الفصل 114: الوليمة الكبرى (5)

رفع "بوستون تيرير" كأس النبيذ، الذي كان يغلي للتوّ، واحتساه دفعةً واحدة. وعلى ذات المنوال، ابتلع "غريت داين" قطعةً كبيرة من اللحم المشوي وهي لا تزال تفور.

قال الأول وهو يبتسم بمزاج رائق:

"هل لأنّ ابن أخينا هو من صنع النبيذ؟ الطعم لا يُقاوَم!"

أجابه الثاني، وهو يلعق شفتيه بتلذّذ:

"اللحم مطهوّ بهالة خريّج... إنّه طعام ملوكيّ بحق."

عندها، وجّه الكونتان أنظارهما الحادّة نحو "فيكير"، وكأنّهما قد عَزَما على ضمّه إلى فِرَق فرسانهما مهما كلّف الأمر.

أما "فيكير"، فقد كان غارقًا في أفكاره:

"من الأفضل أن أُظهر نفسي بمستوى خريّج من الدرجة المتوسطة فحسب."

في الحقيقة، سبق له أن كشف عن هذا القدر من قوّته في مناسباتٍ معدودة.

فحين فجّر برج الشمبانيا في نادي "بيرنينغ سسبينشن"، وحين التقى بسيدة الهاوية لأوّل مرة، لم يكن ما أظهره سوى مستوى الخريّج الوسيط.

لكنّ الفرق الآن... أنّه قد بلغ هذه المرتبة سرًّا، مرتبةٌ لا يبلغها حتى عباقرة آل "باسكرفيل" سوى عند منتصف الثلاثينيات من أعمارهم.

أما هو، فقد بلغها في سن السابعة عشرة. الأصغر في تاريخ العائلة. إنجاز كهذا كفيل بمحو جميع الأرقام القياسية الرسميّة التي سجّلتها عائلة باسكرفيل عبر تاريخها.

ألقى "فيكير" نظرةً خاطفة نحو أماكن جلوس الإخوة الثلاثة: "هاي برو" و"ميد برو" و"لو برو". كانوا يتناولون طعامهم في صمت، دون أن ينطق أحدهم بكلمة واحدة.

"يبدو أنهم لم يخبروا هوغو بما شاهدوه في الهاوية... لا أعلم السبب، لكنّه أمرٌ محمود. كنت أخشى أن أُضطرّ لكشف قدرتي الحقيقية، التي بلغت ذروة الخريّجين."

لهذا، قرّر "فيكير" في قرارة نفسه أنّ عليه، بعد انتهاء الوليمة، أن يُحكم الرقابة على الإخوة الثلاثة ويتأكد من كتمانهم لما رأوه.

في تلك الأثناء، كان "بوستون تيرير" و"غريت داين" لا يكفّان عن التغنّي بموهبة "فيكير".

قال أحدهما بابتسامة فخر:

"بمجرد أن لمست الطاولة وتردّدت الهالة، نضج اللحم وغلى النبيذ... هذا ليس شيئًا يُنجزه من يفتقر إلى السيطرة الدقيقة على الهالة. هاها، مذهل بحق! حين كنت في عمرك، بالكاد كنت خبيرًا بالسيف."

أضاف الآخر قائلاً:

"بلوغ مرتبة الخريّج دون إتقان السيطرة على الهالة أمرٌ مستحيل... إنّه عبقريٌّ لم تعرف باسكرفيل مثله قط. أما أنا، فلم أبلغ هذا المستوى إلا في سن الثالثة والثلاثين."

ففي عائلة باسكرفيل، لا يصل الكلاب الصيّادون العاديّون إلى هذا المستوى قبل سن الخامسة والثلاثين على الأقل. أما "فيكير"، فقد سبقهم بعشرين عامًا كاملة.

قال أحد الكونتين، موجّهًا الحديث إلى "هوغو":

"خريّج من الدرجة المتوسطة! لم أبلغ هذا المستوى إلا في سن الثالثة والثلاثين! وتراه يحقّقه في السابعة عشرة! لا أحد يُضاهيه في العالم أجمع!"

كانا مفتونين به إلى درجة لم تُخفَ على أحد، حتى "هوغو" نفسه بدا عليه الرضا، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيّة بالكاد تُرى.

ومن ثمّ، بدأ الثلاثة: "هوغو" و"بوستون تيرير" و"غريت داين"، يتبادلون أطراف الحديث حول "فيكير" وكأنّه نجم الحفل الأوّل.

لكنّ الأمر لم يتوقف عند ذلك.

ففي اللحظة التي انصرف فيها انتباه الكبار نحو مواضيع جانبيّة، انطلق صوت جديد، باردٌ كنسيم الموت، يخاطب "فيكير":

"أيها الشاب."

كان النطق دقيقًا، والنبرة مغموسةً في جليدٍ صافٍ لا شائبة فيه.

استدار "فيكير" نحو مصدر الصوت، ليقع بصره على ستائر من الشعر الأسود الطويل، وعينين حمراوين تتلألآن من بين الخصلات كسيوف من نار.

"أوزايريس لو باسكرفيل."

ذلك هو "أوزايريس لو باسكرفيل"، أقوى خريّجي العائلة حاليًّا، ووريثها الأول، والشخص الذي يتولى قيادة الأسرة في غياب ربّها.

لقبُه الرسميّ: قائد الأسرة الصغير.

وكان جالسًا الآن قبالة "فيكير"، بزاوية مائلة.

نظر "فيكير" مباشرةً في عيني "أوزايريس"، نظرة ثابتة لا تردد فيها، نحو كائن كان يُعدّ في نظره قبل الارتجاع، وجودًا مطلقًا، متعالٍ عن الإدراك، لا يُجرؤ المرء على لقائه ناهيك عن التحديق إليه.

أما الآن، فقد امتلك القوة والمهارة الكافيتين لمجابهته بندّية.

تلاقت العيون، دون أدنى ارتجاف.

تلك البرودة التي انبعثت من "أوزايريس" لم تُحرّك في "فيكير" شعرة.

ثمّ نطق "أوزايريس" أخيرًا:

"لقد أحسنت."

توسّعت حدقتا "فيكير" قليلًا في ذهول. أن يبادر هذا الرجل بالكلام، فهذا أمرٌ نادر. أن يمتدح؟! أمرٌ لم يكن ليتخيّله حتى في أكثر أحلامه جنونًا، وهو الذي لم يرَ منه في حياته السابقة إلا الجمود والرهبة.

لكنّ الدهشة لم تتوقّف هنا.

أردف "أوزايريس" قائلاً، دون أن يغيّر من نبرته المتجمّدة:

"أحسنت. استمرّ على هذا النهج، واصل سعيك."

كانت كلماته جليدية، صوته لا يحمل أيّ حنان ظاهر، بل قد يُخيّل للسامع أنه يوبّخ لا يُشيد.

وهذا بالضبط ما ظنّه "فيكير" الصغير قبل ارتجاعه.

لكن بعد أن كَبُر ونضج، أدرك أنّ ذلك لم يكن قسوة، بل حرارة خفيّة، حرارةٌ عاجزة عن التعبير، لا تظهر في ملامح الوجه ولا في الإيماءات، إنما تسكن بين السطور.

"…الآن، بعد أن رأيته مجددًا، لم يعُد يبدو مرعبًا كما ظننت."

انحنى "فيكير" قليلًا، وابتسم في داخله.

"لماذا بدا لي مرعبًا من قبل؟ أهو لأنّه ربّ الأسرة؟ أم بسبب هيبته وصوته الجاف؟ أم الفجوة الساحقة في القوة؟ أم لأنّه يكبرني بأكثر من عشر سنوات؟"

لكن الآن، "أوزايريس" في عمرٍ أصغر من ذلك الذي بلغه "فيكير" بعد ارتجاعه.

وهنا، بدأت تتكشّف له بعض السمات الخفيّة في هذا الرجل:

سوء استخدامه للسكين أحيانًا، انتقاؤه لمكوّنات الطعام التي لا تعجبه وتجنّبها خفية، تأثّره السريع بالكحول، ارتباكه لمجرد رائحةٍ نفّاذة، ولعبه المتكرّر بالمنديل أمامه، وكأنه يُهدّئ من توترٍ داخلي...

"يا للعجب... إن له جانبًا بشريًا."

حينما تُزيح عن ذهنك صورة "الرجل المثالي البعيد المنال"، يمكنك أن ترى الإنسان الحقيقي خلفها.

أوزايريس لو باسكرفيل، لم يكن ذلك الكائن الخارق عديم الدمعة الذي صوّره العالم، والذي كان "فيكير" يعتقد بوجوده في حياته السابقة.

وفجأة...

"أوه، الأخ الكبير يمدح شقيقه الأصغر؟ هذا حدث نادر."

سمع "فيكير" صوتًا جديدًا ينبعث من جانبه.

وحين التفت، رأى رجلاً وسيمًا ذا بشرة بيضاء شاحبة، يغمز له بعينٍ مرحة.

رجل ذو شعر داكن ودوائر سوداء بارزة تحت عينيه، توحي بأرق مزمن أو حياة مليئة بالأسرار.

لم يكن سوى أصغر أبناء "هوغو"…

"سيث لو باسكرفيل."

اقترب "سيث" من "فيكير" وهو يبتسم بودّ، وقال بنبرة هادئة:

"ما رأيت "أوزايريس هيونغ" يمدح أحدًا من قبل. بل ويبتسم أيضًا."

…ابتسامة؟

نظر "فيكير" مجددًا إلى "أوزايريس"، الذي كان لا يزال يقطع شريحته من اللحم دون أدنى تعبير.

بل كانت ملامحه تبدو كأنّه غاضب.

"لهذا، كان الجميع يخاف منه قبل ارتجاعي."

لكن، برغم ما بدا على وجهه، فإنّه كان يبتسم. نعم… ابتسامة.

"…"

حين لم يُجب "فيكير"، ضحك "سيث" بخفة وقال:

"أنت أيضًا تُجيد إخفاء مشاعرك مثل "هيونغ"؟ حسنًا، يبدو أنّ هذه عادة عائلية. كلنا هكذا. صامتون متجمّدون. يا للأسف."

كان "سيث" أكثر تعبيرًا ودفئًا من بقية أفراد العائلة، بل وكان مختلفًا عنهم تمامًا.

نظر إليه "فيكير" بنظرة مزيجٍ من الترقب والحذر.

"سيث باسكرفيل" الذي عرفه في الماضي، كان رجلًا طيّبًا.

ضعيفًا في فنون السيف، جبانًا أحيانًا، لكنه دقيق العناية بكل أفراد العائلة. حتى أنه كان يواسي الخادمة الجديدة المرتبكة بلطف، ويحاول تهدئتها.

بل كان الوحيد من العائلة الذي يضع أزهار الأقحوان على قبور كلاب الصيد الراحلة.

دموعه التي ذرفها على إخوته الصغار الذين ماتوا لأجل أبيه وأخيه، لا تزال ماثلةً في ذاكرة "فيكير".

والمشاهد المؤلمة حين كان يُهمل ويُستهزأ به لضعفه، فيذهب إلى حديقة الزهور باكيًا وحده، كانت محفورة في قلبه.

حتى بعد الارتجاع... ظلّ الوضع على حاله.

"هوغو" و"أوزايريس" بالكاد كانا يعترفان به.

ففي عائلة تُقدّس القوة، كان من الطبيعي أن يُحتقر "سيث" لضعفه.

ولهذا، لطالما شعر "فيكير" بالشفقة عليه... بل وأُعجب به.

فقد كان سندًا للضعفاء، ولم يطلب يومًا شيئًا في المقابل.

…لكنّ الأمور الآن مختلفة.

تذكّر "فيكير" ما أخبرته به "سيندي ويندي" البارحة:

> [سيث لو باسكرفيل]

المنصب: قاضي مدينة "أندر دوغ" – عضو المجلس الأدنى

اللقب: فيسكونت الظل (影爵)

المرتبة: خريّج من الدرجة المتوسطة

الشخصية: لطيف، دافئ، ضعيف البنية، معدوم الموهبة في المبارزة، مكروه من هوغو، محبوب بشدة بين صغار العائلة.

ظل منصب قاضي الأندر دوغ شاغرًا طويلًا، وخرج مؤخرًا من تدريبٍ مغلق لحضور الوليمة الكبرى...

كل المعلومات التي كان "فيكير" يعرفها مسبقًا، سُطّرت هناك...

لكن في السطر الأخير، ظهرت حقيقة لم يكن يتوقّعها قط:

"يُشتبه في أنّ "سيث لو باسكرفيل" ليس بشريًا."

2025/07/06 · 7 مشاهدة · 1223 كلمة
ZeroMove
نادي الروايات - 2025