وقف آشر فوق الثلج، يراقب السماء وهي تبكي ندفها البيضاء.
كانوا يظنون أن الثلج سيتوقف بعد الشهر الأول أو الثاني من السنة الثالثة منذ انتهاء الحرب، لكنه لم يتوقف. ظلّ يتساقط بلا هوادة. أحيانًا برفق كهمس ناعم يلامس الأرض بسلام، وأحيانًا كأنه حزن السماء ذاته يحاول دفن العالم تحت بياضه. ستة أشهر مرت، والثلج لا يزال يكسو كل شيء.
كان معطف آشر الكثيف، الداكن كلون الجبل، مزينًا بفرو أبيض ثقيل من دببة "آيسفانغ" القادمة من الحافة الشمالية، يلتف حوله كحارس صامت. كانت يداه المغلّفتان بالجلد تمسكان مقبض سيف الملوك، النصل العتيق المغروس عميقًا في الثلج أمامه، شفرته الحمراء الواسعة تلتقط الثلج كأنها مذبح فولاذي.
وقف وحيدًا. لا فرسان دمٍ إلى جانبه، ولا حراس قديسين.
فقط هو، والثلج، والصمت.
أمامه امتدّ مشهد يفيض بالإصرار، آلاف البنّائين والحدّادين والعمّال يكدّون تحت السماء الباهتة لبناء الجدار العظيم لآشبورن.
مرّ على هذا العمل عامان وثلاثة أقمار، وما زال الجدار يزحف عبر الأفق كأفعى عنيدة. التقدّم بطيء، وكيف له ألا يكون كذلك؟
فالجدار كان لا بد أن يُحيط بأمةٍ كاملة، بأوديتها وبحيراتها وجبالها، يحتضنها جميعًا في ذراعٍ من حجر.
في يوم تتويجه لم تكن هناك تاجٌ ذهبي، بل خوذة الحرب الباردة – خوذة "أب الحرب" – التي وضعها كاهن المعبد الذهبي على رأسه وسط رنين الأجراس وصمت الحشود.
ابتسامة هادئة، بعيدة، لامست شفتي آشر وهو يتأمل المشهد.
رأى صبيًا، يافعًا قويًا، شعره الأخضر الزمردي يلمع حتى تحت الضوء الشاحب، يسحب عرباتٍ محملة بالحجارة فوق الأرض المتجمدة.
كان يتسابق مع العمّال الآخرين، يدفع عربته بجانب عرباتٍ تجرّها مخلوقات "الأوفوك"، ثيران جبارة بعضلات كالصخر وأعين تشتعل ثباتًا.
كان طوله قد تجاوز خمسة أقدام رغم أن عمره لا يتعدى الأربع سنوات، فصار مشهدًا مألوفًا يثير الإعجاب. كان العمّال يتوقفون أحيانًا عن العمل ليتأملوه، بعضهم يهمس بكلماتٍ خافتة، وبعضهم يبتسم فقط. لقد أصبح ميرلين قلب تعبهم اليومي ونقطة نور في البرد.
بأمرٍ من آشر، انضمّ الفرسان البيض بملابسهم الثلجية إلى العمّال، لكن كثيرًا منهم كانوا يراقبون الطفل أكثر مما يحملون الحجارة، خشية أن يصيبه أذى.
كان يسير إلى جانبه نيرو، عباءته تجرّ خلفه ظلًا ثانياً، وعيناه لا تفارقان ميرلين، مستعدًا لحمايته من أي خطر، مهما كان صغيرًا.
لم يكن طول ميرلين مفاجئًا لأحد، فشعب آشـبورن يرى عائلته الملكية عمالقةً في الدم والروح.
فإن كان الملك يقف بطول عشرة أقدام، والملكة تسعة، فكيف لابنٍ لا يتجاوز كتف الرجل العادي أن يُقنع الناس بأنه وريث السلالة النبيلة؟
في نظرهم، الطفل الذي لا يعلو كغيره فرعٌ ضعيف من شجرةٍ جبارة.
قال آشر بهدوء، صوته بالكاد يسمع بين تساقط الثلج:
"تعالَ إلى هنا يا بني."
ما إن سمع ميرلين نداء أبيه حتى ترك عربته وركض نحوه، يركل الثلج بأقدامه الصغيرة، بينما تبعه نيرو بخطواتٍ رصينة.
قال نيرو بنبرةٍ متذمرة منخفضة:
"كنتَ مفترضًا تراقب وتتعلم، لا أن تدفع العربات."
ضحك ميرلين وهو يتقدم:
"راقبت... ثم جرّبت. أردت أتنافس مع الأوفوك، كان الأمر ممتعًا."
هزّ نيرو رأسه، شعره المجعد يهتز فوق كتفيه المدرّعتين.
"أخوك يتعلم المبارزة على يد أعظم فرسان المملكة، وله قائدا لورد يدرّبانه. أما أنت، فأول مهمة لك خارج القصر تنتهي بهذا الشكل!"
رمقه ميرلين بنظرة جانبية:
"أنت مو تعتبر أفضل فارس في آشـبورن؟"
لم يرد نيرو، فقط دفعه للأمام بخفة. تعثر الصبي قليلًا ثم رفع بصره، ليلتقي بعيني والده الذهبيتين.
عينا آشر، كشمسين هادئتين تشتعلان في الأعماق.
تحت ثقل ذلك البريق، خفق قلب ميرلين ومال برأسه احترامًا.
لكن آشر انحنى بدوره، أمسك بيدي ابنه الصغيرتين المليئتين بالشقوق والثلج، وأخرج من معطفه قطعة قماشٍ ومسحها بلطف.
"كيف كان العمل؟" سأل بابتسامة.
أجاب ميرلين وهو يبتسم بفخر:
"شعور رائع."
ضحك آشر بخفوت ومسح على شعره الزمردي، ثم نهض من جديد، ومشى متجاوزًا ولده، تاركًا سيف الملوك مغروسًا في الأرض كعظمٍ منسيّ لعملاقٍ قديم.
تأمل ميرلين سيف أبيه الضخم، أطول منه بكثير، واشتعلت في عينيه شرارة فضول. مدّ يده نحوه...
لكن نيرو أمسكه برفق وقال هامسًا:
"انظر جيدًا... إنه على وشك فعلها."
---
> [الشروط تحققت لترقية الجدار.
هل يرغب السيد في ترقية الجدار إلى الجدار العظيم الذي سيحيط بمملكة آشـبورن؟
نعم / لا]
أجاب آشر في داخله: "نعم."
وفي تلك اللحظة، توقف كل شيء. كأن الزمن نفسه حبس أنفاسه.
التفتت الأنظار جميعها نحو الجدار—العمّال، الحراس، الفرسان، حتى مخلوقات الأوفوك—نحو الجدار الذي لم يعلُ أكثر من قامة رجل، لكنه امتدّ بعرضٍ هائل، ثلاث مرات أوسع من أي بناء سابق.
ابتعد الجميع، حتى أشجع المقاتلين خطوا للوراء.
ثم... بدأ الأمر.
شعاع ذهبي نحيل، كإصبعٍ من نور، انحدر من السماء ولمس الجدار.
ليس في هذا الموضع فقط، بل في كل بقعة من قلب آشـبورن حيث بُنيت أسواره.
المدن، الحصون، القرى... كلها غمرها النور.
هرب من شاهدوه، تركوا أدواتهم وركضوا بين الرهبة والدهشة.
اهتزّت الأرض، وبدأ الضوء يتوهّج أقوى... فأقوى... فأقوى.
حتى لم يعد أحد قادرًا على النظر إليه.
ثم—
صمت.
انطفأ النور في ومضة، كغمضة عينٍ للسماء.
وحيث كان جدار منخفض يقف، ارتفع الآن عملاق من حجر.
جدار شاهق مئة قدم، متين لا يرى له شق، يقف كأبديةٍ صلبة.
لقد وُلد الجدار العظيم لآشبورن.