أطرافي قد شُلَّت. شعرت بخدر يغمر جسدي، لكن أكثر ما أقلقني هو ذلك الشخص الذي كان فوقي. شعره الأشقر المنسدل كان يتلألأ تحت ضوء خافت، وقطرات العرق تنساب ببطء على جبينه.
ابتسم لي، ابتسامة غريبة جمعت بين الهدوء والقلق. وضع يده الدافئة على جبيني، وفي صوته نبرة مطمئنة، قال:
“حركي فمك…”
ثم مد إصبعه برفق نحو شفتي، وكأنه يختبرني. حاولت بجهد كبير أن أتحرك، أن أستجيب. شعرت بأن جسدي يثقلني، لكنني استطعت أن أجر شفتي قليلاً. رأيت الارتياح يملأ ملامحه، وكأنه حصل على إجابة كان ينتظرها بشغف.
“حواسك عادت،” قال مطمئناً وهو يبعد يده ببطء.
بدأت الأجهزة المحيطة تُفصل عني، الواحدة تلو الأخرى، وكأنها كانت تربطني بعالم غير هذا. نظرت حولي، وجدت نفسي في غرفة مزينة بألعاب محشوة ودمى وزهور متناثرة في كل مكان. المكان بدا وكأنه مسرح لطفولة ضائعة، لكنه غريب عني تماماً.
لم أكن وحدي طويلاً. الباب فتح، ودخل رجل وامرأة يبدوان من عالم مختلف تماماً. الرجل، في الخمسينات من عمره، كان متوسط الطول، أنيقاً بطريقة كلاسيكية. ملابسه الفاخرة بدت قديمة الطراز، لكنها مرتبة بعناية. شعره الأبيض اللامع كان مصقولاً بشكل مثالي، وعيناه الفضيتان اللامعتان تحملان مزيجاً من الجدية والشفقة. وجهه، رغم خطوط العمر، كان وسيماً بطريقة مدهشة.
أما المرأة، فبدت أصغر سناً، في الأربعينات ربما. كان شعرها البني مرفوعاً بأناقة، مع غرة خفيفة تلامس جانب وجهها. عيناها الزرقاوان كانتا صافيتين كسماء بلا غيوم، وبشرتها ناعمة بلا شائبة. كانت ترتدي ثوباً بسيطاً بلا زخارف، لكنه أنيق بطريقة خجولة.
كانت عيونهما مليئة بالعواطف المتناقضة: الحزن والفرح، الخوف والأمل.
تقدمت المرأة نحوي بخطوات حذرة، وجلست بجانبي. أمسكت وجهي بين كفيها المرتجفتين، وبدأت تتأملني وكأنها تحاول التأكد من أنني حقيقية.
“أرورورا… عزيزتي!”
كان صوتها مفعماً بالعاطفة، والدموع بدأت تنهمر من عينيها. احتضنتني بقوة، وكأنها تخشى أن أفلت من بين يديها.
“حمداً لله… لقد اشتقنا إليك. كنت أظن أنني فقدتكِ للأبد!”
لم أستطع الرد. بقيت صامتة، مشدوهة. المشاعر التي غمرتني كانت أكبر من أن أستوعبها.
كلمات الأب
الرجل، الذي بدا أكثر تماسكاً، وضع يده على كتفها بلطف وقال:
“إلينور، أعطيها بعض الوقت. إنها لا تتذكر شيئاً الآن.”
نظرت إليه المرأة بدهشة، ثم قالت بتوسل:
“لكنني مشتاقة لها… أريد فقط أن أطمئن.”
أجابها بصوت هادئ مليء بالحكمة:
“لا تقلقي، ستعود إليها ذاكرتها. دعينا نساعدها على التذكر ببطء.”
ثم التفت نحوي وابتسم بلطف، قائلاً:
“أنا عثمان فاليسكا، وهذا اسمكِ يا صغيرتي. أنتِ ابنتنا، أرورورا فاليسكا.”
أحسست بأن العالم يدور حولي. من أنا؟ هل هذا اسمي حقاً؟ الكلمات علقت في حلقي، ولم أتمكن من النطق.
وضع يده برفق فوق يدي، وقال بنبرة مشجعة:
“لا تخافي. خذي وقتك لتستعيدي ذكرياتك. الآن، استريحي فقط.”
ثم اقترح على المرأة:
“لماذا لا تعدين طبقها المفضل؟ قد يساعدها ذلك على التذكر.”
ابتسمت المرأة بامتنان وغادرت الغرفة بحماس واضح. أما هو، فبقي جالساً بجانبي للحظات. أمسك بخدي برفق، وقال بصوت هادئ:
“استريحي الآن، ما زلتِ متعبة.”
غطاني بالبطانية وقبل جبيني كأب يغمر طفلته بالحب والحنان، ثم غادر الغرفة.
بقيت وحدي، مشوشة ومثقلة بالأسئلة. من أنا؟ وأين أنا؟ نظرت حولي بعينين قلقتين، ثم وقعت عيناي على مرآة كانت في زاوية الغرفة. نهضت ببطء، وقدماي ترتجفان تحت ثقل جسدي.
وقفت أمام المرآة، ورأيت انعكاساً لم أعرفه. مددت يدي ببطء نحو وجهي، وكأنني أحاول التأكد من أنني حقيقية. خدودي الوردية كانت ناعمة كخدود الدمى، وملامحي أقرب للكمال. جررت خدي برفق، لكن الألم الذي شعرت به أكد لي أن هذا ليس حلماً.
صفعت نفسي بقوة، لكن الألم جعلني أقفز مكانها وأتأوه بصوت عالٍ.
“هذا حقيقي…”
نظرت مجدداً إلى المرآة وهمست:
“اهدئي يا إيونبي… ما الذي يجري هنا؟”
حينها، بدأت الحقيقة تتسرب إلى عقلي كضوء خافت. أنا لست أرورورا فاليسكا. أنا إيونبي. كنت أعيش حياة عادية كممرضة، أقضي أيامي في العمل، وأهرب إلى عالم الروايات في وقت فراغي.
لكن الآن… روحي تسكن جسداً غريباً.
تذكرت روايتي المفضلة، “أنتِ ملكي”. الرواية التي كنت أعشقها وأعيد قراءتها مراراً. شعرت بصدمة تخترقني. هل أنا داخل الرواية؟
بينما كنت غارقة في أفكاري، فتح باب الغرفة، ودخل الشاب الأشقر الذي كان فوقي حين استيقظت. كان في منتصف العشرينات، بملامح وسيمة وابتسامة خفيفة.
“كيف تشعرين؟” سألني بصوت هادئ.
حاولت أن أتمالك نفسي وقلت بصوت ضعيف:
“أنت الطبيب؟”
ابتسم وأجاب:
“نعم، أنا كايل ستراثمور، طبيب العائلة.”
شعرت بصدمة أخرى تعصف بي. كايل ستراثمور! إنه أحد الشخصيات في الرواية، الشخص الذي كنت أشفق عليه أكثر من الجميع. إنه الطرف الثالث، الذي تحطمت أحلامه بسبب البطلة.
قلبي بدأ ينبض بقوة.
“هل أنا… داخل الرواية؟”
بينما كنت أستوعب الأمر، اقترب مني كايل، أمسك يدي بحذر، وبدأ يثبت الكانيولا برفق في ذراعي.
“لا تقلقي، سيكون الأمر بسيطاً.” قالها بابتسامة مطمئنة، ثم وضع اللاصق الطبي بحذر.
“استريحي الآن، آنسة أرورورا.”
لكني لم أعد أرورورا… أنا إيونبي، والآن عالقة داخل عالم لم أتخيل أن أكون جزءاً منه.
بينما كان يضع المهدئ في المغذي، بدأت أشعر بالنعاس. غلبني الإرهاق، وأغمضت عيني ببطء. آخر ما رأيته كان ابتسامته المطمئنة، وأفكاري تتلاشى في الظلام.
نظر كايل إلى أرورورا النائمة، وتأمل ملامحها للحظات. كانت تشبه دمية جميلة وضعت بعناية على رف.
“يا لها من مسكينة…” قالها بصوت منخفض، بينما يضع يده الباردة على جبينها.
لمح أثر الصفعة على خدها، وتنهّد بحزن. لمس وجهها برفق، وتمنى لها الشفاء بص
مت.
ثم غادر الغرفة، متمنياً لها الشفاء العاجل…..
The third party does not want to love again
2