفة، عليها رمزٌ واحد لا يُنسى:
ذئبٌ أبيض يعوي.
وفي مقدمة ذلك الطوفان النوراني، امتطى "الذئب الأبيض" جواده المعدني، يندفع كعاصفة شتاءٍ هادرة، والآلاف خلفه من الفرسان يقتحمون الميدان كأمواجٍ من الانتقام تجرف اليأس.
كان ذلك التحالف المعجزة بين شعوب القارة — وحدة نادرة وُلدت من اليأس، أشعلت بصيص الأمل...
حتى رفعت المراقبة بصرها نحو الشرق.
ورأت العدو.
طوفانٌ من الظلال، جدارٌ حيّ من الظلام يمتد بلا نهاية.
عمالقة مشوّهون يسيرون جنبًا إلى جنب مع عفاريتٍ وأوركٍ متوحشين وغوبلنز بعيونٍ لامعة بالحقد.
لم يأتوا في صمت، بل بهديرٍ هائل جعل السماء نفسها ترتجف.
وفي مقدمتهم، فارسٌ وحيد يمتطي حصانًا من دخانٍ أسود ملتفٍّ كالغيوم.
وجوده وحده أوقف الريح، وأفسد الهواء، وأثار رجفة في الأرواح.
شهقت المراقبة، عيناها اتسعتا رعبًا.
عرفت ذلك الحصان — كان يومًا مخلوقًا نبيلاً، رقيقًا، محبوبًا من سيّدها...
فيلمورن.
وفوقه... ملك الهاوية.
تجمد قلبها، بينما "آشر" — ثابت، لا يهاب — اندفع وحده لملاقاة الظلام.
رفع سيفه متحديًا ملك الهاوية، والعالم كله كتم أنفاسه.
اصطدما.
صرخت الفولاذات، واهتزّت الأرض.
ارتجّت الجبال تحت ضرباتهما، وانقلبت مجاري الأنهار.
البرق دوّى مع كل ضربة، والسماء نفسها شاخت خوفًا.
وفي النهاية...
سقط آشر.
جاثيًا على ركبتيه، درعه محطم، والنور في عينيه يتلاشى ببطء.
وقف ملك الهاوية فوقه، يرفع سيفه العظيم المتشقق ذا الوميض البنفسجي، كنجمةٍ تحتضر.
غرسه في صدر آشر، فارتجّ العالم.
ثم انتزع خوذة التاج من رأسه، وبضربةٍ واحدة، أنهى حياته.
وحين تدحرج رأس آشر على الأرض، صرخ العالم كله، وغطّى الظلام الميدان.
ابتلعت العتمة الجيوش، وأسقطت الرايات، وأطفأت النجوم.
شهقت كاترينا وهي تفزّ من سريرها، غارقة في العرق البارد، قلبها يدقّ كطبول حرب.
صدرها يعلو ويهبط بعنف، وأصابعها ترتجف. التفتت إلى شمعدانٍ قرب سريرها، لهبه يتمايل كأنه رأى ما رأته هي.
وقفت، وثوب نومها الحريري ينساب على أرضٍ حجرية باردة، وسارت نحو النافذة المقوّسة.
فتحتها، فدخل ضوء البلّورات اللامعة المثبتة في سقف المدينة الجوفية العملاقة.
انسكب الضوء الصناعي كنجومٍ مزيفة على جدران غرفتها، وارتدّ بلمعانٍ خافت على مرآتها الفضية.
حدّقت في المشهد المترامي أمامها — مدينةٌ تحت الأرض تنبض بالحياة.
شوارع مرصوفة بالحجر تلتفّ حول طبقاتٍ من الأبراج والأسواق والمنازل المنحوتة في الصخر.
عربات تجرّها الخيول تمرّ بين الممرات، وصيحات التجار تتردّد تحت مظلاتٍ حريرية، ومصاعد ميكانيكية تنقل النبلاء والرسل بين طوابق المدينة الهائلة.
مدينة "أشكيلون" التي لا تنام.
مرّ عامان وستة أقمار منذ سقط "آرون" و"ريوئيل" — عملاقان طواهما غبار الحرب التي قلبت موازين القارة.
انسحبت "سيرينيا" من حربها، وتخلّت عن فكرة تدمير "آشبورن" بعد سقوط التحالف.
وبات العالم يذكر اسم آشر بإجلال، يلقبونه "رابع أقوى مبارزٍ على قيد الحياة"،
لكن بالنسبة لكاترينا، اللقب لم يعد يعني شيئًا بعد كابوسها.
في الظلال، ظهرت حقائق جديدة — "نظام الظلال" الذي كان لغزًا مخيفًا، تبيّن أنه أداة خفية لإمبراطورية "غالڤيا" القاسية، التي هددت بغزو "آشبورن" بعد هزيمة التحالف.
أما "بيت نوبيس" الماكر، فابتلع أراضي الكونت "ريمّون" بعد حربٍ طويلة ضد وريثه المفجوع.
وبرغم ذلك، ظلّت "إنتيس" على قيد الحياة، تاجها القديم تحطّم، وتاجٌ جديد فُرض بالقوة على آخر.
عاد الظلام السياسي ليخنق البلاد،
لكن هذه المرة بلا وحدة.
النبلاء الذين اتحدوا يومًا لغزو "آشبورن"، رفعوا سيوفهم ضد ملكهم نفسه.
حربٌ أهلية تغلي كالجرح الفاسد،
وشهرًا بعد شهر، آلاف اللاجئين المنهكين يصلون إلى بوابات "آشبورن"، لا يملكون سوى رمادٍ على جلودهم، وحكاياتٍ على ألسنتهم.
طقطقة!
أدارت كاترينا رأسها نحو الباب، حيث دخلت خادمة تحمل صينية فضية عليها مناشف نظيفة وإبريق بخارٍ تفوح منه رائحة الورد.
قالت كاترينا بصوتٍ هادئ، لكنه حادّ كالشفرة:
"أين الملك؟"