الفصل الرابع: الصدع الأول
لم يكن العالم ساكنًا.
منذ اللحظة التي رفع فيها المنكر يده، بدأ شيء غير مرئي بالاهتزاز. لم يكن اهتزازًا محسوسًا، بل كان كما لو أن الهواء نفسه يرتجف، كما لو أن الحقيقة بدأت تتزعزع عند نقطة ما.
الكيان الذي كان أمامه لم يتحرك، لكن بقية الكيانات من حوله بدأت في التراجع، كما لو أن وجوده أصبح خطرًا لا يمكن تجاهله.
"لقد بدأ بالفعل…" جاء الصوت مرة أخرى، هذه المرة من جهة أخرى، من أحد الكيانات التي راقبته بصمت.
نظر المنكر نحوهم، عينيه – أو ما يشبه العيون – تتوهج بلون غير ثابت. لم يكن متأكدًا مما يحدث، لكنه كان يشعر به بوضوح. كأن القوانين نفسها بدأت تتصدع، كأن الوجود يحاول التكيف مع وجوده، لكنه يفشل مرارًا وتكرارًا.
ثم سمع صوتًا آخر، هذه المرة من داخله، صوتًا لم يكن ينتمي لهذه الأكوان.
"أنت أول من نجح."
لم تكن هذه كلمات عادية، بل كانت… كشفًا.
أدار رأسه ببطء، لكن لم يكن هناك أحد. فقط الفراغ المطلق، ذلك المكان الذي أتى منه، حيث لا شيء يمكن أن يوجد. لكن مع ذلك، كان هناك شيء يراقبه من العدم، شيء لم يقرر بعد إن كان عليه أن يظهر أم لا.
لم يهتم.
كان أمامه مهمة واحدة الآن، وكان يعلم جيدًا أن أول شيء عليه فعله هو اختبار قوته.
رفع يده ببطء، وبمجرد أن فعل ذلك، تراجعت الكيانات خطوة أخرى إلى الوراء. لم يكن هناك تهديد واضح في حركته، لكنه كان كافيًا ليجعلهم يدركون أن هذا الكيان ليس مثلهم.
الكيان الأول تحدث من جديد، لكن هذه المرة بنبرة مختلفة، ليست محايدة تمامًا كما كانت قبل قليل.
"إذا كنت هنا… فهذا يعني أن التوازن مهدد."
أمال المنكر رأسه قليلًا. "التوازن؟"
"العالم ليس كما تعتقده، أيها الكيان غير المنتمي. كل شيء هنا يعمل وفق نظام محدد، وفق معادلة أزلية لا تقبل التغيير. وجودك… هو خطأ في تلك المعادلة. ولا يمكن السماح للخطأ بالبقاء."
"خطأ؟" ابتسم المنكر بسخرية. "عجيب… ألستم أنتم من أنشأ هذه القوانين؟ كيف يمكن أن يوجد خطأ في شيء يُفترض أنه مثالي؟"
لم يجب الكيان، لكنه بقي في مكانه، كما لو أنه لم يكن قادرًا على إنكار ما قاله المنكر.
كان هناك توتر غير مرئي في الهواء. المنكر لم يكن يحتاج إلى كلمات ليشعر بذلك، كان يعرف أنهم مترددون. لم يكنوا متأكدين من كيفية التعامل معه، وهذا ما جعله يدرك أنه أقوى مما اعتقد.
لم يكن يعرف كيف، ولم يكن متأكدًا مما يعنيه ذلك، لكنه شعر بشيء ينبض داخله، شيء يشبه الطاقة، لكنه ليس طاقة. لم يكن مانا، لم يكن هالة، لم يكن أي شيء ينتمي لهذا العالم.
كان… الرفض.
الرفض المطلق للواقع كما هو.
مد يده إلى الأمام، ولم يكن عليه أن يفكر في الأمر كثيرًا، لأن العالم استجاب فورًا.
ظهرت شقوق سوداء في الهواء، كأن الفضاء نفسه بدأ بالتمزق. لم تكن مجرد شقوق عادية، بل كانت… ثغرات.
ثغرات في النظام.
نظر الكيانات إلى تلك الشقوق، وللمرة الأولى، رأى عليهم ما يشبه الذهول.
"غير ممكن…" تمتم أحدهم، بينما تراجع الآخرون أكثر.
لكن الكيان الأول بقي مكانه.
ثم، بدون أي تحذير، رفع يده أيضًا.
وبمجرد أن فعل ذلك، استجاب العالم له.
خطوط من الضوء الأزرق انبثقت من العدم، كأنها خيوط غير مرئية، تربط كل شيء ببعضه البعض. امتدت تلك الخيوط نحو الشقوق السوداء، وبدأت تحاول إغلاقها.
لكن المنكر لم يكن لينتظر.
لم يكن يعرف بالضبط ما يفعله، لكنه لم يكن بحاجة إلى ذلك. كل ما كان يعرفه هو أنه لا يقبل.
وفور أن صرخ رفضه داخل عقله، اهتزت الشقوق بعنف، ثم… انفجرت.
المكان كله اهتز. لم يكن اهتزازًا عادياً، بل كأن قوانين الفيزياء نفسها تمزقت للحظة.
تراجع الكيان الأول ببطء، لكنه لم يظهر أي علامة على الخوف، فقط الملاحظة.
"إذن… هذه هي قوتك؟"
نظر إليه المنكر بصمت، قبل أن يبتسم ببطء. "ليست قوتي… بل حقيقتي."
لم يكن هذا مجرد تباهٍ، بل كان… إعلانًا.
إعلانًا بأن القوانين لم تعد قادرة على السيطرة عليه.
وهذا، بالنسبة للعالم، كان إعلان حرب.
"لا يمكنك البقاء هنا."
"ومن الذي سيمنعني؟"
لم يجب الكيان، لكنه أشار بيده إلى الأعلى.
نظر المنكر للأعلى، وللمرة الأولى، رأى شيئًا غير الفراغ.
رأى… السماء تتشقق.
كانت الشقوق تمتد مثل عروق سوداء، كأن العالم بدأ ينهار بالفعل. لكن هذه المرة، لم تكن شقوقه، بل استجابة العالم ذاته.
لم يكن هذا مجرد دفاع، بل كان إجراء طارئ.
لأنه، في اللحظة التي بدأ فيها المنكر بالوجود، بدأ العالم بالبحث عن طريقة للتخلص منه.
وفجأة، بدأ الضوء ينهمر من تلك الشقوق. لم يكن ضوءًا عاديًا، بل كان شيئًا مختلفًا، شيئًا لم يكن ينتمي لأي طيف معروف.
كان… "التوازن المطلق."
كان الحل الأخير الذي تستخدمه المعادلة عندما يظهر شيء لا يمكن إصلاحه.
وعندما لامس الضوء الأرض، بدأ كل شيء يتلاشى.
كل شيء… ما عدا المنكر.
وقف هناك، يراقب كيف أن الواقع يحاول إعادة كتابة نفسه، يحاول تصحيح الخطأ.
لكنه لم يكن خطأ.
كان النقطة التي لم تُحسب.
كان الشيء الذي لا يمكن استيعابه.
والآن، كان أمامه خياران:
إما أن يسمح للواقع بمحو وجوده،
أو…
أن يرفض.
ابتسم ببطء.
لقد كان يعرف جوابه منذ البداية.
رفع يده مجددًا،
لكن هذه المرة، لم يكن فقط لإحداث صدع بسيط.
بل… لإعادة تشكيل القوانين نفسها.
وفي تلك اللحظة، تغير كل شيء.
—
نهاية الفصل الرابع