الفصل 523:
في قاعة مدمّرة، سقفها المنهار منذ زمنٍ بعيد سمح لضوء الشمس المتدفّق أن يغمر المكان بحرارته الذهبية. الحجارة القديمة كانت تلمع كأنها تحتضر في وهج الذاكرة، تتخللها شقوق تنطق ببطء اليد التي لا تُهزم للزمن.
الجدران، التي كانت يومًا منقوشة بشعارات الفخر ورايات المجد، لم تعد تحمل سوى الندوب: تشققات تمتد كعروق الشيخوخة والهلاك. أرض القاعة كانت مكسّرة وغير مستوية، نقوشها اندثرت، وبين فجواتها نبتت أعشاب صغيرة، كأن الطبيعة جاءت لتستعيد ما كان يومًا ملكًا لها.
أعمدة شاهقة كانت يومًا شامخة لا تنحني، الآن صارت منكسرة، بعضها مشطور نصفين، وبعضها مائل بثقل الجراح القديمة. ومع ذلك، ورغم الخراب، ظلت القاعة واقفة، كأثرٍ يتحدى الفناء، وكذكرى تأبى أن تنحني لقرون الانهيار.
في هذا المشهد، جلس عدد من الشخصيات على عروش حجرية ضخمة مصطفّة على جانبي القاعة، تواجه بعضها عبر اتساعها المستطيل. في أقصى الطرف، ارتفع منصة عالية تتوّجها عرش مكسور، عرش ضخم يئنّ من ثقل الزمن والحروب. ثلاثون درجة تقريبًا تقود إليه، كل درجة واسعة وعالية، كأنها صُممت ليشعر الصاعد بثقل طموحه. ومع ذلك، بقي العرش خاليًا. الجلوس عليه يعني إعلان السيادة على العالم بأسره، الادعاء بأن من يجلس هناك هو السيد الأعلى على الجميع. لم يجرؤ أحد على ذلك. حتى أبوليون، في زياراته النادرة والسرّية، لم يخاطر بأن يجلس عليه. كان عرشًا للأشباح، مثقلاً باللعنات والذكريات.
كل السادة والسيدات الحاضرين ارتدوا دروع الحرب، مصنوعة من الفولاذ ومعادن نادرة، تلمع تحت سيل الضوء. اختيارهم لتلك الهيئة لم يكن صدفة، بل تصريحًا صريحًا: هذه ليست جلسة سلام، بل مجلس حرب.
على الجانب الأيسر جلس أبوليون، إمبراطور غالفيا، مهيبًا وصارمًا، يحتل العرش الأول بثقل سلطته الصامتة.
إلى جواره جلس غريانت، إمبراطور سيرينيا، بوجهٍ قاسٍ يظلل تاجٌ فضيّ هامته، ودروعه مزدانة بزمرد لامع من راياته.
أما الثالث فكان سامسون، إمبراطور اللهب المقدس، بهيّ الحضور، درعه مذهب الحواف كأن النار نفسها قبّلته.
وخلفهم وقفت طبقة النبلاء — دوقات وكونتات وسادة — وجوههم قاسية، نظراتهم ثابتة، كلٌّ منهم سيفٌ يمثل إمبراطوريته.
وعلى الجانب الآخر، جلست آرتميس، ملكة القمر الفضي، على العرش الأول. درعها المفضض يلمع تحت ضوء الشمس كأنها امتداد له. بجانبها جلس فلاديمير، دوق نوبِس الأعلى، يرتدي دروعًا داكنة، وعباءته السوداء تنساب عند قدميه كامتدادٍ للظلال نفسها.
أما العرش الثالث فشغلته مورغانا، أميرة القمر الفضي ووريثته، جمالها الشاب مصقول ببرودة القيادة، وعيناها تشتعلان بطموح لا يلين. خلفهم وقفت حاشيتهم من النبلاء، يرتدون أبهى حُلَل الحرب، راياتهم مطوية، وسيوفهم قريبة من الأيدي.
قال أبوليون، وهو يميل رأسه قليلًا، بنظرة حادّة كحدّ السيف نحو مورغانا:
“هل من المفترض أن تجلس هناك؟”
صوته كان هادئًا، لكن في أعماقه تيار من السخرية حمل التحدي إلى كل ركنٍ من القاعة.
أجابته آرتميس بابتسامة جميلة لكنها مشحونة بالعزم، ليست دفئًا بل تحديًا ناعمًا:
“لقد نالت مكانها بجدارة.”
ضحك أبوليون بخفة ساخرة، زاوية فمه ترتفع باستهزاء:
“ليست حاكمة مستقلة. بالكاد هزمت فيلقًا واحدًا أرسلته.”
كانت كلماته كسكينٍ تغرز ببطء في جرح مفتوح.
تصلّب وجه آرتميس، عبست كأن الغيوم اجتمعت على جبينها.
قالت بصوت ناعم لكنه كالفولاذ:
“لم أنسَ ما فعلته في نايتفاير، ولا الأرض التي فقدتها بسببك.”
ضيّقت عينيها، يلمع فيهما بريق خطر، كأن ألف نصلٍ خفيّ ينتظر إشارة لينقضّ.
رفع أبوليون حاجبه، يتحدث ببرود متعجرف:
“لقد طهّرت الأرض من الحمقى الضعاف الذين لو تُركوا لأفسدوا العالم بأكاذيبهم.”
نطقها وكأنه يصف أمرًا عاديًا لا وزن له، وكأن إبادة أمة بأكملها لا تزيد على سحق ذبابة.
صرخت مورغانا، نبرتها مشتعلة بالغضب:
“لقد قتلتَ أمة كاملة لأنك لا تؤمن بأن السحرة يستحقون القيادة!”
تحوّلت نظرات أبوليون نحوها، عيناه تومضان كجمرٍ مشتعل.
تحدث بصوتٍ منخفض لكنه أقسى من الصراخ:
“وأنتِ وأمكِ تؤمنان بأن النساء فوق الرجال، بأنكن أسمى منهم في كل شيء. انظري حولكِ.”
أشار بيده نحو صفوف العروش.
“أنتما الاثنتان فقط من النساء هنا. ولولا جرأتك الفاضحة، لما جلستِ على ذلك المقعد.”
كانت كلماته هادئة، لكنها اخترقت القاعة كالشظايا.
الهمسات انتشرت بين النبلاء، أيادٍ تلمس سيوفها، والجو صار أثقل من الحديد.
قبل أن تنهض آرتميس، تدفقت قوتها.
الطاقة القتالية حولها اشتعلت، والسيوف الطيفية تومض من الهواء كأشباح الانتقام.
ضوء الشمس المتسلل من السقف المهدّم خفت فجأة، وسرى شحوب فضيّ في القاعة، كأن السماء نفسها انحنت لغضبها.
وتحوّل الضوء الذهبي إلى سيلٍ من الفضة، يعكس وجه قمرٍ صاعد.
صرخ غريانت بصوتٍ دوّى كالرعد، قاطعًا العاصفة قبل أن تُراق الدماء:
“كفى!”
اهتزّت القاعة بأمره، صوته يحمل سلطة من وُلِد ليُطاع.
كان غريانت آسر المظهر، أجمل من في المجلس. شعره الأسود الطويل ينساب كليلٍ بلا نجوم، يصل إلى صدره. بشرته ناصعة كالرخام المنحوت، وملامحه كأنها صيغت بيد إلهٍ نسي الرحمة.
حضوره كان طاقة هادئة، لكنها تفرض الخضوع كقانون الطبيعة.
قال بنبرةٍ صارمة:
“الجميع اجتمع… لكن الرجل الذي دعا لهذا اللقاء غير موجود؟ ما معنى هذا؟”
ارتفع صوت من مدخل القاعة، يحمل هيبة لا تُنكر:
“أعتذر… كنت أجهّز بعض الأمور قبل المجيء.”
من ظلال القوس المكسور، خرج رجل ذو شعرٍ أبيض، خطواته خفيفة لكنها واثقة.
إلى جانبه سار ذئب أبيض ضخم، جسده مشدود، فروه كالثلج، يزمجر بصوتٍ عميق يشبه الرعد البعيد، يحرس الطريق أمام سيده.
كانت إحدى عيني الذئب مغلقة، مشقوقة بندبةٍ عميقة عبر جفنه — أثر مخلبٍ قديم لا يزال حيًا رغم مرور الزمن. أما العين الأخرى فكانت كجوهرة دم، حدقتها الحمراء تلمع ببريق يخترق اللحم والروح معًا.
رمق القاعة بنظرة الصياد، كأنه يرى ما وراء الوجوه — الأسرار، الضعف، النوايا الخفية — كل شيءٍ عارٍ أمام عينه الوحيدة.