شرب كارل الكثير وثمل..وبدأ يشكي ويتمتم بكلمات بعضها مفهوم والآخر لا: كيف قامت شارلوت بفعل ذلك لي؟ وكيف طاوعها قلبها..هل أرادت الإبتعاد عني بهذا القدر؟ كل هاته كانت كلمات مبعثرة تخرج من فمه، يشرب مرة ويتكلم مرة أخرى..حتى قالت جيسيكا أخيراً وبعد صمت دام طويلاً" هل شارلوت التي تتحدث عنها هي نفسها شارلوت غارسيا؟"

***

رفع كارل عينيه بخمول وهز رأسه بإيجاب متعجباً من معرفتها لها، لتتبع هي" إذاً أنت زوج أختها المتوفاة؟" أجاب بنعم في حين إدعائها بأنها لاتعرف عنه شيئاً وأنها دهشت من تلك الصدفة، لكنها لم تتكلم أكثر..بل أرادته أن يسألها هو فتغرز في عقله أشياء وأفكاراً لاوجود لها، وسيبدو الأمر وكأنها لم تشأ إخباره بها لكنه هو من سألها عن ذلك...

-" من أين تعرفينها؟"

أخفضت رأسها مدعية الأسى وقالت" كانت صديقتي منذ الطفولة..قبل أن تقوم بإفساد صداقتنا بسبب.."

ثم صمتت، وذلك زاد من فضول كارل ليعرف المزيد عن شارلوت أو على الأقل مايجهله عنها..فسألها أن تكمل حديثها، وهي قد إستغلت الموقف وحان الوقت لتعبر عن مدى نيتها الصافية وطيبتها المبالغ بها، فقالت:

-" حدث هذا في الماضي..لا أريد أن أخرب صورتها التي حفرت في ذاكرتك، ولا أريد التكلم عنها بسوء إحتراماً للأيام الجميلة التي قضيناها معاً في طفولتنا.."

أصر كارل على إكمالها لحديثها وتخبره بما جرى، فما كان منها إلا أن تدعي الإستسلام وتكمل حديثها" شارلوت فتاة طيبة وأنا لا أنكر ذلك..لكن غيرتها مني أعمتها وأوصلتها لدرجة أنها قد خربت حياتي..مستقبلي، سلبت مني كل شيء...

كنا أفضل صديقات، إلى أن بدأت تغار مني شيئاً فشيئاً وتكيد لي المكائد وراء ظهري..صدقني، لن تتوقع الدرجة التي آذتني بها في حياتي كلها"

وبدأت تقص عليه أحداث وقصص لا وجود لها قط بل كانت تقلب أحياناً قصص المكائد التي كادتهم لشارلوت المسكينة على أنها هي من فعلتهم لتدمير مستقبلها، لم يقتنع كارل بذلك تماماً لكن ماحصل معه اليوم في الشركة جعله يشك..ناهيك عن الغيرة التي تشعل قلبه من الداخل...

-" أتقولين أن شارلوت فعلت كل هذا؟ شارلوت ليست من هذا النوع بل هي لاتفكر مطلقاً قبل أن تتحدث فكيف لها أن تخطط لكل هذا!"

أجابت جيسيكا بنبرة من الجدية" أعلم أنك لن تصدق وأنت حر في ذلك، لكنني قد ذقت الويل منها وأنا أعلم جيداً كم هي بارعة في لبس قناع البراءة والطيبة..أنا عن نفسي لم أكتشف أنها كانت تغار مني سوى في وقت ليس ببعيد، وأنا متأكدة أنها السبب فيما حصل معك اليوم..إنه من شيمها"

رمقها كارل بنظرات مشتعلة وعاد يشرب من الكوب وقد تعكر مزاجه أكثر من ذي قبل...

***

مر الوقت، وثمل كارل حتى أنه دخل في شجار مع صاحب الحانة وآل به المطاف مطروداً منها، والشكر لجيسيكا فلولا إعتذارها المتكرر منهم لقاموا بتحطيمه ورميه للكلاب لينهشوا عظامه...

ساعدته على المشي وأصعدته داخل السيارة، ثم إنطلقت قاصدة منزله لكنه فاجأها بقوله" خذيني لمنزل شارلوت"

-" إنك ثمل كارل كما أن...

قاطعها بصراخه" قلت خذيني إليها! أريد أن أسمع ذلك منها!!"

ولم يكن من جيسيكا سوى أن تدعوا الله أن لاتكون شارلوت في المنزل بل تمنت أن تكون قد ماتت وتتخلص منها للأبد...

بعد دقائق وصلا إلى منزلها..ولم يلبث كارل دقائق حتى باشر يطرق الباب بعنف موشكاً على كسره وهو يشتم ويعاتب شارلوت وينادي بإسمها حتى إلتم عليه الجيران في ذهول، فأسرعت جيسيكا بإعادته للسيارة بعد عناء وإنطلقت مسرعة ولم تسلم هي من شتائمه التي رماها عليها طيلة الطريق، ثم صمت قليلاً وقال" خذيني لمنزل مايسون"

-" منزل من؟"

-"الشارع الرابع على اليمين.."

تنفست الصعداء وإنعطفت نحو المكان المقصود الذي دلها عليه...

***

وهاهما قد وصلا أخيراً، ترجلا من السيارة وأسرع كارل في خطاه ليبدأ دق الباب من جديد وبقوة..يطرق ويطرق، ثم صرخ بغضب" أتتجاهلني الآن مايسون! إفتح لن آكلك!!"

عم الصمت لحظات، ليسمع كل منهما صوت طفل صدر من الداخل مكبوتاً" النجدة.."

إتسعت عينا كارل في عدم إستيعاب ونظر إلى جيسيكا لعلها تكون قد سمعت الصوت أيضاً، فهزت رأسها إيجاباً وقالت" سمعته أيضاً!؟"

فور أن قالتها لم يتردد كارل بركل الباب مراراً وتكراراً بكل قوته إلى أن إنفصل عن الجدار ووقع أرضاً، مشى بخطوات سريعة يجوب أرجاء المنزل وما إن دخل إحدى الغرف حتى رأى رجلاً يقفز عبر النافذة وفرّ هارباً..أسرع كارل خطاه ينظر أين يهرب لكنه إختفى في لمح البصر...

ثم أدار رأسه فإذا به يجد إبنه موزيس جالساً في زاوية الغرفة يبكي، هرع إليه والده يحتضنه ويهدأه ولم يصدق هو الآخر بأنه قد وجده سليماً معافى..وجيسيكا تقف خلفهما تنظر في ذهول مما جرى في لحظات...

ثم أسرعت بجلب كوب ماء للصغير الذي يشهق باكياً على صدر والده..وقد خطرت ببالها فكرة شيطانية لم تخطر على عقل بشر، أسرعت بسحب منديل من حقيبتها وقامت بوضعه بجانب المغسلة في هدوء ثم خرجت مسرعة حاملة كوب الماء...

أجلس كارل إبنه على الأريكة وأخذ يسأله عما حل به والآخر يجيب..وسط إستغراب ودهشة كل من كارل وجيسيكا فقد بدى الأمر إعتناءً أكثر من كونه إختطافاً!

أخبرهم موزيس بأنه وبعد خروجه من مدرسته أمسكه أحدهم وأدخله سيارة، ثم جلبه إلى هذا المنزل وأصبح يعتني به لكنه لايسمح له بالخروج أو رؤية والده...

أمسك كارل رأسه محاولاً مقاومة ذلك الصداع الذي لازمه منذ دخوله مركز الشرطة وحتى الآن، حتى قالت جيسيكا" إتصل بالشرطة كارل"

صمت هو ولم يجبها، فعاودت الكرة من جديد فأجابها معقداً حاجبيه" أتريدين أن أشي بصديقي!؟"

نظرت إليه هي بإستغراب وقالت" صديق؟ صديقك؟؟ أي صديق هذا الذي يختطف إبن رفيقه!؟ أنت حقاً ساذج للغاية وبريئ تسمح لهذا وذاك أن يقوموا بإستغلالك! إستفق كارل!"

ثم سحبت هاتفها وسط نظرات كارل المستسلمة وإتصلت بمركز الشرطة معلنة أنه قد تم العثور على الطفل المفقود...

***

ذهب ثلاثتهم إلى المركز وباشر رجالها بسؤال الطفل عما حل وما رأى، وقد زار عدد منهم مكان الحادث-منزل مايسون-وقاموا بتفتيشه بالكامل بأمر من رئيس القسم، وكان الدليل الوحيد الذي عُثر عليه كان هاتف الرجل الذي هرب والذي تبين لهم بعدها أنه لم يكن مايسون بل ربما كان شريكاً له...

والشيء الوحيد الذي كان يتردد في ذهن كارل آنذاك كان:

(هل كانت شارلوت موافقة على فكرة إختطاف موزيس؟ هل علمت هي بذلك؟)

***

مشى مايسون وسط الطريق شارداً بتلك الليلة الهادئة..بشوارعها الخالية...

يمشي دون وجهة..غارقاً في بحر من اليأس، إلى أن جلس بكرسي على قارعة الطريق، تحت نور مصابيح الشارع البيضاء...

ظل شارداً لوهلة..ثم شعر بأحد يجلس بجانبه، فأدار رأسه مسرعاً ليجده عجوز متشرد، ذو لحية طويلة..فاقدا يده...

تعلقت عينا مايسون بمظهره الذي يوحي على البؤس والفقر أكثر من حالته..لكن ما صدمه كانت الإبتسامة التي علت وجهه بأسنانه المتسخة تلك...

وبعد صمت دام دقائق قال العجوز بينما ينظر إليه" هل أنت بخير؟"

حاول مايسون تجاهله قدر الإمكان..لكنه إستسلم في النهاية وقص عليه ماجرى معه من قلة حيلته..ومن الوحدة التي شعر بها...

فإبتسم العجوز وقال" لابأس عليك..سيمر"

نظر إليه مايسون بطرف عينه وسأله بإستغراب " أخبرني..كيف يمكنك أن تبتسم وأنت تعيش حياة كهاته؟"

ضحك العجوز وأجاب" لو تعلم مامررت به لنسيت همك!" ثم قص عليه الحدث الذي غير حياته هو الآخر...

كان لديه إبن وحيد بعد زوجته التي توفاها المرض، شاب في ريعان شبابه يعمل في الجيش..وكان هو من يرسل المال لوالده يعينه على أمور العيش...

فحدث وأن أغضب قائده الجنرال..وكان الشاب عنيداً متمسكاً برأيه، فما كان من قائده إلا أن أمر برميه في زنزانه ليتعرض لتعذيب كان سببه إنتقام الجنرال منه على إعتراض أوامره، لكنهم بالغوا في الأمر..ومات الشاب عن طريق الخطأ...

ومجدداً..تم تبرءة المجرمين لإمتلاكهم السلطة ودفنت الحقائق اللعينة...

ومنذ تلك الحادثة، تم طرد العجوز من مسكنه كونه لايملك نفقة لدفع الإيجار، ولايمكنه العمل بسبب مرضه، ووقع ضحية بعض السكارى فقاموا بقطع يده وتشويه وجهه أكثر مما كان عليه...

سأله مايسون" كيف لك أن تظل مبتسماً بالرغم من أنك تحمل كل هذا الألم!؟"

أجابه العجوز" الأمر بسيط..أقنعت نفسي أن هذا الألم الذي أشعر به وأعيشه لايختلف عن السعادة، فأخذت أستمتع بالآلام التي تحيط بي كما يستمتع الأشخاص بالسعادة التي تحيط بهم"

ثم ضحك بصوت عالٍ مهزوز وحمل نفسه وغادر، تاركاً مايسون في دهشة وحيرة من جنون ذلك الرجل..ومن كلماته التي هزت كيانه...

في الغد وقعت عيناه على عنوان جريدة..وقد وُضِعت صورة ذلك المتشرد على صفحتها الأولى...

كما ورد في المقال أن العجوز قد جلس أمام قارعة الطريق بالقرب من التكنة العسكرية، وما إن خرج الجنرال جارفيس لوبيز قام بطعنه تحديداً في منطقة القلب مؤدياً لوفاته، وكما كتب أيضاً فوق صورته مباشرة أنه ضحك حين ألقت الشرطة القبض عليه وقال:

*أفضل شيء فعلته في حياته كان هذا، لست نادماً..بل أنا سعيد حقاً الآن*

كما أرهبت تلك الكلمات من قرأو الجريدة..كانت تلك دفعة لمايسون يتحول بها لقاتل متسلسل يقوم بقتل كل من لديه عائلة سعيدة قد بناها بمعاناة الآخرين وبسلب حريتهم ومستقبلهم ولأحبائهم...

ثم إستيقظ فزعاً وحبات العرق على جبينه تتساقط في هدوء، يلهث بإستمرار وكأنه كان في سباق أولمبي...

نظر لشارلوت بخمول..وبدأ يفكر...

***

مايسون

كانت الشمس قد غربت وبدأ الظلام يحل، وأنا مازلت جالساً أنظر للتلفاز أنظر إليه دون تركيز، في حين كانت شارلوت جالسة في زاوية الغرفة تحاول مقاومة النعاس الذي يتملكها..وأراهن على أنها تنتظر مجيئ جدتها بفارغ الصبر كي لاتبقى لوحدها معي...

حسناً ذلك لا يهم، مايهم الآن حقاً هو مايتوجب علي فعله بها الآن..أعلم أنه يتوجب علي قتلها..لكن هناك أشياء تمنعني من فعلها...

نظرت إليها بطرف عيني، فوجدتها نائمة على وضعيتها..جالسة مرخية عضلات جسدها في إسترخاء لكنها بدت وضعية غير مريحة أبداً...

وقفت في هدوء وأمسكت شمعدان نحاسي تراثي كان موجوداً أعلى المنضدة ومشيت نحوها ببطئ عازماً على ضربها به وقتلها عبر تحطيم جمجمتها، ما إن رفعت يدي عالياً مستعداً لتوجيه ضربتي الأولى أمالت رأسها قليلاً لينسدل شعرها الحريري على كتفيها وبضع خصلات منه على وجهها...

حدقت في ملامحها قليلاً وقلت في نفسي.. (ما الذي أفعله؟ قامت بفعل كل ما أمرتها به وضمدت لي جراحي..الأسباب التي تمنعني من قتلها تفوق سببي الرئيسي لتحقيق إنتقامي، لكن هدفي أهم من كل هذا..)

رحت أتصارع داخل نفسي في ما أريد فعله وما لايجب فعله..ثم زفرت بضيق وإنزعاج ومشيت نحو المنضدة، وضعت الشمعدان مكانه وأمسكت هاتفها والذي أخذته منها سابقاً وإتصلت بتابعي الذي يقوم بحماية موزيس في غيابي، وقد إتخذت قراري بأنني سأحتجزها لحين إنتهاء مهمتي..وبعدها لن يهمني إن وشت بي...

أما الآن، فلن أدع شخصاً مثلها يقف في طريقي لتحقيق إنتقامي!

دونت الرقم وضغطت زر الإتصال، وهاهو بدأ الهاتف يرن ويرن، ثم وأخيراً رفع تابعي الخط..تكلمنا وأخبرته بأنني أحتاجه ليقوم بإحتجاز شخص آخر من أجلي وقد وافق...

ثم تذكرت جدتها، بالتأكيد ستود تفسيراً لإختفاء حفيدتها المفاجئ..ثم وبعد تفكير دام طويلاً قررت بأنني سأقوم بقتلها ودفنها في مزرعتها وأنهي هذه المسألة...

أخبرني تابعي أنه سيتصل بي حالما يكون شاغراً..أي بعد دقائق، فجلست أنتظر إتصاله بفارغ الصبر أحدق في التلفاز تارة وفي شارلوت تارة أخرى...

لكن وسبب ما لم يهدئ بالي عن التفكير، شعرت بأن هناك شيئاً خاطئاً..هناك حلقة في الوسط مفقودة..لكنني لا أتمكن من إيجادها، هل إرتكبت خطئاً؟ أم أنني مرهق وحسب وبحاجة لبعض الراحة...

بدأت جفوني ترتخي شيئاً شيئاً وغرقت في نومٍ كانت نتيجته كابوساً مختلطاً مع ذكرياتي...

إستيقظت فزعاً ألتفت في أرجاء الغرفة، نظرت لشارلوت بطرف عيني في خمول..أفكر في ذلك الكابوس المزعج...

حينها سمعت صوتاً بدى مألوفاً..صوت صفارات معروفة..ثم إتسعت عيناي وإنتفضت مكاني حين علمت أن تلك الأصوات تعود لسيارات الشرطة التي أحاطت بالمنزل من كل جانب في وقت قياسي...

(كيف عثروا علي!!)

ركضت إلى شارلوت..سحبتها نحوي بطريقة جعلتها تفز من نومها العميق، وأمسكت مسدسي ووضعته على عنقها..ثم دفعتها نحو الخارج وسط إرتجافها المستمر الذي يزعجني أغلب الوقت، وبينما يقول الشرطة عبارتهم المعتادة بمكبرات الصوت" إستسلم وأخرج" كنت أنا ممسكاً شارلوت كرهينة أهددهم بحياتها...

-" أخفضوا أسلحتكم إن كنتم تريدونها أن تعيش!"

وسط أضواء السيارات التي تعمي العيون..وبين حشد من رجال الشرطة، قال أحدهم وقد بدى ذو مرتبة عليا في مجاله:

-" تستخدمها كرهينة..أوليست شريكة لك!"

قضبت حاجباي بإستفهام..ثم إتسعت عيناي بعد أن إستوعبت معنى جملته تلك...

(يظنون بأنها شريكة لي في جرائمي!؟)

يتبع...

رأيكم؟ لسا الحماس جاااي😉

شكراً على القراءة..أنرتم 💙 ✥ بقلم إيمان إيدا

2020/04/03 · 244 مشاهدة · 1842 كلمة
47ImaneEdda
نادي الروايات - 2025