3 - السقوط إلى الوجود

عرش العدم – الفصل الثالث: السقوط إلى الوجود

لم يكن هناك لون.

لم يكن هناك صوت.

لم يكن هناك إحساس بالجسد، لأن الجسد لم يكن موجودًا أصلاً.

لكن رغم ذلك، كان المنكر يشعر بالسقوط.

لم يكن سقوطًا في الفراغ، لأن الفراغ نفسه لم يكن موجودًا هنا، بل كان سقوطًا في شيء مختلف… سقوطًا في الوجود.

كان وعيه يتشظّى، يتمدد عبر طبقات من المفاهيم التي لم يكن لها اسم، يمر عبر كيانات لم تدركه ولم يحاول إدراكها، ينساب كأنما هو فكرة تحاول الالتحام بالواقع لأول مرة.

ثم…

اصطدم.

لم يكن الاصطدام جسديًا، لكنه كان نهائيًا.

كانت تلك اللحظة التي انفصل فيها عن الفراغ المطلق، وتكوّن كشيء.

هوية.

للمرة الأولى، لم يكن مجرد فكرة، لم يكن مجرد رفضٍ يطفو في العدم.

كان هنا.

كان موجودًا.

فتح عينيه.

أمامه امتدت أرضٌ شاسعة، مساحات سوداء ممتدة بلا نهاية، كما لو كانت نسيجًا متشققًا من ظلالٍ متجمدة. السماء لم تكن زرقاء أو رمادية أو حتى سوداء، بل كانت فارغة.

ليس الفراغ الذي يمكن وصفه، بل فراغًا حقيقيًا، كأن لا شيء يوجد فوقه سوى العدم.

شعر بشيء يشبه النفس الأول.

لكن هذا لم يكن تنفسًا حقيقيًا. لم يكن يملك رئة أو قلبًا أو حتى دمًا يجري في جسده. ومع ذلك، كان هناك… وجود.

رفع يده، ونظر إلى نفسه.

لم يكن بشريًا. لم يكن شيئًا محددًا.

كان جسده متغيرًا، كما لو أنه لم يقرر بعد أي شكل سيتخذه. كلما نظر إلى نفسه، كانت التفاصيل تتبدل، تتغير، تتلاشى وتظهر من جديد.

كأن الوجود لم يقرر بعد كيف سيقبله.

ثم جاء الصوت.

> "لقد وصل."

لم يكن الصوت صدى في الهواء، لم يكن موجة تهتز، بل كان فكرة تُزرع مباشرة في وعيه.

استدار.

وهناك، في الأفق البعيد، وقفت الكيانات الأولى.

لم تكن كائنات عادية، بل كانت أشكالًا غير ثابتة، كيانات تتغير كما تغيرت السماء من حولهم.

لم يكن لهم وجوه، لكن كان لهم وجود.

وللحظة، وقفوا هناك، يراقبونه كما لو أنهم كانوا في انتظاره منذ زمن طويل.

تقدم أحدهم.

لم يتحرك بقدمين، لأنه لم يكن له جسد، لكنه اقترب، ووقف أمام المنكر مباشرة.

ثم تحدث.

> "أنت… خطأ."

لم تكن هذه الكلمة اتهامًا، ولم تكن غضبًا.

كانت… ملاحظة.

المنكر لم يرد.

لكنه ابتسم.

أو على الأقل، ما عكسه وجهه المتغير كان ابتسامة.

"وإذا كنت كذلك؟"

لم تكن هذه كلمات نُطقت، بل فكرة أُرسلت، تمامًا كما فعل الكيان الذي أمامه.

كان هذا الحوار الأول، لكنه لم يكن بين اثنين.

بل بين شيء وواقع.

وقف الكيان أمامه للحظة، ثم رفع ما يشبه يده، وأشار إلى الأفق.

> "انظر."

نظر المنكر.

ورأى العالم.

لم يكن هذا مجرد مكان، لم يكن مجرد كوكب أو بعد أو كون، بل كان منظومة كاملة، شبكة متداخلة من الأكوان التي امتدت بلا حدود.

عالم يحكمه التوازن.

عالم يرفض وجود ما هو غير متوازن.

عالم… يريد طرده.

في تلك اللحظة، فهم المنكر شيئًا جديدًا.

لم يكن مجرد دخيل.

بل كان تحديًا.

كان أول خطأ يظهر في نظام لا يقبل الأخطاء.

وكان هذا العالم كله عدوه.

> "لن يسمحوا لك بالبقاء."

قال الكيان ذلك بصوت محايد، لا يحمل تهديدًا أو ترحيبًا.

لكن المنكر لم يكن بحاجة إلى تحذير.

لأنه فهم ذلك منذ اللحظة الأولى التي سقط فيها إلى هنا.

ولأول مرة، تردد سؤال في وعيه.

"هل أنا وحدي؟"

لكن الجواب لم يأتِ من الكيان الذي أمامه.

بل أتى من مكان آخر.

من داخله.

لأن الحقيقة كانت واضحة.

هو لم يكن الوحيد.

لم يكن الأول.

لكنه كان الأقوى.

وفجأة، اهتز العالم.

لم يكن اهتزازًا في الأرض أو في السماء، بل كان اهتزازًا في قوانين الوجود نفسه.

كما لو أن

الحقيقة بدأت تتغير…

وكأن شيئًا كان يُعاد تشكيله.

ابتسم المنكر مرة أخرى.

ثم، ولأول مرة، رفع يده.

كانت هذه بداية الصراع.

بداية الفوضى.

بداية سقوط التوازن.

… وبداية حكم المنكر.

نهاية الفصل الثالث

2025/03/21 · 3 مشاهدة · 622 كلمة
Hibari
نادي الروايات - 2025