وقفتُ في مكاني، أنفاسي لا تزال غير منتظمة، والعرق البارد يلتصق بجبيني. كنت أكره هذه الحياة، أكره كل شيء فيها. حتى في النوم، لم أجد راحة. كل شيء يلاحقني، كأنني مطارد من قِبل لعنة لا فكاك منها.
نظرت إلى الأفق. الرمال تمتد بلا نهاية، كأنها محيط لا شاطئ له. لم يكن لدي خيار سوى المتابعة. عطشي كان يزداد، وجسدي كان يضعف، لكن التوقف لم يكن خيارًا.
"عليك أن تجد الماء."
كانت تلك الفكرة الوحيدة التي تبقت لي٬فذلك الماء السابق لم يكن يكفي
بدأت أسير ببطء، الرمال تحت قدمي كانت ساخنة رغم برودة الليل، وكأن الصحراء تخزن حرارة الشمس لتعذبني حتى في الظلام. كنت أتحرك بخطى ثقيلة، متعبة، لكنني لم أكن أريد التوقف.
كل خطوة كنت أخطوها كانت تشعرني وكأنني أغوص أكثر في هذه الأرض الميتة. لكنني لم أكن وحدي.
بعد وقت لم أعد أستطيع حسابه، شعرت بشيء غريب.
كان الهواء ساكنًا تمامًا، لم يكن هناك صوت للريح، لا حركة، لا حياة. شيء ما لم يكن طبيعيًا.
توقفت، نظرت حولي. الرمال كانت كما هي، الصحراء تمتد بلا نهاية... لكن شيئًا ما كان خطأ.
ثم، شعرت بشيء يتحرك تحت قدمي.
اتسعت عيناي، وابتعدت بسرعة، فقط لأرى الرمال تنتفض كما لو كانت تتنفس. ثم... خرجت العظام.
عظام بشرية.
في البداية، كانت مجرد أصابع هزيلة تظهر من تحت الرمال، ترتجف وكأنها تحاول الخروج من قبرها. ثم بدأت الأذرع تبرز، ثم الجماجم، ثم الأجساد كاملة.
كانوا يخرجون بالعشرات، لا، بالمئات.
هيكل عظمي تلو الآخر، ينهض من تحت الرمال، عظامهم تصدر طقطقات مخيفة مع كل حركة. لم يكن هناك لحم، لا جلد، مجرد عظام قديمة، لكنها لم تكن هشة. كانت متينة، وكأنها لم تنتمي لأي بشر عاديين.
تراجعت للخلف، وضعت يدي على سيفي، لكنني لم أكن أعرف إن كان السيف سينفعني هذه المرة.
بدأت الجماجم تتحرك نحوي، أعينها فارغة لكنها كانت تنظر إليَّ، وكأنها تدرك من أكون.
"لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا..."
لكن الصحراء كانت تبتلع كل ما هو منطقي.
صرخت الهياكل العظمية بصوت لم يكن صوتًا بشريًا، بل كان أشبه بصدى قادم من أعماق القبور. ثم، دون أي تحذير، هجموا.
أخرجت سيفي، ضربت أقرب واحد منهم بكل قوتي، هشّمت جمجمته، فتطايرت عظامه في كل اتجاه. لكن ما رأيته بعدها جعل الدم يتجمد في عروقي.
العظام لم تسقط، لم تتحطم بالكامل، بل بدأت تتجمع مرة أخرى، وكأن قوة خفية تعيدها للحياة. بعد لحظات، وقف الهيكل العظمي أمامي مجددًا، كأن شيئًا لم يحدث له.
"مستحيل..." همست، وأنا أشعر بالرعب يزحف إلى داخلي.
وجهت ضربة أخرى، ثم أخرى، حطمت ثلاثة من الهياكل العظمية، لكنهم جميعًا عادوا وكأنهم لم يُهزموا.
"كيف يمكنني قتل شيء لا يموت؟!"
تراجعت أكثر، لكنهم كانوا يزدادون، كأن الأرض تنجبهم بلا توقف. كانت أعدادهم لا تُحصى، وكلما قتلت واحدًا، عاد للحياة.
كنت في وسط كابوس جديد، لكن هذه المرة، لم يكن حلمًا.
حاولت الركض، لكن الرمال كانت تتحرك تحت قدمي، وكأن الصحراء نفسها تحاول الإمساك بي. شعرت بأصابع عظمية تلتف حول كاحلي، نظرت للأسفل، كان هناك يد عظيمة تمسك بي، تحاول سحبي للأسفل.
"تبًا لك!" صرخت، وضربت اليد بسيفي، لكنها لم تتوقف.
ثم، بدأوا في الحديث.
كان صوتهم مشوهًا، كأن آلاف الأصوات تتكلم في آن واحد، بلغة لم أفهمها. لكن كان هناك شيء واحد استطعت تمييزه.
"الدم... الدم... الدم..."
كانوا يطلبون دمي.
شعرت بالغضب يشتعل داخلي، رفعت سيفي، وبدأت أهاجم بجنون، أقطع كل ما أمامي، أضرب بلا توقف. لكن لا فائدة. كانوا يعودون كل مرة، كأنني أقاتل أشباحًا لا تُهزم.
شعرت بأنفاسي تضيق، قواي بدأت تخونني، لا طعام، لا ماء، لا راحة. هل هذه نهايتي؟
لا... لا يمكنني أن أموت هنا.
نظرت حولي، كان هناك منحدر صخري ليس بعيدًا، إذا استطعت الوصول إليه، ربما يمكنني إيجاد مخرج، أو على الأقل موقع يمكنني الدفاع عنه.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم اندفعت نحو المنحدر، الهياكل العظمية تلاحقني، الرمال تتماوج كأنها تحاول ابتلاعي، لكنني لم أتوقف.
كل خطوة كانت تبدو وكأنها الأخيرة، لكنني وصلت أخيرًا إلى الصخور. تسلقت بسرعة، مستخدمًا كل ما تبقى لي من طاقة، حتى أصبحت فوق المنحدر.
نظرت للأسفل، الهياكل العظمية كانت واقفة هناك، تحدق بي بأعينها الفارغة، لكنها لم تصعد. كأنها كانت محاصرة في الرمال.
تنفست بصعوبة، ثم وقعت على الأرض، جسدي كله كان يؤلمني.
كنت حيًا، لكنني لم أشعر بأنني انتصرت.
هذه الصحراء لم تكن مجرد أرض قاحلة.
إنها مقبرة... مقبرة لا تُحصى جثثها، ولا تهدأ أرواحها.
والأسوأ... أنني كنت لا أزال عالقًا فيها.
...
...
وقفتُ على حافة المنحدر، ألهث بصعوبة، أنظر إلى الأسفل حيث ينتهي الجرف الطويل في ظلام حالك. كان النزول مغامرة خطيرة، لكنه كان خياري الوحيد. لم يكن هناك طريق آخر، ولا يمكنني البقاء هنا للأبد.
"عليك أن تنزل."
شددت قبضتي على السيف الأسود، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم بدأت النزول بحذر. الصخور كانت حادة وزلقة، وكل خطوة كانت تحمل خطر السقوط. لم يكن هناك حبل، لم يكن هناك دعم، فقط أنا والمنحدر الطويل الذي يبدو أنه لا نهاية له.
الوقت كان يمر ببطء، والعرق يتصبب من جبيني رغم برودة الليل. بعد نصف ساعة من الجهد الشاق، وصلت أخيرًا إلى الأرض. ساقاي كانتا تؤلمانني، لكن الألم لم يكن مهمًا أمام ما رأيته.
كانت هناك قلعة.
في البداية، لم أصدق عينيّ. ظننت أنني أتخيل بسبب التعب، لكن لا… كانت هناك، تقف أمامي كأنها مخلوق نائم، ينتظر أن يستيقظ.
كانت ضخمة، جدرانها سوداء كأنها مصنوعة من الليل نفسه، أبراجها شاهقة تخترق السماء، ونوافذها كانت مظلمة، كأنها عيون ميتة تحدق بي بصمت.
"اللعنة..."
إنها نفس القلعة التي رأيتها في حلمي.
تقدمتُ ببطء، يداي كانتا متعرقتين، والخوف كان يزحف إلى صدري مثل أفعى باردة. كل خطوة كنت أخطوها كنت أشعر وكأنني أسير نحو قدري المحتوم.
لكن لم يكن لدي خيار.
عندما وصلت إلى البوابة السوداء العملاقة، توقفت. كانت ضخمة، مرعبة، منحوتة عليها رموز غريبة لم أرها من قبل. لكنها لم تكن مغلقة.
بمجرد أن لمستها…
انفتحت بكل سهولة.
هذا… غير طبيعي.
لم يكن هناك صوت صرير، لم تكن هناك مقاومة، وكأن القلعة كانت تنتظرني.
الأمر الأكثر غرابة؟ أنها كانت فارغة.
لا حراس، لا كائنات، لا شيء… فقط صمت ثقيل يملأ الهواء، وكأنه يخفي شيئًا مريعًا خلفه.
"مستحيل..." همست لنفسي، وأنا أدخل ببطء.
الجدران السوداء كانت مرتفعة بشكل غير طبيعي، كأنها تمتد بلا نهاية، والهواء كان باردًا رغم أنني لا أرى أي مصدر للرياح.
أرضية القلعة كانت ملساء بشكل مريب، كأنها لم تُطأ منذ قرون. حتى الغبار لم يكن موجودًا، كأن القلعة نفسها ترفض السماح للزمن بلمسها.
تقدمت أكثر، عيناي تمسحان المكان.
لا أبواب مغلقة، لا أصوات، لا حياة.
لكن كلما تعمقت أكثر، بدأت ألاحظ التفاصيل…
على الجدران، كانت هناك لوحات قديمة، لكنها لم تكن لوحات عادية. كانت تصوّر معارك دموية، مخلوقات غير بشرية، ورجال يرتدون دروعًا سوداء، يمسكون بأسلحة تقطر دماءً.
وفي وسط كل لوحة، كان هناك فارس أسود يحمل سيفًا أسود.
نفس الفارس الذي رأيته في حلمي.
"هذا ليس جيدًا..."
كنت أريد المغادرة، لكن شيئًا ما كان يدفعني إلى الاستمرار.
مررت عبر ممرات طويلة، صامتة بشكل مزعج، حتى وصلت إلى قاعة كبيرة.
كانت هناك طاولات حجرية طويلة، وكأنها قاعة مأدبة، لكن لم يكن هناك طعام. فقط أوانٍ مكسورة، وكراسي مقلوبة، كأن مأساة قديمة حدثت هنا.
وعلى الجدران، كانت هناك علامات مخالب.
شيء ما قد مزق هذه الجدران. شيء ليس بشريًا.
شعرت بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
"ما الذي حدث هنا؟"
واصلت السير حتى وصلت إلى قاعة العرش.
وفي وسطها، كان هناك عرش أسود عملاق.
كان منحوتًا من حجر داكن، كأنه قطعة من الليل نفسه. كان ضخمًا، باردًا، لا يشبه أي شيء رأيته من قبل.
لكن الشيء الذي جعل الدم يتجمد في عروقي…
كان هناك شخص يجلس عليه.
شخص؟ لا… لم يكن إنسانًا.
كان يرتدي درعًا أسود، تمامًا مثل الفارس في حلمي، لكن ملامحه كانت مخفية في الظل. لم يتحرك، لم يتكلم، فقط جلس هناك، وكأنه ينتظرني.
"من أنت؟" سألته، لكن لم يكن هناك رد.
اقتربت خطوة… ثم خطوة أخرى…
وفجأة، ارتفعت الرياح داخل القلعة، رغم أن كل شيء كان ساكنًا. شعرت بالبرد يخترق عظامي، وكأن القلعة كانت تحاول أن تحذرني.
ثم، دون سابق إنذار…
فتح الجالس على العرش عينيه.
كانت سوداء بالكامل، لا بؤبؤ، لا بياض، فقط ظلام مطلق.
وفجأة، كل شيء في القلعة بدأ يهتز، الأرض تحت قدميّ تشققت، واللوحات على الجدران بدأت تشتعل بنيران سوداء.
كنت في المكان الخطأ…
وكنت قد أيقظت شيئًا لا يجب إيقاظه.