الفصل الثالث: غارق في الأوهام
الليل يزحف مثل دخان أسود، يبتلع كل شيء. القمر انزلق خلف الغيوم، كأنه خائف أن يشهد ما سيحدث.
يمشي آشوراز بخطوات ثقيلة، يجرّ قدميه فوق التراب، يسمع صريره كأن الأرض تئن من وزنه. قلبه يخبط في صدره، أقوى من أي صوت آخر.
"كيف وصلتُ إلى هنا…؟ آخر ما اذكره اني كنت مع شين في التدريب. هل سحبني إلى هذه الغابة؟"
ابتسم ابتسامة مرة:
— ليس غريبًا عليه، يريد قتلي تحت ذريعة التمرين.
صوت بومة يخرق السكون. ثم نباح ذئب بعيد. كل الأصوات تجمعت كجوقة تحذر الغريب: "ارجع". لكن خطواته استمرت.
في البعيد ظهر بيت قديم، خشبه متشقق، نوافذه تنزف ضوء شموع باهت. اقترب منه، طرق الباب، فانفتح وحده…
دخل. حين التفت ليغلقه، لم يجد بابًا أصلا.
قشعريرة زحفت على جلده. فجأة… صوت بكاء طفل.
ركض نحوه. وجد صبيا صغيرًا يضم جثة. لم يرَ الملامح بوضوح، لكن قلبه تجمد.
— ل… لويد؟!
الجثة تحركت، والطفل رفع رأسه. عينان خاويتان، وجرح ينزف على بطنه.
— كله بسببك! — صرخ بصوت أخيه. — لولا غباؤك كنتُ حي. أمّي… أبي… كلهم كانوا أحياء. لكنك كنت تغار… كنتَ تكره أني أفضل منك.
— لا… لا لم أقصد… كان خطأ… صدقني.
— اعترف! ألم تتمنّ موتي؟
آشوراز وقع على ركبتيه، يمسك رأسه، دموعه تنزل.
"نعم… جزء مني تمنى. لم أرد موته، لكن تمنيت… أن يزول تفوقه عني."
صوت بعيد اخترق الظلام:
— آشوراز… ركّز… هذه أوهام. قاوم.
البيت تلاشى، الأرض انشقّت.
اللاوعي ابتلع كل شيء، صار مسرحًا مظلمًا بلا جدران.
وها هو "لويد الوهم" يقف أمامه، يبتسم بسخرية.
— أنت لست أخي… مجرد وهم رخيص.
— بل أنا حقيقتك… ما تخشاه وما تتمنّاه.
انبعث سيف من العدم بيد كل منهما. قبض آشوراز على نصله، شعر بالبرودة تتسرب لعروقه.
هواء ثقيل خيّم، ثم… انطلقت الضربة الأولى.
سيف لويد اخترق الفراغ، صرير المعدن مزّق الصمت. آشوراز صدّها، الشرارة تناثرت مثل شظايا نجوم، أضاءت الظلام للحظة.
انفجار هواء أعقب التصادم. كأنّ السيوف لم تصطدم وحدها، بل إرادتان كاملتان.
لويد يهاجم بسرعة، ضرباته كالمطر. كل ضربة تحمل ذكرى موت، كل صرخة فيها وزن دماء العائلة.
آشوراز يتراجع، يتنفس بصعوبة، عرقه يتصبب.
— كل مرة ترفع فيها سيفك… أتذكّر أنني مت بسببك!
انقضّ لويد بدوران حاد، سيفه يشقّ الظلام. آشوراز انحنى في اللحظة الأخيرة، شعر بحدّ السيف يقطع شعره. الهواء حولهما تفتت، دوامة غبار تصاعدت.
صرخ آشوراز:
— انت مجرد كذبة!
قفز للأمام، سيفه يلمع بضوء أصفر خافت. اصطدم مجددًا. الشرر غطى عينيه، صوتهما كالرعد.
خطوة للوراء، ثم للأمام. كل ضربة تزلزل الأرض.
أقدامهما تركت حفرًا في اللاوعي. الجدران الوهمية تحطمت، المشهد صار بلا أفق.
لويد يضحك بمرارة:
— اعترف… قتلْتني مرتين. مرة في المعركة… ومرة الآن. أليس شعورًا جميلًا؟
— اصمت!
اندفع آشوراز بكل قوته. تركيزه صبّ في نصل السيف. هالة صفراء غلّفت جسده، والهواء حوله اهتز.
اندفع مثل سهم، اخترق دفاع لويد، وغرز سيفه في صدره.
توقف الزمن للحظة. لويد ابتسم ابتسامة غريبة، عيناه الواسعتان فارغتان:
— ها قد فعلتها… ثانية.
ثم تفتت الجسد إلى غبار أسود، تلاشى في الفراغ.
بقي آشوراز وحده، يتنفس كمن خرج من بحر. ركبتيه ترتجفان، عينيه دامعتان.
"انتصر… لكنه خسر شيئًا لا يعرف اسمه. ربما نفسه."
سقط سيفه من يده، وارتطم بصدى أجوف.
رفع رأسه للسماء السوداء، لكنه لم يرَ إلا ظلامًا يتقلّب، وكأنه يضحك عليه.
— حتى لو كانت أوهام… أنا المذنب.
سقط على الأرض، وترك الصمت يبتلعه.
.....يتبع....